وارتحل المغيرة ومتهموه حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم، فشهد ثلاثة شهادة كاملة، وشهد الرابع بما يؤيد أقوالهم، ولكنه أجاب بأنه لم يعرف المرأة ولم ير الفعل، فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد، قال المغيرة موجها القول إلى أمير المؤمنين: «اشفني من الأعبد.» يريد بذلك أن يرد إلى البصرة، لكن عمر نظر إليه شزرا وقال: «اسكت! أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك!» وكذلك ظل أبو موسى على ولايته البصرة.
رأى أهل الأهواز هذا التغيير في ولاة البصرة، فخيل إليهم أنه سيجر إلى اضطراب يثير المسلمين بعضهم ببعض ويمكنهم من الثورة بهم، أليسوا قد ألفوا مثل ذلك في بلاط كسرى! ألم يروا صلات أشرافهم وأمرائهم يكتنفها جو من الدسائس يجعل كل أمير يثور بخصومه ما أمكنته الفرصة! لذلك نقضوا عهدهم وأبوا أداء الجزية التي صالحوا المغيرة عليها، وزاد في تشجيعهم على الثورة بالمسلمين أن العلاء بن الحضرمي أمير البحرين اجتاز الخليج الفارسي بالجند في السفن لغزو المنطقة المقابلة له، منطقة فارس، ونزل بجنوده فسار قاصدا إصطخر العاصمة العظيمة بعد ما تغلب على من لقيه من جنود الفرس، لكنه نسي أن يحمي ظهره، فقطع الفرس عليه خط رجعته إلى السفن، وكان العلاء قد اندفع إلى هذه المغامرة من غير أن يستأذن أمير المؤمنين، مع ما يعرفه من كراهية عمر ركوب البحر، وإنما فعل ذلك ؛ لأنه نفس على سعد بن أبي وقاص أن يفتح المدائن، فأراد هو أن ينافسه فيفتح إصطخر فيكون له مثل فخاره، فلما أخفق وأحيط به استغاث، فأمر عمر حامياته بالبصرة والكوفة فأنقذوه وأنقذوا من معه، وعزل عمر العلاء عن البحرين وجزاه عن مغامرته بأن جعله مرءوسا لسعد بن أبي وقاص بالعراق.
شجعت هذه العوامل الفرس على الثورة بالمسلمين، فأبوا أداء الجزية التي كانوا قد ارتضوها، فلم يكن بد من مناجزتهم، حتى لا يغريهم سكوت المسلمين عنهم بالإمعان في الثورة، والتفكير في المقاومة، والاسترسال من ذلك إلى اجتياز التخوم وانتهاك حرمة العراق العربي؛ لذلك جمع أبو موسى قواته ودفعها إلى مدينة الأهواز، ففتحها بعد أن كانت قد فتحت مناذر ونهر تيري.
من هم أمراء الجند الذين تولوا قيادة المسلمين في هذا الغزو؟ ومن الذين واجهوهم من قواد الفرس وقاتلوهم فانهزموا أمامهم؟ وكيف كانت مسيرة الجيوش؟ وماذا كانت خطة القتال؟ تختلف الروايات على إجمال ذلك وتفصيله اختلافا كبيرا، على أنها تنتهي جميعا إلى أن المسلمين اجتازوا تخوم خوزستان، وساروا في أرضها وحصروا الأهواز وفتحوها؛ وأن الفرس طلبوا الصلح بعد فتح الأهواز فأجابهم المسلمون إليه على أن يظل ما فتحوه من أرض خوزستان في حوزتهم وسلطانهم، وأن يقر الفرس في بلادهم ولا يتخطوها.
والروايات على اختلافها تتفق في تأييد المعروف من سياسة عمر وحرصه على أن يقف بالفتح في حدود العراق العربي، كما أنها تقص من التفاصيل ما يكشف عن جانب له قيمته في هذا المعنى، لذلك يجمل بنا أن نلخص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها.
