حكمة ما أعظمها وما أجلها لذاتها! وهي أكثر عظمة وجلالا إذ تصدر من رجل اجتمع له يومئذ من ملك كسرى وملك قيصر ما كان المسلمون يفاخرون به فارس والروم والعالم كله، اجتمع له العراق والشام وما فيهما من خير ونعمة، وقد كان عمر قديرا يومئذ أن يجمع من ترف الفرس ونعيم الروم ما شاء، لكنه كان يرى النعيم تعلقا بالدنيا، والترف مضلة لصاحبه، فسما عليهما ابتغاء الآخرة وابتغاء وجه الله ورضاه، وكان يرى أنه، وهو أمير المؤمنين، لا يمكن أن يعنيه شأن الرعية إذا لم يشعر بما يشعر به أكثرهم فقرا وإملاقا، ليسارع إلى القضاء على الفقر وعلى الإملاق، رآه الناس عام الرمادة وقد اسود لونه وكان أبيض مشربا بحمرة ؛ ذلك أنه كان يأكل السمن واللبن واللحم، فلما أمحل الناس حرمها على نفسه وأكل بالزيت، وأكثر من الجوع، حتى كان الناس يقولون وقد رأوا ما أصابه: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين.
والواقع أنه اهتم بأمرهم وبذل في سبيلهم كل جهده، كتب إلى عماله في العراق والشام يستنجدهم لغياث أهلهم في شبه الجزيرة، وكانت عباراته إلى هؤلاء العمال صادرة من قلبه، تشهد بسمو تقديره لتبعته، وعظيم شعوره بأنه مسئول أمام الله وأمام ضميره عن كل فرد من رعيته، كتب إلى عمرو بن العاص بفلسطين يقول: «سلام عليك! أما بعد، أفتراني هالكا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك! فيا غوثاه! يا غوثاه يا غوثاه!» وأجابه عمرو: «أما بعد، فلبث، لأبعثن إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي.» وبعث عمر بمثل هذا الكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان وأبي عبيدة بن الجراح بالشام، وإلى سعد بن أبي وقاص بالعراق، فأجابوه جميعا بنحو مما أجاب به عمرو بن العاص.
وكان أبو عبيدة بن الجراح أسرع الأمراء استجابة لنداء عمر وغياثا لأهل شبه الجزيرة؛ سبقهم جميعا فقدم في أربعة آلاف راحلة محملة طعاما، فولاه عمر قسمته فيمن حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم؛ فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين! إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علي الدنيا! لكن عمر أجابه: خذها فلا بأس بذلك إذا لم تطلبها، وإني قد وليت لرسول الله مثل هذا فأعطاني بعد أن قلت له مثل ما قلت لي، وقبض أبو عبيدة المال وانصرف إلى عمله.
وبعث عمرو بن العاص الطعام من فلسطين على الإبل وفي السفن من ثغر أيلة،
1
بعث في البحر عشرين سفينة تحمل الدقيق والودك، وبعث في البر ألف بعير تحمل الدقيق، وبعث معاوية بن أبي سفيان ثلاثة آلاف بعير من الشام، وبعث سعد بن أبي وقاص ألف بعير تحمل كلها الدقيق، هذا خلا خمسة آلاف كساء أرسلها عمرو، وثلاثة آلاف عباءة أرسلها معاوية.
وولى عمر من يطعم الناس ويكسوهم في أمصار المملكة وباديتها، وتولى هو بنفسه إطعام أهل المدينة ومن اجتمع إليهم من العرب، وانصرف رسله إلى أرجاء شبه الجزيرة يخففون عن الناس بلواهم، فلقي الموكلون بالتوزيع ما بعث به سعد بن أبي وقاص من الأقوات عند أفواه العراق، فأقاموا ينحرون للناس الجزر ويطعمونهم الدقيق ويلبسونهم العباء حتى رفع الله البلاء، وكذلك فعل الرسل ما بين مكة والمدينة، وقال عمر لرسوله الذي بعثه يلقى عير الشام: «أما ما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية، فأما الظروف فاجعلها لحفا يلبسونها، وأما الإبل فانحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتى يأتي أمر الله بالفرج.»
تولى عمر إطعام أهل المدينة ومن اجتمع إليها، فكان يأدم الخبز بالزيت يجعله ثريدا، وينحر بين الأيام الجزور فيجعلها على الثريد، ويأكل مع القوم مما يأكلون، فلما أقبلت الإبل من العراق والشام كان ينحر على مائدته كل يوم عشرين جزورا يطعمها الناس، وكان له عيون يجتمعون عنده إذا أمسوا فيخبرونه بكل ما رأوه يومهم، وأمر ليلة بعد أن فرغ الناس من العشاء بإحصاء الذين طعموا على موائده فكانوا سبعة آلاف رجل، وأحصيت العيالات التي لم تأت والمرضى والصبيان فكانوا أربعين ألفا، وزاد هؤلاء وأولئك بعد أيام فكان الذين تعشوا عنده عشرة آلاف والآخرون خمسين ألفا، وكان العمال يقدمون في السحر إلى قدور عمر فيعملون حتى يصبحوا، ثم توزع العصيدة ويوزع اللحم على المرضى والصبيان والعيالات ممن لا ينالون طعامهم على موائد أمير المؤمنين، وكان عمر يتعهد هؤلاء جميعا بنفسه ليطمئن إلى أنهم حصلوا على ما يدفع عنهم غائلة الجوع، وكان يرسل الدقيق والتمر والأدم إلى منازل القادرين على تهيئتها لغذائهم شهرا بشهر، يوزع ذلك عليهم في نظام يشبه نظام «البطاقات» أيام الحرب في عهدنا الحاضر، يزيد فيه وينقص منه على قدر ما عنده، وكان لذلك يقول: «لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسموهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بالحيا فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم.»
2
مع هذه العناية من عمر بالعرب جميعا فشا المرض في الناس، وهلك منهم كثيرون، فكان يتعهد المرضى، ويبعث بالأكفان لمن مات ويصلي عليهم، وقد استطاع خلال الأشهر التسعة التي قاسى الناس فيها هول الكارثة أن يخفف منها ما قدر أمراء الأنصار على إمداده، فلما قصرت مواردهم ازداد في شبه الجزيرة المرض والموت وبلغ الهول منهم أشده، فلم يجد عمر ملجأ من الله إلا إليه، لقد كان طيلة هذه الأشهر التسعة يصلي بالناس العشاء ثم يدخل إلى بيته فلا يزال يصلي حتى آخر الليل، ضارعا إلى الله ألا يجعل هلاك الأمة على يديه، فلما لم يستجب ربه دعاءه، ولم تسعف السماء الناس بمطر، عزم على أن يستسقي، فكتب إلى عماله أن يخرجوا بالناس في يوم عينه، وأن يتضرعوا إلى ربهم أن يرفع المحل عنهم، وخرج هو بالناس ذلك اليوم وعليه برد رسول الله، فلما انتهى إلى المصلى تضرع الناس وألحوا في الدعاء، وبكى عمر بكاء طويلا حتى أخضل لحيته، وكان العباس بن عبد المطلب قائما إلى جنبه، فأخذ عمر بيده ورفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنا نستشفع بعم رسولك إليك!» ودعا العباس ربه وعيناه تهملان، وأقام الناس يدعون ربهم تضرعا وخشية وقد أيقنوا الموت إن لم يسعفهم الله بالمطر، واستجاب الله لعباده المؤمنين الذين صدقوه ما عاهدوا عليه، إن الله بعباده لرءوف رحيم.
Неизвестная страница