أما وقد تحدثت بما فيه الكفاية، في حدود غرضنا الحالي، عن المشكلة الإستطيقية وعن «ما بعد الانطباعية»، فأود الآن أن أتناول هذا السؤال الميتافيزيقي: لماذا تهزنا ترتيبات وتجمعات معينة للشكل وتحرك مشاعرنا بهذه الطريقة الغريبة؟ إنه ليكفي بالنسبة لمجال الإستطيقا إنها تحرك مشاعرنا فعلا، وإن بالإمكان الرد على كل استجواب زائد من جانب المملين والحمقى بأنه كيفما تكن غرابة هذه الأشياء فما هي بأغرب من أي شيء آخر يزخر به هذا العالم المفرط في العجب والغرابة. أما أولئك الذين يلوح لهم أن نظريتي تفتح أفقا من الممكنات فإنني أقدم إليهم تخيلاتي عن طيب خاطر، بقدر ما يطيقون.
يبدو لي ممكنا، وإن لم يبلغ اليقين بحال، أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق لأنه يعبر عن انفعال مبدعه ، لعل خطوط العمل الفني وألوانه توصل لنا شيئا ما قد أحسه الفنان، فإذا صح هذا فإنه سيفسر لنا تلك الواقعة العجيبة والتي لا يمكن إنكارها في الوقت نفسه، والتي أشرت إليها آنفا؛ وهي أن ما أسميه الجمال المادي (جناح فراشة مثلا) لا يحرك مشاعرنا بطريقة تشبه طريقة العمل الفني من قريب أو بعيد. إنها شكل جميل، ولكنها ليست شكلا دالا، إنها تحركنا، ولكنها لا تحركنا إستطيقيا، ومن المغري أن نفسر الفرق بين «الشكل الدال»
significant form
و«الجمال»
beauty - أي الفرق بين الشكل الذي يثير انفعالات إستطيقية والشكل الذي لا يثيرها - بأن نقول إن «الشكل الدال» يوصل إلينا انفعالا أحسه مبدعه وإن «الجمال» لا يوصل شيئا.
تجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يفترض أنه يعبر عنه؟ من المؤكد أن الانفعال يأتي إليه أحيانا من خلال الجمال المادي؛ فتأمل الأشياء الطبيعية كثيرا ما يكون هو السبب المباشر لانفعال الفنان، فهل علينا إذن أن نفترض أن الفنان يشعر (أو يشعر أحيانا) تجاه الجمال المادي ما نشعر به نحن تجاه عمل فني؟ هل يحتمل أن يكون وجه الأمر هو أن الجمال المادي بالنسبة للفنان يكون في بعض الأحيان «دالا» بطريقة ما؛ أي قادرا على إثارة انفعال إستطيقي؟ وإذا كان الشكل الباعث على الانفعال الإستطيقي هو الشكل الذي يعبر عن شيء ما، فهل من المحتمل أن يكون الجمال المادي بالنسبة له معبرا؟ هل يشعر وراءه بشيء ما مثلما نتخيل أننا نشعر بشيء ما وراء أشكال عمل فني؟ هل لنا أن نفترض أن الانفعال الذي يعبر عنه الفنان هو انفعال إستطيقي تجاه شيء تفوتنا نحن دلالته في عامة الأحوال وتدق على حساسيتنا البليدة الكليلة؟ كل هذه أسئلة أفضل أن أتأملها على أن أجزم فيها بشيء.
