صلى الله عليه وسلم
تعلن إسلامها بين يديه، فبعث إليها رجالا من أصحابه يفقهون الناس في دينهم ويقبضون منهم الصدقات، كان هؤلاء الرجال طليعة الانتقال الذي تطورت إليه العرب رويدا رويدا، فلما كانت الردة أبلى هؤلاء الرجال كما أبلى غيرهم في القضاء عليها أحسن البلاء، فجعلوا للمدينة بذلك من حق الفتح ما لم يستطع أحد من العرب إنكاره، وزاد ذلك في سلطان العمال والولاة الذين عينهم أبو بكر، فلم يبق هذا السلطان مقصورا على تفقيه الناس في دينهم وتسلم الصدقات منهم، بل صار لهم في البلاد التي تولوا أمرها ما لشيخ القبيلة أو أمير المدينة من حق؛ فاجتمع في أيديهم سلطان التنفيذ والقضاء وإمارات الجند، مع مسئوليتهم الكاملة أمام الخليفة عن تصرفاتهم في ذلك كله.
1
آل الأمر إلى عمر بعد أن صدقت عودة العرب كلهم إلى إسلامهم؛ فلم يبق مسوغ للحذر منهم والخوف من انتقاضهم، وكيف يخشاهم عمال الخليفة وقد سار أبطالهم من كل القبائل إلى ميادين الجهاد في سبيل الله يقاتلون ويقتلون! لذا رأى عمر أن يزيد وحدتهم متانة، فأمر عماله عليهم أن يكونوا على مثاله حزما وعدلا وبرا ورحمة، وأن يسووا بين العرب في المعاملة على اختلاف منازلهم من شبه الجزيرة.
ولهذا الغرض أصدر وصاياه لعماله بما قدمنا، فهو لم يكن يبعثهم إلى العرب ليذلوهم، بل ليقيموا بينهم حدود الله بالعدل والقسط، وذلك قوله لهم: «اجعلوا الناس عندكم سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب! فقوموا بالحق ولو ساعة من النهار.» ولقد كان يرى نفسه مسئولا أمام ضميره وأمام الله عن إقامة هذا العدل في كل مكان، فإذا ظلم عامله في أقصى الأرض رجلا فكأنما هو الذي ظلمه، قال يوما لمن حوله: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت الذي علي؟» قالوا: نعم! قال: «لا! حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته به أم لا.» وكان لذلك شديد الحساب لهؤلاء العمال شدة رأينا مظاهرها في عزل خالد بن الوليد، ومقاسمة عمرو بن العاص، والروايات تثبت من هذه الشدة في المحاسبة قصصا لا يكاد الإنسان يصدقها، قيل: إن أبا عبيدة كان يوسع بالشام على عياله، فلما بلغ عمر ذلك نقصه من عطائه حتى شحب لونه وتغيرت ثيابه وساء حاله، فلما عرف عمر ما صار إليه أمره قال: «يرحم الله أبا عبيدة! ما أعف وأصبر!» ورد عليه ما كان حبسه عنه، وبلغ من شدة عمر في محاسبة عماله أن كان يعزل أحدهم أحيانا لشبهة لا يقطع بها دليل، وقد يعزل لريبة لا تبلغ حد الشبهة، ولقد سئل في ذلك يوما فقال: «هان شيء أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
وقد رأيناه غير مرة عزل عمالا عن عملهم لغير ريبة فيهم، بل التماسا لمصلحة يراها في عزلهم، من ذلك أنه عزل سعد بن أبي وقاص عن إمارة الكوفة لغير شيء إلا أن طائفة من أهل هذه المدينة ثاروا به وقالوا لعمر: إنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، وقد بعث عمر محمد بن مسلمة إلى الكوفة، فرأى الناس جميعا راضين عن سعد مع ذلك عزله خوف الفتنة؛ لأن جيوش الفرس كانت تتجمع للغزو والثأر.
وكان عمر يجمع عماله بمكة في موسم الحج من كل عام، يسألهم عن أعمالهم، ويسأل الناس عنهم، ليرى مبلغ دقتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزههم حين أدائه عن الإفادة لأنفسهم أو لذويهم؛ فقد كانت النزاهة مقدمة عنده على كل شيء، ولذلك كان يحصي أموال الولاة قبل ولايتهم، فإذا زادت بعدها زيادة تضع نزاهتهم موضع الشبهة، قاسمهم مالهم، وقد يستولي على كل زيادة فيه، ثم يقول لهم: نحن إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا.
على أن هذه الشدة في محاسبة الولاة لم يكن يقصد منها إلى إضعاف سلطتهم أو تهوين هيبتهم؛ فقد كانت أيديهم مطلقة، وأحكامهم نافذة، وسلطانهم مساويا لسلطان عمر ما عزموا العدل ولزموه، فإذا اعتدى عليهم مع ذلك معتد ، أو استهان بأمرهم مستهين عوقب أشد العقاب، حصب أهل العراق إمامهم استهانة بأمره، وكانوا قد حصبوا إماما قبله؛ فغضب عمر وقال لأهل الشام: «تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ.» ثم إنه كان يسمع لحجة عامله، فإذا أقنعته لم يخف اقتناعه بها وثناءه على عامله بعدها، قدم الشام راكبا حمارا، فتلقاه معاوية بن أبي سفيان في موكب عظيم؛ ونزل معاوية وسلم على عمر بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! فالتفت عمر إلى معاوية وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية: نعم! قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟! قال معاوية: نعم، قال: ولم! ويحك! وأجابه معاوية: «لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو؛ فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإن استنقصتني نقصت وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت.» قال عمر بعد أن سكت هنيهة: «ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه! إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك!»
وكان عمر يشتد اغتباطه حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك أعظم الثناء. ولى عمير بن سعد على حمص ثم كتب إليه: «أقبل بما جبيت من فيء المسلمين.» فلما أقبل سأله عما صنع فقال: «بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به.» قال عمر: «فما جئتنا بشيء.» فلما أكد له أن أنفق كل شيء على أهل حمص قال: «جددوا لعمير عهدا.»
وعمير هذا هو الذي قال وهو على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف أو ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.» ليس عجبا وهذه الكلمة الحكيمة سنته أن يقول عمر فيه: «وددت لو أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين.»
Неизвестная страница