يقال في مجال الأشياء المادية إن نصف رغيف خير من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك. إن رجل السياسة سوف يؤيد مشروع قانون يعرف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدة ما، إنه يدلي باعتراضاته ثم يصوت مع الأغلبية، وربما يكون تصرفه سليما، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير ممكنة، إن الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلا لكي يرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويعبر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونا بالحقيقة، وماذا يجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يعرف أن في دخيلته شيئا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمال بأن يحس هذا الشيء ويعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبث بالحياة، ولكنه ما لم يشعر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمن الأفضل له أن يموت.
الفن والدين إذن طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد، وبين الوجد الإستطيقي والوجد الديني ترابط أسري؛ فالفن والدين وسائل إلى حالات ذهنية متشابهة، وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن علم الإستطيقا ونتفحص، متجاوزين انفعالنا وموضوعه، ما في ذهن الفنان، فقد نقول (بتبسط كبير) إن الفن من تجليات الحس الديني، فإذا كان الفن تعبيرا عن انفعال - مثلما هي قناعتي - فهو تعبير عن ذلك الانفعال الذي هو القوة الحيوية في كل دين، أو هو على أية حال يعبر عن انفعال نحو ذلك الذي هو جوهر الكل، وقد نقول إن كلا من الفن والدين هو من مظاهر الحس الديني للإنسان، إذا كنا نعني ب «الحس الديني للإنسان» حسه بالواقع النهائي. أما الذي يجمل بنا ألا نقوله فهو أن الفن تعبير عن أي ديانة معينة؛ لأننا بذلك نخلط بين الروح الدينية وبين القنوات التي أجبرت فيها هذه الروح أن تجري. إنه خلط بين النبيذ والقارورة؛ فقد يكون للفن شأن كبير بذلك الانفعال الكوني الذي وجد تعبيرا فاسدا ومتلعثما في ألف عقيدة مختلفة: ولكنه لا شأن له بالوقائع التاريخية والخيالات الميتافيزيقية، ومما يؤكد ذلك أن كثيرا من فنون التصوير الوصفي هو أبواق دعاية وشروح للعقائد الدينية، وهو أيضا استعمال مناسب جدا للتصوير الوصفي، ويقينا أن موطن الضعف في كثير من الصور الجيدة هو العنصر الوصفي المقحم من أجل التهذيب والإرشاد، ولكن بقدر ما تكون صورة ما عملا فنيا فلن يكون لها شأن بالعقائد والنظريات أكثر من شأنها باهتمامات الحياة اليومية وانفعالاتها. (2) الفن والتاريخ
Art and History
على أن هناك صلة بين الفن والدين، حتى بالمعنى الشائع والمحدود للكلمة، هناك صلة تاريخية: أو بمعنى أدق هناك صلة أساسية بين تاريخ الفن وتاريخ الدين. إن الأديان لا تتحلى بالحيوية والصدق ما لم تكن مفعمة بما يفعم كل فن عظيم - الخميرة الروحية. ومن الخطأ، على ذكر ذلك، أن نفترض أن الدين الدوجماوي لا يمكن أن يكون حيويا وصادقا. إن بالعواطف الدينية ميلا إلى أن تلقي بمرساتها إلى العالم الأرضي بواسطة سلسلة من الدوجما، هذا الميل هو العدو المندس داخل كل حركة دينية، وقد يكون الدين الدوجماوي حيويا وصادقا، بل إن اللاهوت والشعيرة كانا فيما مضى هما بوق الثورات الروحية وطبلها، غير أن العصور الدينية الدوجماوية أو الخالية من الفكر، عصور الفورة الروحية إذ يعلي الناس الروح فوق الجسد والعواطف فوق الفكر، هي العصور التي يشيع فيها الإحساس بالدلالة الروحية للعالم. الأمر إذن هو أمر بشر يقطنون على تخوم الواقع ويصغون بشغف إلى حكايا الرحالة، هكذا قدر أن تكون العصور الدينية الكبرى هي بعامة العصور الكبرى للفن، أما حين يأخذ حس الواقع في التبلد ويتضلع الناس في التلاعب بالنعوت والرموز ويصيرون أكثر آلية وتدجينا وتخصصا وأقل قدرة على الإحساس المباشر بالأشياء، هنالك تهن قدرتهم على الهروب إلى عالم الوجد ويبدأ الفن والدين في الانحدار، حين يفتقر الأغلبية إلى الانفعال الذي منه جبل الفن والدين، ويفتقرون حتى إلى الحساسية التي يستجيبون بها لما تقدمه القلة التي لا تزال قادرة على الإبداع، عندئذ يصاب الفن والدين بالعرج، وبعدها لا يتبقى للفن والدين إلا اسمهما، ويسمى الإيهام والملاحة فنا، وتسمى السياسة والابتذال العاطفي دينا.
