34 - نحن لم نذهب لحرب، ولم نتحفز لقتال، ولكنا ما كدنا نصل إلى مشارف الموصل حتى خرج علينا كمين في غبش الظلام عدته نحو خمسمائة فارس، فأحاط برجالنا من كل جانب، وجال أبي بفرسه ليخترق ثغرة في صفوفهم، ولكنهم تواثبوا عليه وخزا بالرماح، وضربا بالسيوف، وهو ينثر رءوسهم بسيفه كما ينثر الزراع الحب، ويكر هنا وهاهنا كما يكر النمر اليائس حتى تمزقت درعه، وصبغتها الدماء. وقد عمدت إلى قائد عصابتهم فرميته بسهم فسقط تحت سنابك الخيل، وأسرعت إلى أبي وقد أثقلته جراحه فحملته إلى المؤخرة، ولم تمض لحظات حتى لحق بآبائه الشهداء.
فبكت سخينة طويلا ثم رفعت رأسها وقالت: وبعد موته رحل هذا الجيش المغير، ولم يستأصل بقيتكم؟ - نعم. - وهل بعد هذا تبقى عندك خلجة
35
شك في أن المكيدة أعدت لأبيك، وأن الذي أعدها هو الذي يخشى من مزاحمة أبيك؟ - إن لأبي أعداء كثيرين يا أمي، وإن شجاعته لم تترك قبيلة إلا ولها عنده ثئور. - ظن كما تشاء يا حسين، أين دفنتموه؟ - دفناه فوق هضبة شرقي مدينة الموصل تحت شجرة زيتون.
وبينما هما في الحديث إذا صياح وجلبة في بهو الدار، وخادمة أبي فراس «هيلانة» تهرول وهي تلهث وتتمتم بكلمات ارتطمت فيها العربية بالرومية، وأبو فراس يعدو أمامها راكبا رمحا انتزعه من حائط كان معلقا به، واتخذ منه جوادا كريما حتى دخل الحجرة التي بها أمه وأخوه، وهو يصيح: هذه الجارية البلهاء تستنكر على مثلي أن يمتطي جوادا، لقد كان أبي يحب هذه اللعبة ويعدني بحصان حينما أبلغ التاسعة، أين أبي يا حسين؟ - أبوك في مكان عال تتلاقى فيه الرياح، وتجوده أخلاف
36
الغمام . - ولم لم يعد معك؟ - إنه لو استطاع أن يعود لعاد، ولكن الحرب أبت إلا أن تقتضيه دين الشرف والبطولة. - وما دين الشرف والبطولة؟ - الموت! فهز الطفل رأسه وهو يغمغم: الموت، الموت! الموت دين الشرف والبطولة! ثم حملق في وجه أخيه وقال: والثأر أيضا يا حسين دين الشرف والبطولة؛ إنه ماحي العار، ومخمد النار؛ ثم انطلق يعدو بجواده في أنحاء القصر ولم تدمع له عين، ولم يبح صدره بزفرة أنين.
الفصل الثاني
تابع الفلك دورته، وتعاقبت سنواته، والأمير الصغير في كل يوم تتفتح مواهبه، وتتجلى مخايله، كالزهرة تحس بأنفاس الربيع فتتخايل فوق غصنها، وكالنجم يمتد به الليل فيزيد تألقا وسطوعا. وليس من شك في أن الطفل صورة من الوراثة والبيئة، فإذا اجتمع في ناشئ كرم المنبت، وسلامة الطبع، وصحة الجسم، وحسن الإشراف، كان مثلا عاليا للإنسانية الكاملة. وأميرنا أبو فراس قد فاز بكل هؤلاء؛ فكان جديرا أن تعقد به الآمال، وأن تترقبه الرياسة، وتتهيأ له صدور المحافل.
نشأ في كنف أخيه الحسين، وفي رعاية أم رءوم
Неизвестная страница