يطيل الطبري الحديث عن فتح مناذر ونهر تيري، وعن موقف الهرمزان من المسلمين، وخلاصة روايته أن الهرمزان فر من القادسية إلى الأهواز، وجعل يغير بأهلها على ميسان ودست ميسان المجاورتين للعراق العربي متجها إليهما من وجهين هما مناذر ونهر تيري، وقد استمد عتبة بن غزوان سعد بن أبي وقاص لقتاله فأمده، فوجه سلمى بن القين وحرملة بن ربطة فنزلا على حدود ميسان ودست ميسان واستمدا غالبا وكليبا، من أبناء عمومتهم من العرب الذين استوطنوا الأهواز، ودفعوهم للقاء الهرمزان، واتحد هؤلاء العرب من أبناء العم، فلقوا الفرس وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأخذوا مناذر ونهر تيري، وبلغوا دجيلا واجتازوه إلى سوق الأهواز، وعرف الهرمزان ما أصاب قومه، فطلب إلى المسلمين الصلح فأجيب إليه على ألا يجلو المسلمين عما فتحوا من أرض خوزستان.
ثم حدث أن اختلف الهرمزان مع غالب وكليب على تخوم ما بينهما من البلاد، ولم ينزل على حكم سلمى وحرملة، بل استعان بالأكراد حتى كثف جنده، ونقض ما بينه وبين المسلمين من عهد، وأحيط عمر علما بما حدث فأمر حرقوص بن زهير السعدي الصحابي على الجند الذي نهد لقتال الهرمزان، فأجلاه عن الأهواز، واضطره أن يفر مشرقا إلى رامهرمز، ثم أمر حرقوص جزء بن معاوية بمطاردته، فلما رأى الهرمزان أن لا قبل له بقتال المسلمين طلب الصلح كرة أخرى، فأذن عمر بإجابته إليه، وكتب إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه، وأذن لجزء عمارة البلاد، فشق الأنهار وعمر الموات.
هذه خلاصة وجيزة لرواية ابن جرير، وقد أخذ ابن الأثير في تاريخه الكامل بهذه الرواية، أما ابن كثير فقد أوجز في تلخيصها، فلم يزد على القول بأن المسلمين نصروا على الهرمزان وفتحوا مناذر والأهواز ونهر تيري، وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وسلبوا ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تستر، وابن خلدون أكثر إيجازا، ولعل ما بين رواية ابن جرير ورواية البلاذري من خلاف هو الذي دعاهم إلى هذا الإيجاز.
وخلاصة رواية البلاذري أن المغيرة بن شعبة غزا سوق الأهواز بعد أن هزم البيرواز وصالحه على مال، فلما ولي أبو موسى البصرة مكان المغيرة نكث البيرواز، فغزاه أبو موسى ففتح الأهواز، وأصاب المسلمون من الفرس سبيا كثيرا، لكن عمر كتب إليهم: «إنه لا طاقة لكم بعمارة الأرض، فخلوا ما في أيديكم من السبي، واجعلوا عليهم الخراج.» فردوا السبي ولم يملكوهم، وسار أبو موسى من بعد إلى مناذر فحاصر أهلها فاشتد قتالهم، واستشهد المهاجر بن زياد في حربهم ، فجزوا رأسه ونصبوه بين شرفتين من شرفات قصرهم، وتولى الربيع أخو المهاجر إمارة المقاتلة، ففتح مناذر عنوة بعد أن قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكتب عمر إلى أبي موسى: «إن مناذر كقرية من قرى السواد، فردوا عليهم ما أصبتم.»
أنت ترى أن اختلاف الروايات لا يقتصر على أسماء الذين قاموا بهذه الغزوات وكيف قاموا بها، بل يتجاوز ذلك إلى تعاقبها التاريخي، والخلاف على تعيين بدئها ليس بأقل من الخلاف على أمراء الجند فيها؛ فقد قيل: إنها بدأت في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وقيل: في السنة السادسة عشرة، وقيل: في السنة السابعة عشرة، وقيل: في السنة التاسعة عشرة، وقيل: في السنة المتممة العشرين، وأكبر الظن أنها بدأت في أواخر السنة الخامسة عشرة، وأن ما كان ينقضي بين كل صلح ونقضه جعلها تستطيل على الزمان كل هذه السنوات.
Неизвестная страница