ويجب أن يكون فن الحياة أخطر من فنون الحضارة؛ لأنه إذا كان من الحسن أن نتخذ الزي الفني للباسنا؛ فإن من الأحسن أن نتخذ الزي الفني لحياتنا وتصرفنا وسلوكنا.
والمشكلة الأولى لكل إنسان على هذا الكوكب أنه سيعيش سبعين أو ثمانين سنة، فكيف يقضيها؟! هل يعيش تلك الحياة التي يصفها شكسبير بأنها «قصة يقصها أبله، فتحفل بالضوضاء والغضب ثم لا يكون لها مغزى؟» أو يعيش تلك الحياة البقلية يولد وينمو ويموت وكأنه بعض البقول؛ لأن قصارى ما كان يطلب طعام وكساء ومأوى؟!
قد يخطر بذهن القارئ عندما نذكر الحياة الفنية أو الحياة البليغة أننا إنما نقصد إلى زخارف وبهارج، ولكن الفن الخالص والبلاغة الحقيقية يعنيان في لبابهما حكمة وسدادا؛ لأن كلمات الحكمة هي أسمى أنواع البلاغة والفن. ولكن ما هي الحكمة؟
هي العمل أحيانا بالمعرفة.
وهي أحيانا تجاهل المعرفة.
وهي التمييز في القيم والأوزان.
والإنسان يختلف عن الحيوان من حيث أنه وجداني يتعقل، في حين أن الحيوان غريزي يندفع، ونحن نهدف إلى قصد في حياتنا في حين هو يعيش جزافا، ونحن نقرر مصيرنا بأيدينا في حين هو ينساق خاضعا للقدر. وقد يخالف قولنا هذا ذلك المنطق الآلي الذي يرتب النتائج على الأسباب، ولكنه يطابق المنطق العملي الذي نحيا به في مجتمعنا المتمدن.
وحياتنا في عصرنا هذا تضطرب وترتبك، بل أحيانا تلتغز، وقد كان لآبائنا أعلام قديمة يسترشدون بها في طريق الحياة الساذجة التي كانوا يحيونها، ولكن هذه الأعلام لم تعد تكفي لإرشادنا في طريق الحياة الجديدة؛ ولذلك نحن في حاجة إلى تعاليم جديدة نتعلم بها كيف نعيش الحياة الفنية؛ أي الحياة الحكيمة، وكيف نقضي سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب ونحن ننمو وننضج إلى الإيناع؛ فلا تكون حياتنا مكابدة، بل التذاذا روحيا وماديا.
ونحن في مجتمعنا إنما نحصل من التعليم - في الأغلب - على أسلوب الارتزاق الناجح، وليس على أسلوب الحياة الناجعة؛ لأننا ننسى أن الحياة أعم وأهم من الكسب، وأننا نكسب كي نعيش، ولا نعيش كي نكسب كما هو الحال الآن.
وإنما صارت الحال كذلك؛ لأن شبح الفاقة يلوح على الدوام في مخيلتنا؛ ولذلك صار التعليم من أجل الارتزاق يغمر كل شيء آخر؛ لأننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين أن اقتصاديات الوفرة على الأبواب تنتظرنا، بل تنادينا، ولا تحتاج إلا أن نومئ بأصبع الرضى فيغمرنا الخير الوفير الذي لا نعرف فيه معنى الفاقة أو الحاجة. وعندئذ؛ أي عندما نومئ هذه الإيماءة، ونرضى بالتعاون بدلا من المباراة في الإنتاج، نستطيع جميعنا أن نعيش العيشة الفنية، ونحيا الحياة الحكيمة، وأن نتوخى مأربا فنيا في كل ما نتناول من معارف أو معايش.
Неизвестная страница