Фарах Антун: его жизнь, его литература, отрывки из его произведений
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Жанры
وفيما هما منحدران أخذا يتحدثان في أمر هذا الرجل، فقال سليم: لم تبق لدينا شبهة في أنه مجنون، ولكن هل رأيت كيف أن جنونه منصرف إلى أهم مسألة؟ فقال: أي مسألة تعني؟ فقال: مسألة رفع الظلم والاعتداء والضغط عن الناس، فهو يسمي الوحش كل عاطفة رديئة تحمل الحي على الإضرار بحي آخر والاعتداء عليه طمعا في الفائدة لنفسه. فيا للحكمة والفلسفة في أفواه المجانين! وعندي أن هذا الرجل لم يدرك هذه الحقيقة إلا بالاختبار والمصائب، فيظهر أنه كان تعيسا جدا في حياته في وطنه، كما قال، حتى انصرف جنونه إلى هذه الجهة.
فقال كليم: سننبش ذلك في زيارتنا الثانية.
وما قرب الرفيقان من حرج الأرز حتى سمعا ضجة عظيمة، وأبصرا الناس جماهير جماهير حول الحرج وداخله، وكانوا بين فتيان وفتيات ورجال ونساء، وهم يبلغون نحو ألف شخص، فعجب الرفيقان من ذلك، ولما وصلا إلى الحرج دخلا بين الناس واستخبرا الخبر، فعلما ما يلي:
لما وصل الخواجة كلدن وزوجته إلى الحدث لم يعجب المكان السيدة إميليا؛ لأنها كانت مضطربة النفس من سياحتها لا يعجبها شيء، فتضجرت وقالت: إن جبال كاليفورنيا أجمل من هذه الجبال. فأمر زوجها رجاله بالمبيت في الحدث تلك الليلة للراحة فقط، وبالسفر إلى الأرز في مساء اليوم التالي؛ لأنه كان على ثقة من رضى إميليا عن الأرز أكثر من الحدث. وفي المساء بلغ إميليا رغبة بعض الأهالي في أن يصنع زوجها نهاره عندهم، فضحكت وأبلغت زوجها هذا الخبر، وكان كلدن يعلم أن ذلك يسر زوجته جدا؛ لميلها بالطبع إلى الشرقيين أبناء وطنها، فأمر وكيله أن يعد له ريالات عثمانية بقيمة ألف جنيه، وقال لأبي مرعب وقومه: «يس يس سنأمل يووم كلدن في الهرز.» يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز.
فمنذ هذا الحين طار هذا الخبر بسرعة البرق الخاطف بين السكان والقرى في الجبة كلها، فضحك له الخاصة وسر به العامة. وإذ علم أن ذلك الغني الأميركي مسافر في اليوم التالي إلى الأرز، أخذ القرويون ينسلون إلى الأرز من كل حدب وصوب ليستقبلوه استقبالا عظيما، وينتظروا يومه، وكان أكثر القادمين من الطبقات المحتاجة، ومع ذلك فقد كان أكثرهم يظهرون أنهم قادمون لإكرام غني كريم كهذا الغني ومشاهدته لا لنواله. فيا لعزة نفس الشرقي الذي يرى توزيع المال عليه من غير عمل يتعب فيه نقيصة وعارا.
وبينما كان الرفيقان يجولان بين الجموع التي اجتمعت في الأزر إذا برجل يناديهما من بعيد: يا خواجات! يا خواجات! فالتفتا فأبصرا رجلا غريبا لا يعرفانه، ولكن هذا الرجل ضحك ودنا منهما. ولما اقترب صاح سليم وكليم معا: مسيو مخلوف! فقال المجنون العاشق مبتسما: نعم مسيو مخلوف. هل علمتم متى يحضر الأميركي؟
فلم يجب الرفيقان عن هذا السؤال؛ لأنهما كانا مشتغلين بالدهشة من حالة مخلوف الجديدة، فقد كان لابسا ثيابا نظيفة مرتبة، وفي رجله حذاء ليس بقديم، وعلى رأسه طربوش نظيف، وشعره ولحيته مقصوصان ومزينان، وكانت هيئته وكلامه وإشاراته كلها تدل على أنه معتن بنفسه أشد عناية، ففطن سليم في الحال إلى أن هذا الانقلاب الجديد فيه نتيجة الدرس الذي ألقاه عليه في عين السنديانة، فسر بهذا الخير الذي قدر على صنعه مع هذا المسكين، ومن هذا الحين ازدادت عنايته به لإتمام عمله.
وإذ انفرد بمخلوف سأله: أين بدلت ملابسك يا خواجة مخلوف؟ فنظر إليه المجنون بلطف كلطف الأولاد وأجاب: بدلتها في حصرون، فقال: وهل تعرف أحدا فيها؟ فحدق مخلوف إليه وأجاب: وهل نحن نحتاج لمعرفة الناس؟ أما نحن جميعا إخوان؟ إنني حيثما أكون أدخل أول بيت أراه في وجهي وأطلب من صاحبه أو صاحبته ما أكون في حاجة إليه، فآكل وأشرب وألبس، ثم أنطلق على شرط أنني لا أحمل معي شيئا حتى ولا كسرة خبز؛ لأن الله يرسل خبز الغد. فدهش سليم وسأله: وإذا منعوا عنك ما تطلب؟ فغضب المجنون وأجاب: كيف يمنعون عني ذلك؟ أما نحن إخوان؟ أليس لي ما لهم ولهم ما لي؟ ألا يعلمون أنهم إذا منعوا عني شيئا؛ فالله يمنع عنهم أضعافه؟
فضحك سليم وقال له: إذا بقيت لك هذه الأفكار الجميلة يا خواجة مخلوف؛ فإنك تبقى سعيدا وتنال أمنيتك ...
وما أتى سليم على هذه العبارة حتى شوهدت الجموع في الأرز تتحرك كلها مسرعة نحو الطريق، فقال مخلوف: لعل صاحبنا الأميركي قد أتى.
Неизвестная страница