أسئلة غريبة؛ لأنها لو ترجمت لمعناها الحقيقي لكانت مثل أن نسأل: هل هناك شعب مصري حقيقة؟ هل وجد أصلا؟ وأين اختفى إذا كان قد وجد؟ ولماذا؟
والتشبيه فيه مبالغة ولكنه صادق؛ فما دام هناك شعب فمن خصائص الحيوية ولزوميات وجوده أن يأكل وأن يشرب وأن يرقص ويضحك وأيضا أن يتمسرح - إذا صحت الكلمة - تحت أي ظرف وفي كل وقت وما دامت هناك حياة.
كل ما في الأمر أن التساؤل سببه أننا نقصد، حين نتكلم عن المسرح، ذلك المكان العالي ذا القبوة والخشبة والممثلين والروايات، وهذا مسرح صحيح، ولكنه ليس كل المسرح؛ فللمسرح أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى أحدها فقط، مجرد شكل واحد تطور على يد الإغريق ثم جاء الدين المسيحي في أوروبا فقضى عليه وكبته باعتباره أحد الأشكال الوثنية للعبادة، لكن قبضة الدين حين خفت عاد المسرح الإغريقي مرة أخرى فيما بعد العصور الوسطى وأصبح له شكسبيره ومولييره ... إلى آخر القصة.
أما بقية الأشكال المسرحية، فهي موجودة في حياة كل شعب. ولا بد أن تكون موجودة وحية سرت، ولا تزال سارية، وستبقى سارية إلى الأبد. هذه الأشكال ممكن جمعها تحت ظاهرة واحدة، ظاهرة بيولوجية حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل واكتفاء غريزتي الوجود وحفظ النوع أو حتى من أجل اكتفائهما إلى غريزة التجمع بلا سبب فردي أو ذاتي، وإنما بتأثير الغريزة الجماعية في كل إنسان وتلبية لها. هذا التجمع يأخذ أشكالا كثيرة، ولكن يحدث فيه دائما وأبدا نفس الشيء، ذلك الشعور بالأمن الجماعي الذي يدفع كل فرد إلى نسيان خوفه الفردي ومنغصاته الذاتية وقلقه على وجوده الخاص، شعور يشبه كثيرا أسطورة البجع المسحور الذي كان يتجمع، وعند البحيرة تخلع كل بجعة غطاءها الخارجي كبجعة، ويلتئم شمل الحوريات الخارجة؛ ليرقصن ويمرحن ويستحممن معا. في التجمعات الإنسانية التي تحدث بلا سبب معيشي أو جنسي يحدث نفس الشيء ويخرج كل فرد في الجماعة من ذاته الخاصة وتلتقي الحوريات مكونة الذات الكبرى للجماعة؛ لكي تمرح وترقص وتنعم بكل ما يولده شعور الأمن الجماعي من نزوات.
هنا في اللقاء باستطاعة كل فرد أن ينظر في ذاته دون خوف وأن يسخر منها وأن يتحرر من قبضة خوفه الدائب عليها ويصبح أكثر حرية وتبدو له خصال أخرى؛ فيزداد كرمه ورغبته في السخاء على إخوته الآخرين، ويصبح أكثر استعدادا للتضحية وبذل النفس إلى آخره.
هذا التجمع، وتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشري كحجة (أحيانا مضحكة) للتجمع مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بنزول النقطة أو أعياد الحصاد والمناسبات الدينية. أكثر من هذه السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي.
هذه كلها لحظات مسرحية، وأشكال مسرحية، كان لا بد بمرور الأزمان أن تتطور ويصبح لكل شكل منها تقاليد وتراث. وقد حدث أن أحدها وهو الصلاة لآلهة الإغريق ظلت تتطور إلى أن أصبحت اليوم ما نسميه بالمسرح، الذي كان إغريقيا ثم أصبح أوروبيا ومن ثم انتشر إلى العالم أجمع. ولكن ليس معنى هذا وليس معنى انتشاره والاعتراف به عالميا أن كل شعب من الشعوب لم يتطور لديه شكل يؤدي نفس الوظيفة الاجتماعية التي خلقت المسرح الإغريقي.
ولست مؤرخا ولا فيلولوجيا ولا عالم تراث أو فولكلور لأعرف على وجه الدقة إن كان المصريون القدماء قد عرفوا المسرح الديني بمعناه الإغريقي، فما أعرفه أن التمثيل في هذا المسرح كان يقوم به الكهنة في حجرات مغلقة، وهو شكل مختلف تماما عن الشكل الإغريقي الذي كانت تقوم به جماعات الإغريق نفسها وفي احتفالات عامة لا سرية فيها ولا غموض. كل ما يمكن الجزم به أن المسرح المصري الديني القديم كان لا بد مختلفا تماما عن المسرح الإغريقي اختلاف الديانة الإغريقية عن الديانة المصرية وزيوس الأسطوري عن فرعون الإله الحي المعبود. الحياة المصرية القديمة كان طابعها التجمع على النطاق الشعبي الواسع والاحتفالات الضخمة التي يشيدها الشعب كله، بعكس الحال في اليونان، حيث لم تكن هناك دولة كبرى، بل تقريبا كل مدينة كانت دولة، وفي المدينة الواحدة كان طابع الحياة هو الاجتماعات المحدودة الكثيرة التي هي أصلح مادة خام لنشأة المسرح؛ لأن المسرح لا بد أن يكون حضوره محدودي العدد.
في مصر على ما أعتقد كان الأمر مختلفا، والشعب كان دائما موحدا واجتماعاته تشهدها الساحات الكبرى التي يحضرها مئات الآلاف؛ لهذا فلا بد أنها كانت اجتماعات شبه رسمية إلى حد بعيد، الجمهور فيها لا يقوم إلا بدور المتفرج على احتفال أعد قبلا. وأمثال هذه الاجتماعات لا تدخل تحت بند المسرح لا بمعناه الحديث ولا بمعناه العام؛ لأن دور الجماعة البشرية فيها سلبي تماما.
الفرق بين الفرجة والتمسرح
Неизвестная страница