لنستمع إلى ما تعين على الفنانين أن يقولوه من جانبهم. إننا لنصدقهم من فورنا عندما يخبروننا أنهم في الحقيقة لا يبدعون الأعمال الفنية لكي يثيروا انفعالاتنا الإستطيقية بل لأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكنهم به أن يجسدوا صنفا معينا من الشعور، ما هو هذا الشعور على وجه التحديد؟ ذلك ما يجدون الجواب عنه صعبا، ثمة وصف لهذه المسألة قاله لي واحد من أعظم الفنانين؛ هو أن ما يحاول أن يعبر عنه في لوحة فنية هو «فهم انفعالي للشكل»، وقد صممت على أن أكتشف ما يعنيه «الفهم الانفعالي للشكل»، وبعد حديث كثير وإصغاء أكثر خلصت إلى النتيجة التالية: في بعض الأحيان عندما ينظر فنان، فنان حقيقي، إلى الأشياء (محتويات غرفة مثلا) فهو يدركها كأشكال خالصة ذات علاقات معينة بعضها ببعض، ويشعر بانفعال نحوها بما هي كذلك، هذه هي لحظات إلهامه، ثم تأتي بعدها الرغبة في التعبير عما تم الشعور به. إن العاطفة التي أحس بها الفنان في لحظة الإلهام لم تكن تجاه الأشياء بوصفها وسائل، بل تجاه الأشياء أشكالا خالصة - أي غايات في ذاتها. إنه لم يشعر بانفعال نحو أحد الكراسي كوسيلة للراحة الجسدية، ولا كشيء مرتبط بالحياة الأسرية الحميمة، ولا كمكان جلس فيه يوما شخص ما وقال أشياء لا تنسى، ولا حتى كشيء مرتبط بحياة مئات من الرجال والنساء، الأموات والأحياء، بمائة سبب خفي، لا شك أن الفنان كثيرا ما يشعر بانفعالات من هذا القبيل نحو الأشياء التي يراها، ولكنه في لحظة الرؤية الإستطيقية لا يرى الأشياء كوسائل ملفعة بالارتباطات، بل كأشكال خالصة. إن انفعاله الملهم إنما يحسه تجاه الشكل الخالص، أو خلاله على أية حال.
إذن، أن نرى الأشياء كأشكال خالصة هو أن نراها كغايات في ذاتها، فرغم أن الأشكال بالطبع مرتبطة بعضها ببعض كأجزاء في كل؛ فهي مرتبطة على قدم المساواة، إنها ليست وسيلة لأي شيء عدا الانفعال، ولكن ألا نشعر نحو الأشياء التي نراها كغايات في ذاتها بانفعال أعمق وأكثر إثارة من أي انفعال سبق لها نحوها كوسائل؟ في تصوري أننا جميعا نحظى فعلا من وقت آخر برؤية للأشياء كأشكال خالصة؛ إننا نرى الأشياء كغايات في ذاتها؛ أي إننا ننظر إليها - وهو ما يبدو في تلك اللحظات ممكنا بل مرجحا - بعين فنان. من منا لم يظفر ، مرة في حياته على أقل تقدير، برؤية مفاجئة لمنظر طبيعي كشكل خالص؟ إنه لم ينظره في هذه المرة الفريدة كحقول وأكواخ، بل أحس به بالأحرى كخطوط وألوان، ألم يظفر من الجمال المادي في تلك اللحظة بهزة لا تفرق عن تلك التي يمنحها الفن؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يتضح أنه قد ظفر من الجمال المادي بهزة لا يقدر على منحها بصفة عامة سوى الفن؛ لأنه قد اتخذ سبيلا إلى رؤيتها كتضام شكلي خالص للخطوط والألوان؟ ألا نمضي قدما ونقول إنه إذ رآها كشكل خالص، وبرأها من كل ضروب الاهتمام السببي والعارض ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من صلاتها ببني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ فقد أحس دلالتها كغاية في ذاتها؟
ما هي دلالة أي شيء بوصفه غاية في ذاته؟ ما الذي يتبقى عندما نجرد شيئا ما من جميع ارتباطاته؟ ماذا عساه أن يتبقى لكي يثير انفعالنا؟ ماذا غير ذلك الذي درج الفلاسفة على تسميته «الشيء في ذاته»
the thing in itself
Неизвестная страница