ومن الطبيعي أن تبدو شروط العيش المادية التي تخضع لها المجتمعات بين العوامل التي تعين تطور هذه المجتمعات، ومن الطبيعي أن تختلف أساليب العيش باختلاف الأمم الصائدة والزارعة والتاجرة، إلخ.
وكان يلوح عدم استحقاق هذا الأمر الجلي الذي لا جدال فيه لأي إثبات، ومع ذلك فقد انتفع به في وضع المذهب المنعوت بالمادية التاريخية لقيامه على تفسير التاريخ تفسيرا اقتصاديا حصرا، فبعد أن قرر واضعو هذا المذهب - كما صنع غير مرة - أن الحوادث الاقتصادية تفيد الوقائع كثيرا، قالوا مؤكدين إن جميع حوادث التاريخ المهمة تشتق من النظام الاقتصادي لحينه، فالحياة الاقتصادية تفسر الحياة السياسية، حتى الأفكار والمعتقدات.
وقد أدت هذه المبادئ المبسطة التي كان ماركس رسولها الأكبر إلى ديانة جديدة، إلى الشيوعية، وبما أن المذهب الشيوعي يقيم الإدارة الحكومية مقام الجهد الفردي فإنه يعطل كل تقدم، وما تتمتع به الولايات المتحدة التي يقوم الجهد الفردي فيها مقام الإدارة الحكومية خلافا لذلك من رخاء يدل على ما لتطبيق هذين المبدأين من نتائج مختلفة.
ومن الطبيعي أن تظهر الأحوال الاقتصادية التي يعلق مذهب المادية التاريخية أهمية كبيرة عليها بين علل تطور الأمم، ولكن من المستبعد أن تكون أهمها.
وكثير من العوامل الأخرى ما يمثل دورا أساسيا في بعض الأزمنة، كمبدأ القوميات الذي قام عليه إصلاح أوربة بعد الحرب الأخيرة، ومبدأ الوحدة الذي حفز كثيرا من الدول الصغيرة إلى إقامة إمبراطوريات كبيرة.
ولو وجب أن تعزى الحوادث التاريخية إلى علة واحدة كما يصنع أنصار الماركسية اليوم، لأمكن أن يقال إن بنيان الأمم الفزيولوجي - أي: العرق - أهم من العامل الاقتصادي، ويكفي لاعتقاد ذلك أن يرى أن العوامل الاقتصادية عينها تؤثر تأثيرا مختلفا في عروق متباينة، كالبيض والزنوج، إلخ.
وفي النظريات الشيوعية تطرح أوضح الوقائع عندما يلوح أنها مناقضة للمذهب، ومن ذلك أن كارل ماركس لا يؤمن بغير سلطان الجماعات، مع أن العالم لا يتقدم إلا بالأخيار، فالبخار والكهربا وجميع الاكتشافات التي حولت حياة الأمم أمور تمت بعمل أفراد أقوياء، لا بعمل الجماعات على الإطلاق.
وبما أنه لا يمكن أن يدرس في هذا الكتاب مختلف المناهج التي يصحح بها الماضي تصحيحا صادقا، فإننا نقتصر على درس المناهج التي تزود فلسفة التاريخ بأسس علمية حقيقية.
الفصل الثاني
تعيين الحوادث بالشهادة
Неизвестная страница