193

كان عدل عمر ولا يزال مضرب المثل، ذلك أنه كان أشد عباد الله خشية لله ووجلا من حسابه، وكان يدرك ما يقتضيه الحكم بين الناس من أناة ودقة ومحاسبة نفس فإذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: «اللهم أعني عليهما؛ فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني.» ولم يكن به على أهله في إقامة العدل رأفة، بل كان إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: «لا أعلمن أحدا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة.» كان عبد الرحمن ابنه بمصر، فشرب هو وأبو سروعة فسكرا، فذهبا إلى عمرو بن العاص ليقيم الحد عليهما، قال عمرو: فزجرتهما وطردتهما، فقال عبد الرحمن: إن لم تفعله أخبرت أبي إذا قدمت عليه، فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب علي وعزلني، فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد، ودخل عبد الرحمن بن عمر إلى ناحية الدار فحلق رأسه، ووالله ما كتبت لعمر بحرف مما كان حتى جاءني كتابه فإذا فيه:

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، عجبت لك يا بن العاصي وجرأتك علي وخلافك عهدي، فما أراني إلا عازلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنعه بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين! وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع.

فبعثت به كما قال أبوه، وكتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه أني ضربته في صحن داري، وبالله الذي لا يحلف بأعظم منه إني لأقيم الحدود في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت الكتاب مع عبد الله بن عمر، فقدم بعبد الرحمن على أبيه، فدخل وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من سوء مركبه، فقال: يا عبد الرحمن فعلت وفعلت! فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد، فلم يلتفت إليه وجعل عبد الرحمن بن عمر يصيح: إنني مريض وأنت قاتلي! وتجري الرواية بأنه مع ذلك أقام عليه الحد ثانية، فضربه وحبسه فمرض ثم مات.

وكان لا يفرق في عدله بين أمير وسوقة، ولا بين وال ورعية، سقنا من قبل قصة الأمير الغساني جبلة بن الأيهم، وكيف أراد عمر أن يقتص منه للأعرابي الذي ضربه. وضرب محمد بن عمرو بن العاص مصريا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصري مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت الرجل من محبسه ذهب إلى المدينة وشكا لعمر ما أصابه، فاستبقاه عنده واستقدم عمرا وابنه من مصر، ودعاهما إلى مجلس القصاص؛ فلما مثلا فيه نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين! وضرب المصري محمدا حتى أثخنه وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! فلما فرغ الرجل وأراد أن يرد الدرة إلى أمير المؤمنين قال له «أحلها على صلعة عمرو ، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه!» قال عمرو: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، فقال عمر: إنك والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمرو مغضبا وقال: «أيا عمرو! متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!»

ليس من غرضي أن أفصل ها هنا قضاء عمر، فليس هذا الفصل موضع تفصيله؛ وإنما أردت بما قدمت أن أشير إلى شدته في العدل ودقته في إقامته، ومساواته بين الناس فيه مساواة عبر هو عنها بقوله: «لا أبالي إذا اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق.» وترجع شدته على ذويه وعلى عماله وذويهم إلى اقتناعه بأنه لا سبيل إلى كفالة الحرية والعزة والكرامة للأمة إلا أن يسوي العدل بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والأمير والسوقة، والولاة أجسم من المحكومين تبعة؛ لأن الحكم يغريهم بالبطش إذا لم يجدوا من يردعهم عنه.» وذلك قوله: «إن الناس لا يزالون مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم.» وقوله: «الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا.» وهو لذلك كان يرى مكان عماله منه مكان الرعية من عماله؛ هو مسئول عنهم كما أن العامل مسئول عمن تولى عليهم، فإذا ظلم العمال الرعية وجب أن يقتص منهم كما يقتص من أي فرد في المدينة ظلم غيره، وقد عبر عن شعوره بهذه التبعة بقوله: «أي عامل ظلم أحدا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته.»

كملت لعمر صفات الزهد والرأفة والعدل والبر بالفقير والمحروم، فحببت إلى الناس حكمه، وهونت عليهم ما كان فيه من شدة وغلظة، وما كان له من هيبة تصد عنه كثيرين، فلولاها لرفعوا إليه حوائجهم فقضاها لهم، وشدته هي التي جعلته يحمل الدرة يؤدب بها من يخرجون عن المألوف من أدب الجماعة، لا يفرق فيمن يصيبه بها من هؤلاء بين كبير وصغير، وزاد حمله الدرة في هيبة الناس له وخوفهم منه مع إيمانهم ببره وعدله ورحمته، اجتمع علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان عبد الرحمن أجرأهم على عمر، فقال له إخوانه: يا عبد الرحمن! لو كلمت أمير المؤمنين للناس، فإنه يأتي الرجل طالبا الحاجة فتمنعه هيبته أن يكلمه حتى يرجع ولم يقض حاجته، ودخل عبد الرحمن على عمر فقال له: «يا أمير المؤمنين! لن للناس؛ فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك.» قال عمر: «يا عبد الرحمن أنشدك الله، أعلي وعثمان وطلحة والزبير وسعد أمروك بهذا؟» قال ابن عوف: اللهم نعم! فأردف عمر: «يا عبد الرحمن، لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟!» فخرج عبد الرحمن يبكي ويقول: أف لهم من بعدك! أف لهم من بعدك!