والآن، إذا كنت مصيبا فيما أراه من أن الفن هو مظهر - علامة لا تعبير - للحالة الروحية للإنسان، فنحن في تاريخ الفن إذن سنقرأ التاريخ الروحي للجنس البشري، وليس من المستغرب عندي أن أولئك الذين كرسوا حياتهم لدراسة التاريخ لا بد أن يستاءوا حين يأتي شخص مثلي يعترف بأن فهمه مقصور على طبيعة الفن ويلمح بأن فهمه لعمله قد يؤهله للحكم على عملهم، فلأكن دمثا إزاءهم جهد ما أستطيع. إنني آخر من يحق له، وآخر من يميل حقا إلى أن يدعي شرف التلقب بلقب «عالم تاريخي»، فليس أحد أقل مني التفاتا إلى اللغو التاريخي أو يفوقني حيرة في فهم ما يراد ب «علم التاريخ» على وجه الدقة. غير أنه إذا كان للتاريخ أن يكون أكثر على أي نحو من مجرد سجل للتسلسل الزمني للوقائع، وإذا كان له أن يعنى بتحولات العقل والروح، فإن لي إذن أن أؤكد أننا لكي نقرأ التاريخ قراءة صحيحة فلا بد لنا من أن نعرف الأعمال الفنية التي أنتجها كل عصر، بل أن نعرف أيضا قيمتها كأعمال فنية، وإذا كانت الدلالة الإستطيقية للأعمال الفنية، أو انعدام الدلالة، شاهدة حقا على الحالة الروحية؛ فإن الشخص الذي لديه القدرة على إدراك الدلالة لا بد أن يكون في وضع يسمح له بأن يدلي بدلوه فيما يتعلق بالحالة الروحية للأشخاص الذين أنتجوا تلك الأعمال ولأولئك الذين تذوقوها، وإذا كان للفن أن يكون ذلك الشيء الذي يفترض دائما أن يكونه، فإن تاريخ الفن لا بد أن يكون فهرسا للتاريخ الروحي للجنس البشري، يبقى أن المؤرخ الذي يريد أن يستخدم الفن كفهرس ينبغي ألا تقتصر ملكاته على الملاحظة الدقيقة لرجل العلم وعالم الآثار، بل أن يمتلك أيضا حساسية مرهفة؛ ذلك أن الدلالة الإستطيقية للعمل هي ما يقدم مفتاحا لفهم الحالة الذهنية التي أنتجته؛ ومن ثم فإن القدرة على نسبة عمل فني معين إلى حقبة معينة لا تغني فتيلا ما لم تصحبها قدرة أخرى على إدراك دلالته الإستطيقية.
هل يتعين علينا لكي نفهم تاريخ عصر من العصور فهما كاملا أن نعرف تاريخ الفن في ذلك العصر ونفهمه؟ يبدو ذلك، إلا أن هذه الفكرة لا يحتملها علماء التاريخ، وإلا فأية نازلة تحل بالمبدأ العلمي الأكبر: مبدأ انقسام العلم إلى مباحث مستقلة مسيجة منيعة؟ مرة أخرى هذا مبدأ جائر؛ إذ من المتيقن أننا لكي نفهم الفن فلن نحتاج إلى معرفة أي شيء كان عن التاريخ، ونحن ربما كان بإمكاننا أن نستمد من الأعمال الفنية استدلالات عن نوعية الأشخاص الذين صنعوها، إلا أن محادثاتنا مع أحد الفنانين مهما تكن طويلة وحميمة فهي لن تنبئنا إن كانت لوحاته جيدة أم رديئة، إنما يتعين علينا أن نشاهدها، وعندئذ سوف نعرف؛ فقد أكون متحيزا أو غير صادق فيما أقول عن العمل الفني لصديقي، غير أن دلالة العمل الإستطيقية ليست أوضح لي من دلالة عمل فني فرغ منه مبدعه منذ خمسة آلاف عام، فلكي ندرك عملا فنيا إدراكا كاملا فلسنا بحاجة لشيء غير الحساسية. إن الفن ليتحدث عن نفسه إلى من يستطيعون سمعا، بينما لا تتحدث الوقائع والتواريخ بشيء، وعلى المرء إن أراد أن يغزل شيئا من هذه المادة أن يتلقط المعلومات من النجود والأغوار التماسا لنتف من الأخبار والاقتراحات المساعدة، وليس تاريخ الفن استثناء لهذا المبدأ، فإذا شئت أن أدرك فن شخص فلست بحاجة إلى أن أعرف أي شيء عن الفنان، وبوسعي أن أحكم إن كانت هذه اللوحة أفضل من تلك دون عون من التاريخ، أما إذا حاولت أن أبين أسباب تدهور فنه فسوف يعينني أن أعرف أنه قد أصيب بمرض خطير، أو أنه قد تزوج امرأة دفعته إلى أن ينتج للارتزاق فقط؛ فأنا حين أتبين التدهور إنما أقيم حكما إستطيقيا بحتا، وحين أعلل له أتحول إلى مؤرخ، يتعين إذن أننا لكي نفهم تاريخ الفن ينبغي أن نعرف شيئا عن أنواع أخرى من التاريخ، وربما يكون الفهم الدقيق لأي نوع من التاريخ منوطا بفهم كل نوع من التاريخ، ربما يكون تاريخ أي عصر أو حياة هو كل لا يتجزأ، وتلك فكرة أخرى لا يحتملونها! فأي خطب يلم بالمتخصص؟ ماذا يكون مصير تلك الخلاصات التاريخية الهائلة التي تفصل فيها أنشطة الإنسان المتعددة عن بعضها البعض بحرص شديد؟ إن العقل ليجفل رعبا من الرؤية الهولية لاستنتاجاته الخاصة.
