المفارقة
1
في إحدى قصائد الهايكو اليابانية يقول الشاعر: «كانت العصافير تطير من فزاعة إلى أخرى.» والاقتباس الوارد هنا هو القصيدة كلها لا مقطع منها؛ فقصائد الهايكو معروفة بتكثيفها الشديد. لكن القصيدة هنا رغم قصرها تحمل مفارقة تلفت الانتباه، وتدفع إلى الابتسام. ففي صورة بصرية - تبدو عادية - تم التقاطها ببراعة، يلمح الشاعر التناقض الظاهر بين دور الفزاعة المفترض، وحالها الفعلي في هذه اللحظة. وبالتقاطه للحظة في تكثيف، وشاعرية، وصياغة محكمة يبرز التناقض المحبب.
تقول قصيدة هايكو أخرى: «بائع المراوح ... يحمل حملا من الهواء ... يا للحرارة!» في هذا النص القصير للغاية أكثر من مفارقة؛ تظهر المفارقة الأولى في تعبيره «حملا من الهواء.» الهواء كما نعلم خفيف للغاية، حتى إننا نستخدم الكلمة للتعبير عن الخفة المتناهية، لكن القصيدة هنا من خلال الصياغة البارعة تجعل البائع يرزح تحت حمل من الهواء. تكمن المفارقة الثانية في أن من يحمل حمل الهواء ويبيعه للآخرين لكي يقاوموا به حرارة الجو، هو أكثر من يقع فريسة لهذه الحرارة، خصوصا مع حمله الثقيل الذي يتجول به: «يا للحرارة!» الصياغة الثاقبة تنقل لنا نظرة الشاعر للمشهد، وهي نظرة تدفعنا إلى الابتسام؛ استمتاعا بالصورة اللافتة والتكثيف الخارق. تنقل القصيدة كل هذا في أقل من عشر كلمات! هذه هي قوة المفارقة؛ فالمفارقة قادرة على أن تكون موجزة، ومشحونة، وكاشفة، وجاذبة للانتباه، ودافعة للتفكير أيضا في نفس الوقت.
2
في الفقرة الأولى من تمهيد كتاب: «تاريخ موجز للمفارقة: الفلسفة ومتاهات العقل
A Brief History of the Paradox: Philosophy and the Labyrinths of the Mind » للمؤلف «روي سورينسن
Roy Sorensen » يقول المؤلف:
يصف الرياضيون الأعداد الأولية باعتبارها ذرات الأعداد؛ لأن كل الأعداد يمكن تحليلها باعتبارها حواصل لهذه الأوليات. أنا أنظر إلى المفارقات باعتبارها ذرات الفلسفة؛ لأنها تؤلف نقاط الانطلاق الأساسية لأي تأمل منضبط.
يفسر رأيه هذا بأن:
Неизвестная страница