Фарах Антун: его жизнь, его литература, отрывки из его произведений
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Жанры
فأجاب جرجس: الحق أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يريدون تغيير مذهبهم الذي ربي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفدونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات، فأجاب سليم مازحا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهل الجبة من طرد الأميركان، فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس؟ فاحتار جرجس في الجواب، ثم قال: أهل الكورة روم يا معلمي، وأهل الجبة موارنة. فضحك سليم وكليم لأنهما أدركا معنى كلام جرجس، وقال سليم: أنا ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب؛ الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدما في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية، والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خلافا لرجال الدين في الكورة؛ وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل، والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أن تبعد ما أمكنها كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية غير الفرنسوية، والرابع: أن الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق، فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟ فقال كليم حينئذ وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!
وفي هذا الحين وصل الجوادان إلى المنزل الذي كانا يقصدانه في القرية، وهو أعلى المنازل في الجنوب وآخرها، وكان أهل المنزل في النوافذ ينتظرون الضيفين ويشاهدون اضطراب الأهالي وصياحهم حول المنزل الذي تقدم ذكره.
وكانت العائلة المصيفة في هذا المنزل عائلة صديق لسليم وكليم يدعى: الخواجة أمين، وكان مريضا، وهي مؤلفة من: أمين المريض، وأب له في السبعين من العمر، وأم في نحو الستين. وكان أمين مريضا بعلة الصدر المشهورة التي كثرت في سوريا ولبنان في هذا الزمان، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر انقضى عليه ثلاث سنوات بهذه العلة، فلم ينجع بها دواء، ولم يبق لها علاج عند الأطباء غير الإقامة في الهواء النقي الجاف في أعالي الجبال.
وكان أمين وحيد والديه الشيخين وقبلة آمالهما، ولكن المرض لا يعرف رحمة ولا يرعى حرمة، وكان أبواه في يأس شديد من حالته، يبكيان الليل والنهار على وحيدهما الشاب الذاهب عنهما، تاركا إياهما في آخر العمر فريدين وحيدين في هذه الحياة، إلا أنهما مع حزنهما المتصل في السر كانا يظهران أمام المريض كل سرور وبشاشة، وكذلك كان المريض أمامهما، فإنه كان عالما بعلته التي كانت تجره إلى الموت شيئا فشيئا، ولكنه كان يحتملها بلا ضجر ولا شكوى؛ لئلا يزيد في عذاب الشيخين اللذين كانا يعتنيان به، ولم ير أحد قط صبرا على مرض كصبر هذا المريض الكريم وممرضيه الشيخين.
ولما دخل سليم وكليم عليه كان أمين ممددا في سريره لا يقوى على النهوض، فابتسم لهما مسلما، أما هما فلم يقنعا بهذا الابتسام، بل تقدما منه ليصافحاه بهز اليد، فلما رآهما يمدان يديهما نحوه سحب يده وأخفاها تحت اللحاف، وقال لهما بدمع في عينيه: لا تتعباني بالسلام عليكما، فإنني في غاية الضعف. فنفرت الدموع حالا إلى عيني سليم وكليم؛ لعلمهما أن ذلك المريض العزيز لم يخف يده إلا فرارا من أن يعديهما من دائه. فيا أيها المرضى الذين يشكون من فرار الناس منهم خوفا من العدوى، ويا أيها المصابون بأمراض مزمنة يقضون أوقاتهم بالتضجر والتألم والتحسر، تعلموا هذا الشعور اللطيف والصبر الجميل من هذا المريض الكريم.
وما جلس كليم وسليم يستريحان بعد تعب الطريق حتى اشتدت الضوضاء في القرية وعلا الصياح، فهرعا كلاهما إلى النافذة وأطلا منها، ثم قال كليم لأمين: لم نفهم جيدا سبب هذا الاضطراب. وإذا بصاحب المنزل داخل، فسأله أمين: كيف انتهت المسألة يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: حقا إنهم تجاوزوا الحدود، وقد عزمت أن أذهب وأدعو أولئك الضيوف إلى منزلي هذا وأدعهم يقيمون في الجانب الآخر، فما قولكم؟ فقال له أمين: أحسنت يا أبا مرعب، وهكذا فلتكن الشهامة، فقال: ولكنني أريد ترجمانا بيني وبين الخواجات. فهب سليم وكليم وقالا: نحن نرافقك.
وبعد خمس دقائق وصل أبو مرعب مع سليم وكليم إلى المنزل الذي كان النزاع عليه، فوجدوا حوله نحو عشرين رجلا من أهل القرية وبضع نساء وعدة أولاد، وأمام المنزل ثلاثة بغال عليها حوائج السفر، وبجانبها ثلاثة من الأميركان وترجمان وخادم.
وكان أبو مرعب في نحو الخمسين من العمر، وهو رجل كبير الجسم، كثير السمن، قوي العزم، لا يهاب الموت إذا تمثل له في شخص إنسان، وكان مشهورا عنه أنه حارب مع يوسف بك كرم، وكان من أشد أعوانه، حتى إن يوسف بك سماه «كلة مدفع»؛ إشارة إلى استدارة جسمه وقوته. فلما وصل أبو مرعب إلى المتجمهرين دخل بينهم مع رفيقيه، واستفهم منهم عن سبب الاضطراب والصياح، فعلم منهم أن ذلك الجمهور كان مقسوما قسمين: ففريق كان يقول ليس من آداب الضيافة أن نمنع الأجانب من الإقامة في قريتنا، وإلا سبنا الناس حتى أهل القرى المجاورة. وكان في هذا الفريق صاحب المنزل نفسه. وفريق آخر كان يقول: نحن لا نبعد هؤلاء الضيوف لأنهم بروتستنت فقط؛ بل لأن فيهم رجلا مسلولا؛ إذ نخاف على قريتنا من العدوى.
فرفع حينئذ أبو مرعب صوته وقال مخاطبا الفريق الذي كان يقاوم: يا شباب، هل هذا المنزل منزلكم؟ فأجابوا: كلا! فقال: وهل لصاحبه الحق في إقفاله أو هدمه أو تلعيب القرود فيه أم لا؟ فأجاب أحدهم وكان أجرأهم: نعم له الحق في ذلك، ولكن ليس له الحق في أن يضع فيه شيئا يضر بأهل القرية كلهم، فقال أبو مرعب وقد بدا الغضب في وجهه: وما هو هذا الشيء يا ابن طنوس؟ فقال: المرض، فصاح به الشهم أبو مرعب: هل أنت بدون دين يا ابن طنوس حتى تضطهد وتطرد المرضى والضعفاء الذين أوصت ديانتنا بمساعدتهم وزيارتهم؟ ولماذا لم تطرد القرية أباك لما مات منذ سنتين بعلة الجذام؟
فسكت ابن طنوس، ولكن شابا بجانبه أجاب: هل الغريب كالقريب يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: عافاك الله يا ابن سركيس، فإنك نطقت بالحق، فأنتم إذا تريدون اضطهاد هؤلاء الضيوف لأنهم أجانب وبروتستنت، لا لحفظ صحة القرية. فأنا أخبركم أنني الآن آخذهم إلى بيتي، وكل من تحدثه نفسه بمنعي؛ فليتبعني.
Неизвестная страница