ولكن هل يعنيني هذا الأمر على أية حال؟ إنني لست مؤرخا للفن ولا لأي شيء آخر، ولا يهمني بحال متى صنعت الأشياء أو لماذا صنعت، إنما تعنيني دلالتها الانفعالية بالنسبة لنا، فكل شيء عند المؤرخ هو وسيلة لوسيلة معينة أخرى. أما بالنسبة لي فكل ما يهم هو وسيلة مباشرة للانفعال. إنني أكتب في الفن لا في التاريخ، وليس يعنيني التاريخ إلا بقدر ما يسعفني في إيضاح فرضيتي، ولا يعنيني في شيء أصدق التاريخ أم كذب؛ حيث إن نظريتي غير قائمة على التاريخ بل على الخبرة الشخصية، وليست مستندة إلى الوقائع بل إلى المشاعر؛ فالصدق والكذب التاريخيان لا وزن لهما عند من يحاولون التعامل مع حقائق الواقع؛ فهؤلاء لا يعوزهم أن يسألوا «هل حدث هذا؟» بل يعوزهم أن يسألوا فحسب «هل أشعر بهذا؟» ومن حسن حظنا أن الأمر كذلك؛ إذ لو كان على أحكامنا عن الأشياء الواقعية أن تنتظر حتى يأتيها اليقين التاريخي فقد يكون عليها أن تنتظر إلى الأبد، إلا أن من الشائق أن ننظر إلى أي حد يتفق ما نحن واثقون منه مع ما يجب أن نتوقعه. لقد كانت فرضيتي الإستطيقية - أن الصفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال - قائمة على خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبراتي الإستطيقية على ثقة. أما عن فرضيتي الثانية - أن الشكل الدال هو تعبير عن انفعال خاص تجاه الواقع - فلست واثقا منها بحال، ورغم ذلك فإنني أفترض أنها صحيحة وأمضي قدما فأقترح أن حس الواقع هذا يجعل الناس تولي الدلالة الروحية للعالم أهمية أكبر من الدلالة المادية، وأنه يجعلهم أميل إلى الشعور بالأشياء كغايات بدلا من تمييزها كمجرد وسائل، وأن حسا بالواقع هو في حقيقة الأمر جوهر الصحة الروحية، فإن صح ذلك فسوف نتوقع أن نجد أن العصور التي توقف فيها إبداع الشكل الدال هي عصور بات فيها حس الواقع كليلا، وأن هذه العصور هي عصور فقر روحي، وسوف نتوقع أن منحنيات الفن ومنحنيات التوقد الروحي تصعد معا وتهبط معا. وفي الفصل القادم سألقي نظرة على تاريخ دورة من دورات الفن بقصد تتبع حركة الفن واكتشاف مدى مواكبة تلك الحركة للتغيرات التي تعتور الحالة الروحية للمجتمع. إن وجهة نظري عن صعود الفن في العالم المسيحي وانحداره وسقوطه قائمة بالكامل على سلسلة من الأحكام الإستطيقية المستقلة أثق بصحتها ثقة كبيرة وأعتد كثيرا بذلك. إنني أدعي القدرة على التمييز بين الشكل الدال والشكل غير الدال، وسوف يشوقني أن أنظر إن كان انحدار في دلالة الأشكال - أي تدهور الفن بتعبير آخر - يتزامن بصفة عامة مع هبوط الحس الديني، وسوف أتوقع أن أجد أنه حيثما سمح الفنانون لأنفسهم أن تضل عن مهمتها الحقيقية، وهي خلق الشكل، تحت إغراء اهتمامات أخرى غير ذات صلة بالفن؛ فإن المجتمع يكون إذاك في تفسخ روحي، وأتوقع أن العصور التي ضاع فيها حس الدلالة الشكلية تماما في غمرة الانشغال بالواضح سوف يثبت أنها كانت عصور قحط روحي؛ ولذا فإنني فيما أتتبع مصاير الفن خلال أربعة عشر قرنا من الزمان سوف أحاول أن أضع نصب عيني ذلك الشيء الذي قد يكون الفن مظهرا له - أعني حس الإنسان بالواقع النهائي.
