الحوار وشبه الحوار
1
في حلقة ما من برنامج «حواري» يجلس الضيفان أحدهما في مواجهة الآخر، وبينهما مقدم البرنامج، بعد دقائق من بداية الحلقة يعلو صوتاهما، ويبدأ الاحتداد. يمكننا أن ندرك دون صعوبة من المشهد الذي نراه ومن طريقة الحوار التي نسمعها أن الطرفين هنا لا يخاطب أحدهما الآخر، هما في الحقيقة يخاطبان جمهور المشاهدين في خطب قصيرة عصبية متبادلة يقاطع فيها كل منهما خصمه. في هذا السياق ستعد أي بادرة من أحدهما للاقتناع بمنطق الطرف المضاد - أو مجرد الميل نحوه - ضعفا وانهزاما غير مقبول. كل من الضيفين جاء وهو متأكد كل التأكد أنه على حق وأن الطرف الآخر لا شك مخطئ، أو على الأقل هما يظهران ذلك. قد لا يعترفان بهذا، وربما قد لا يدركانه حتى، لكن كلا من الطرفين قرر مسبقا في هذه الحالة أنه لا يحتاج للتمعن في أي شيء يقوله الآخر، إلا بالقدر الذي يمكنه من إثبات خطئه، وإحراجه إن استطاع أمام جمهور المتفرجين.
2
كان سقراط يقول: «أنا أعرف أنني لا أعرف أي شيء.» لكنه كان يحب الجدل، ويحب اختبار الرجال بالحوار، وكان يحاور رجالا فخورين بأنفسهم، واثقين من علمهم. وربما كان هذا اليقين المبالغ فيه يغيظه قليلا؛ لأنه عندما كان يخوض حواراته مع أمثال هؤلاء الرجال، كان يبدأ الحديث دائما بأسئلة بريئة في الظاهر، ثم ينقل الحوار من نقطة إلى نقطة؛ حتى يربك محاوريه إلى الدرجة التي تمكنهم من رؤية أنهم حقا لا يعرفون ما يعتقدون أنهم يعرفونه.
أفلاطون تلميذه خلد هذه الطريقة، من خلال كتاباته التي جاءت في معظمها على شكل محاورات بطلها سقراط. ومن خلال هذا الشكل، نجح في مناقشة عدد من الموضوعات المهمة. مكن هذا الشكل أفلاطون من عرض عدد من وجهات النظر المختلفة وهي تتجادل حول موضوع ما، وبفضل هذه المحاورات أصبح أفلاطون واحدا من أهم الفلاسفة على مر التاريخ. ولم يتوقف استخدام شكل المحاورة في الفلسفة بعد أفلاطون، بل استخدم من قبل عدد من الفلاسفة في العصور الوسطى والحديثة.
3
في القصة أو الرواية، يستخدم الحوار لأغراض متنوعة؛ منها نقل الحالة النفسية، أو تطوير الحدث، أو التعريف بالشخصيات وبدوافعها. الحوار الذي يمتعني كقارئ يكون في الغالب حوارا ثريا بين شخصيتين مرسومتين بشكل واقعي وحي، ينتقل الحديث بينهما جيئة وذهابا بشكل حيوي وفعال ومتطور. أستمتع بالحوارات التي أشعر في ثناياها بجدل حقيقي بين حالتين مختلفتين، حوارات تجدها في أعمال دوستويفسكي مثلا. وفي المقابل، نقرأ أحيانا حوارات باهتة كأنها مكتوبة بين شخصية وظل شخصية، يقتصر دور هذا الظل فيها على مجرد تسليم الحوار للطرف الآخر.
تخيل رواية تعتمد بالكامل على هذا الشكل الباهت من الحوار، ستكون ضعيفة في الغالب؛ لأن جزءا أساسيا من طبيعة الرواية ومتعتها يتمثل في حالة التنوع والتمايز والجدل بين الأصوات المختلفة. ميزة من مزايا الرواية الأساسية هي قدرتها على احتواء هذا الخليط المتنوع من الأصوات: اللهجات، الخلفيات الاجتماعية، القناعات، الانتماءات السياسية، المستويات الثقافية، المهن ...
4
Неизвестная страница