هذه أمثلة تصور لك كيف نهض عمر بتبعات الحكم، وتكشف لك عن السر في قدرته الممتازة على الاضطلاع بأعبائه الجسام على نحو لا يزال مثارا لعجب الناس وإعجابهم، كما تبين لك كيف كان نظام الحكم في عهد عمر من الأسباب التي هيأت لامتداد الفتح ودفعت المسلمين إليه ورغبتهم فيه، لقد كانوا يرون أمير المؤمنين خير كفيل بحقوقهم وبمن يخلفون وراءهم من عيالهم، وكانوا يرونه يؤثر على نفسه وأهله، ويؤدي لكل ذي حق حقه، فلا جرم إنهم ليندفعون إلى ميادين القتال وكلهم الطمأنينة إلى غدهم وإلى مصير أبنائهم وذويهم، وما ضر أحدهم أن يقتل في سبيل الله وفي سبيل الإمبراطورية الإسلامية، وهو على يقين من أن بنيه سيحزون إذا استشهد بخير مما يجزون إذا ظل حيا، وأنه ستنفتح له أبواب الجنة بما وهب لله نفسه مجاهدا في سبيله!

يثبت المؤرخون الغربيون لعمر هذه الصفات ويشيدون بها، ثم يذهب بعضهم إلى أنها إن صورت نظاما للحكم فهو النظام العربي المعروف في ذلك العهد، والذي يشبه كل الشبه نظام القبائل؛ إذ يتولى أمرها أكثر رجالها قدرة على التسلط عليها بقوته في الذود عن حماها، أو بحزمه في إدارة شئونها، أو بدهائه وحسن رأيه في توطيد صلاتها بغيرها من القبائل، فقد كان هذا الشيخ يجمع في يديه السلطات كلها على نحو ما كان يجمعها عمر في يديه، وكان يتخذ من العرف المألوف شرعته، يقضي على أساسه بالقصاص أو بالدية بين رجال قبيلته، ويقضي بأيهما إذا رفع له الأمر مجني عليه أو ولي دم من قبيلة أخرى يطلب الحق ممن اعتدى عليه أو على من كان هو ولي دمه، من قبيلة هذا الشيخ، وهؤلاء المؤرخون يذكرون أن القرآن نظم هذا العرف المألوف عند العرب وهذبه، ولكنه لم يخرج بالعرب على نظامهم الذي جروا عليه من قبل، فحكومة عمر وحكومة أبي بكر من قبله إنما قامتا على أساس من هذا النظام العربي لم تتعديا قواعده، فكانتا أدنى إلى نظام البداوة منهما إلى نظام الحضر الذي عرفه الفرس والروم في ذلك الزمان.

ولا ريب أن حكومة أبي بكر كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بنظم الروم ولا بنظم الفرس، وكانت لذلك بسيطة بساطة النظام البدوي المعروف يومئذ في كثير من أرجاء شبه الجزيرة، لكنها مع هذه البساطة كانت الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، وكانت الطور الطبيعي لنظام بدأ يتغير في عهد الرسول، فقد كانت يثرب يوم نزلها رسول الله تتألف كغيرها من بلاد العرب من قبائل لا تعترف أيتها بسلطان لغيرها عليها، وكانت الحرب لذلك تقوم بين الأوس والخزرج تارة، وبين العرب واليهود من أهل يثرب تارة أخرى، ثم لا تجمع كلمه هؤلاء وأولئك إلا إذا دهمهم خطر من الخارج، فلما استقر رسول الله بالمدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار، ثم أجلى اليهود عنها، زال ما كان بين قبائلها وبطونها من فوارق، فاجتمعت كلمتها وأصبحت وحدة مدنية شريعتها القرآن، وولي أمرها رسول الله، وقد كان هذا تطورا في نظام الحكم لم يألفه أهل الحجاز، لكنه لم يلبث بعد فتح مكة أن انتقل من المدينة إلى أم القرى ثم انتقل منهما إلى الطائف بعد غزاة حنين.

ولما أرسلت المدن والقبائل وفودها إلى المدينة قبل عام من وفاة رسول الله

Неизвестная страница