أن ننقد عملا من أعمال الفن نقدا تاريخيا هو أن نتصرف بسخف من أسكره العلم، فلم يحدث قط أن صدر عن دماغ مشعوذ نظرية أكثر شؤما من نظرية التطور في الفن. إن جوتو لم يزحف، يرقة، حتى يرفرف تيتيان، فراشة، إن من إساءة الفهم لفن شخص ما أن نعتبره مؤديا إلى فن شخص آخر؛ فإطراء عمل فني أو تسفيهه أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عمل فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأن كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني؛ فما إن نشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غاية في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن؛ فرغم أن التطور في فن التصوير من جوتو إلى تيتان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأية لوحة معينة؛ فذاك أمر غير ذي بال على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يقيم وفق حالته الموضوعية ودون تأثر بأي اعتبارات أخرى.
ليكن القارئ إذن على ثقة بأني لن أقوم في الفصل القادم بوضع أحكام إستطيقية في ضوء التاريخ، بل سأقوم بقراءة التاريخ في ضوء أحكام إستطيقية؛ فبعد أن أضع أحكامي، بمعزل عن أية نظرية إستطيقية أو غير إستطيقية، سأكون مشوقا لأن أرى إلى أي حد تتفق النظرة التاريخية التي قد تستند إلى هذه الأحكام مع الفرضيات التاريخية المقبولة، فإذا صحت الأحكام التي وضعتها والتواريخ التي يقدمها المؤرخون لترتب على ذلك أن بعض العصور قد أنتجت فنا أجود من بعضها الآخر، ولكن مما لا خلاف عليه حقا أن التنوع في الدلالة الفنية للعصور المختلفة هو تنوع هائل، وسوف يشوقني أن أرى نوع العلاقة التي يمكن أن تتأسس بين الفن والعصر الذي أنتجه، وإذا صحت فرضيتي الثانية (أن الفن هو تعبير عن انفعال نحو الواقع النهائي) فإن العلاقة بين الفن وعصره ستكون علاقة محتومة ووثيقة. في تلك الحالة سينطوي كل حكم إستطيقي على نوع معين من الحكم عن الحالة الذهنية العامة للفنان ومحبيه المعجبين به، الحق أن كل من يقبل فرضيتي الثانية قبولا مطلقا بكل متضمناتها الممكنة - وهو أمر يفوق ما أريد أن أفعله - فلن يكتفي بأن يرى في تاريخ الفن التاريخ الروحي للجنس البشري، بل لن يسعه أبدا أن يفكر في أحدهما دون أن يفكر في الآخر.
فإذا كنت لا أشتط في الرأي إلى هذا الحد، فإنني أقترب منه كثيرا؛ فمن المتيقن أن اعتبار الفن مفتاحا للتاريخ هو رأي أكثر استساغة وأقل امتناعا من أن نتخيل أن التاريخ يمكن أن يعيننا على إدراك الفن، إنني أبحث في عصور التوهج الروحي عن الفن العظيم، ولست أعني بعصور التوهج الروحي العصور السعيدة أو الرومانسية أو الإنسانية أو المستنيرة، إنما أعني العصور التي كان فيها الناس لسبب أو لآخر مكترثين بأرواحهم اكتراثا فائقا، وغير مكترثين بأجسادهم. لقد كانت هذه العصور في نصف الحالات عصور خرافة وقسوة؛ فقد يؤدي الانشغال بالروح إلى الخرافة، ويؤدي الاستخفاف بالجسد إلى القسوة، وما قلت على الإطلاق إن عصور الفن العظيم كانت عصور تعاطف مع الطبقات الوسطى؛ فالفن والحياة الهادئة، في ظني، متنافران، ولا بد كي يوجد الفن من وجود بعض التوتر والاضطراب؛ فهل علي أن أضيف أنه في أدفأ عصور المادية قد يظهر فنانون عظام ويزدهرون؟ نعم بالطبع، ولكن حيثما يكن إنتاج الفن العظيم شائعا متدفقا متوافرا سأتوقع أن أجد جيلا متململا قلقا، كذلك كلما تبينت حقبة من الفورة الروحية، فسوف أبحث غير بعيد عن تمثلها في شكل دال، غير أن الفورة يجب أن تكون روحية وأصيلة، فما يكون لدوامة من العاطفية أو السعار السياسي أن تثير شيئا رفيعا،
Неизвестная страница