إني واثق أني لو سألت أي ممثل عندنا إن كان باستطاعته أن يقوم بدور البطولة، أي بطولة، لأي مسرحية أو فيلم، لصرخ بملء صوته: أجل، حتى قبل أن يقرأ الدور أو يعرفه؛ لأنه الحاوي القادر على كل الألعاب. وهؤلاء في رأيي لا أكن لهم احتراما كثيرا، فالتمثيل فن كبير؛ لأنه فن الوصول رأسا إلى قلوب الناس وعقولهم، فن التغيير الكبير الذي يحدث للنفس حيث تدخل الرواية بوجهة نظر وتخرج بها مبددة مبعثرة لا تصر قبضة ملح. وأن يحدث هذا لا بد من ممثل، ليس فقط مؤمنا بدوره إلى درجة تقمصه تماما، بالعكس مؤمن بالدور إلى الحد الذي لا يتقمص فيه، إلى الحد الذي يصبح الدور المكتوب نفسه كالرداء الضيق على الممثل؛ لأنه هو الممثل، أكبر وأعظم منه لأنه هو الحقيقة، هو الشخصية الحقيقية، هو الذي يقول ما يقول، لا لأنه سيؤثر به على الناس، ولكن لأنه هو أولا وأساسا مؤمن بهذا الذي يقول أو يفعل. وحين أقول الإيمان لا أقصد ذلك النوع المحدود من الإيمان، أقصد به الإيمان المتفتح الواسع، إيمان الفنان أو بتعبير أدق وجهة نظره التي تشمل العالم كله ومستعدة أن تتحمل مسئوليته وتصفح عن خطاياه، إيمان الرسل العظام والأنبياء. (5) مؤهلات فرفور الأخرى
وفرفور ليس نبيا ولا رسولا، إنه فقط فرفور. ولكني أتصوره دائما خارقا للعادة، لا بقوته فقط وإنما بعينيه، عينيه الصغيرتين اللتين كلما لمع بريقهما أحسست أن حدثا يوشك أن يقع؛ لأن فرفور سيفتح فهمه ويتحدث. فرفور ذلك الجسد الضئيل أو النحيف المحشورة فيه طاقة نشاط هائلة، إني أريده في كل مكان على المسرح، بحيث لا تستطيع أن تضبط انتقالاته، وحبذا لو استطاع أن يقفز في الهواء أن يصنع «السومر سولت» حتى يبدو جسده في نفس اشتعال عقله، وتبدو حركته لاذعة مباشرة هي الأخرى كلسانه، أريد أن أحس فيه بشيء غير آدمي ينتمي إلى الجن مثلا والعفاريت، أريد أن يحس الجمهور أنه فعلا ليس ممثلا ذا قدرات خارقة، أريده أن ينفض عن ذهنه كل أمجاد هاملت وعطيل وقيصر وأخلاقياتهم الشاعرية وشجاعتهم التي يجيدون الحديث عنها وأفكارهم التي تأتي مرتبة، وكأنما ينطقها محلل نفسي حكيم؛ لأني أريده بطلا يبهر بشخصيته ووجوده لا أن يفترض الناس مقدما بطولته، أريده أن ينتزع إحساس الناس بأنه غير عادي رغما عنهم، أريده أن يبهرهم وهو يضحكهم ثم يضحك عليهم حين يبهرون، أريد أن يحس أن جمهور المسرح الحاشد أمامه أناس جاءوا متفرقين متعبين متسخي القلوب والأرواح، وأنه وحده الذي سيتمكن من أن يقوم بغسل أرواحهم جميعا: بذراعيه، بلسانه، بجسده، بالطاقة الهائلة المشعة منه يلوك أرواحهم ويعصرها، ويعود يلوكها ويعصرها دون أن يحسوا لحظة واحدة أن شيئا غير عادي يحدث، ودون أن يبدو على فرفور أيضا أنه يقوم بشيء غير عادي. أريد ليس فقط أن يقول ما كتب له من حوار، ولكنه يكون على استعداد لأن يكبح جماح متفرج طويل اللسان، ذا بديهة حاضرة، بحيث يستطيع أن يروض الأنفس الهائجة حتى يدركها السلام. أريده ذا صوت خاص، ليس كالريحاني أو إسماعيل يس أو فؤاد المهندس، لا، صوت طيع، باستطاعته أن يهمس بوضوح، وأن يصرخ أيضا دون أن يفقد وضوحه، أريد للسخرية أن تخرج لا من فمه ولكن من صدره، من قلبه، من أعماقه فعلا لا تشبيها؛ لأنه لن يكون المعبر عن نفسه وحدها، ولكن عما هو أعمق من نفسه، عن نفوس الجماهير المحتشدة لتراه، أريده أن ينطق فيحسون جميعا أنه ليس صوته ولكن صوتهم هم، لا لأنه جميل، ولكن لأنهم يتعرفون فيه على ملامحهم وخصالهم، على صبرهم الطويل الذي لا مبرر له، على سخطهم على طريقتهم في إبداء السخط، طويلا ممدودا بلا ليونة، عريضا أجش حين يشاءون، لاذعا كالكرابيج في اللحظة التي يحبون فيها أن يسمعوا الطرقعات، صوت وكأنما يسمع الدنيا كلها صوته، يخاطب به الأعماق الدفينة للناس، وليس رغباتهم واندفاعاتهم السطحية الشكلية التافهة، صوت ينبع منها كبئر البترول المحفورة لعمق، ويرتد إليها.
باختصار أريده مزيجا من البطل الأرضي السماوي الجني الآدمي، حتى يصبح لكلامه فاعلية لا يستطيعها أي كلام آخر، وحتى يتقبل الناس هذا الكلام كما لا يتقبلون أي كلام آخر.
ترى هل أستطيع أن أجد الفرفور الذي يحقق هذه الصورة؟
كثيرا ما كنت أترك المواقف وأسرح وأسائل نفسي: ترى كيف يعيش الفرفور في حياته العادية؟ ما رأي زوجته فيه أو أصدقائه؟ وما رأيه فيهم؟ وأفعل هذا لإدراكي أن شخصا كفرفور لا يمكن أن يحبه القريبون منه، فنحن نعجب بالخارق للعادة، ولكن لا نحبه إذ نحن لا نحب إلا ما تعودنا حبه، أما فرفور فممكن أن نحيطه بهالة، ونحن به، ولكنا دائما وأبدا سنخافه ونخاف أن نقترب أكثر من اللازم منه. أما من ناحيته فهو أيضا لا يحبنا هذا الحب البسيط المباشر، إذ هو لا يحبنا بطريقتنا في الحب، ولكن بطريقته هو، وطريقته معقدة مركبة عسيرة الفهم، فهو لا يحبنا كما نحن، ولكن يحب لنا أن نكون على صورة أمثل ويضيق بعجزنا عن تحقيق هذه الصورة، ويشفق ويغضب ويزدري ويسخر ويشتم، ومن مجموع هذا كله تتكون عاطفته ناحيتنا، أقصد حبه لنا، وبنفس هذه الطريقة المركبة يبدي لنا هذا الحب، ويشتم ويغضب ويسخر، ولا ندرك نحن أبدا أنه يقول لنا بهذا كله أنه يحبنا.
الأدوار
المؤلف كبيرا
فرفور
السيد
المؤلف صغيرا
Неизвестная страница