ويجب أن يتمرن أعضاء العائلة على ممارسة النظام الديمقراطي في البيت قبل أن يمارسوه في المجتمع.
وأعظم ما يكون الشخصية في الرجال والنساء هو الحرية؛ أي الحرية التي تلقي على عواتقهم تبعات وواجبات يتحملونها، فيؤدي تحملها إلى نموهم. وإذا انعدمت الحرية من البيت استحال إلى سجن، وبعيد بل محال أن تتكون الشخصية في السجن؛ حيث لا مجال للحرية؛ أي للاختيار والتفكير وإحساس التبعة والواجب. هذا الإحساس الذي ينشط الذهن والجسم، ويحمل على التفكير والعمل.
وفن الحياة هو في النهاية فن تكوين الشخصية؛ إذ ليس شيء أجمل في هذا الكون من الشخصية اليانعة التي عاش صاحبها في حرية الفكر والعمل، وفي تحمل التبعات والواجبات، حتى تدرب وتمهر وصارت له فلسفة تعين اتجاهاته وغاياته، فهو يسير في الدنيا وهو على نور وهدى.
ونحن في مصر، للعبء الباهظ الذي نحمله من تقاليدنا الماضية، نتوجس من الحرية، ونخشى الاختلاط، ونضع القيود والحدود هنا وهناك أمام الأطفال والفتيات والسيدات، فلا تجد شخصياتنا التربية التي تؤدي إلى إنضاجها وإيناعها، فينشأ الشاب وهو في خوف من الدنيا لا يقتحم في تفكيره أو عمله، وتنشأ الفتاة وهي محجمة متراجعة، تلتزم الصمت والسكون والاستحياء والتراجع كأنما هذه خطة حياتها؛ فلا تحيى الحياة المليئة، ولا تزدان برشاقة الإيماءة ولباقة الكلمة؛ ولذلك تخسر كثيرا من جمالها الروحي. هذا الجمال الذي لا يعوض منه جمال الجسم الذي يبدو راكدا جامدا، وهو كذلك بالمقارنة إلى الفتاة الأوروبية التي تتذبذب حيويتها طربا في شخصية مغناطيسية تواجه الدنيا في شجاعة وانطلاق واستطلاع، في حين تواجه فتاتنا المصرية دنياها في تقلص وخوف من الاستطلاع؛ وذلك لأن الأولى عاشت في حرية، في حين عاشت الثانية في قيود التقاليد.
ولذلك يقتضينا فن الحياة أن نجعل الحرية تستفيض في البيت، وإذا قضى الحظ أن يتزوج الشاب فتاة دونه في الثقافة؛ فيجب أن يدأب في رفعها إلى مستواه، وأن يجعل من وسطه الاجتماعي ما يحملها على الارتقاء؛ نعني بذلك أن نختار من الضيوف والزائرين الذين نتبادل وإياهم الزيارة أولئك الأحرار المتعلمين الذين يحضونها على أن تثقف عقلها، وأن تتجه الاتجاهات التي تزيد البيت فنا وجمالا، كما تزيد حياتها نضجا وإيناعا.
وقد يتعب الشاب في سنيه الأولى من الزواج وهو يوجه زوجته هذا التوجيه، ولكنه يجد المكافأة بعد ذلك على هذا التعب في سنوات عديدة من الهناء الذي تثمره مزاملة قائمة على المساواة الحقة في الميزات والتأنقات الذهنية.
أما إذا أهمل تثقيفها؛ فإنه سرعان ما يجد الانفصال الروحي قائما بينه وبينها؛ بحيث يعيشان وكأنهما جاران يشتركان في مأوى.
وكما نخشى نحن حرية المرأة كذلك نخشى حرية الصبيان، فنحرمهم مما لا نحرم منه حتى الحيوانات التي يتمتع أطفالها بالطفولة والصبا، فنرهقهم بالدرس في الوقت الذي تصرخ فيه طبيعتهم بالرغبة في اللعب والمرح، بل أحيانا، وحين يزورنا ضيوف، نحاول أن نمنعهم من الاختلاط بهم، وبذلك نحرمهم من التربية الاجتماعية الحسنة التي يستعيضون منها تربية اجتماعية فاسدة باختلاطهم بزملاء لهم قد نشئوا في بيئة غير حسنة.
وشبابنا في مصر يجهلون أشياء كثيرة عن البيوت الأوروبية والإفرنكية، وهم يقرءون القصص أو يرون المسرحيات السينمائية التي تعرض شذوذات الحياة أكثر مما تعرض قواعدها، فيتوهمون السوء والزيف في حياة المتمدنين، وينشئون على استمساك بالحياة الشرقية التقليدية، ويتعصبون لها؛ فينكرون الحرية على المرأة والأولاد، ويمارسون معهم حياة الانكفاف والإحجام، تلك الحياة التي تجعلهم يعيشون في نسك أو ما يقاربه، ويكرهون متع الحياة العائلية ويتوقونها.
أجل، إن شبابنا يجهلون أن الخادمة الأوروبية تقتني مكتبة في غرفتها لا تقل مجلداتها عن مائتي أو ثلاثمائة مجلد، وهي تصر على أن تكون لها ساعات فراغ للقراءة والدرس، ويجهلون أن الضيافة لا تنقطع في البيت الأوروبي الراقي، وأن الأولاد يدعون أصدقاءهم إلى ولائم في البيت، فيجدون التشجيع من آبائهم عن هذا النشاط الذي يكسبهم المرانة الاجتماعية، والضيافة الراقية، وأن الاختلاط بين الجنسين لا ينقطع منذ الطفولة إلى الشيخوخة. وهذا الاختلاط يدرب الفتى والفتاة على الرشاقة، ويوجه الغرائز الجنسية وجهتها السوية، ويمنع الشذوذات البشعة التي تفشو في المجتمعات الانفصالية في الأمم الشرقية؛ فالحياة هناك أملأ وأمتع، والشخصية أتم وأينع.
Неизвестная страница