ويعد عدم وجود صلة منظورة بين تفه العلل وعظم النتائج من أكثر حوادث حياة الأمم وقفا للنظر، ومن ذلك أن ظهر في صميم بلاد العرب سائق إبل اعتقد اتصاله بالرب فأبدع بأخيلته دينا، فأقيمت بفعل الإيمان الجديد إمبراطورية عظيمة في سنين قليلة، وتمضي بضعة قرون فيؤدي ما صدر عن ملهم جديد من كلام ناري إلى انقضاض الغرب على الشرق، فتقلب بذلك حياة الأمم. وفي أيامنا تصطرع دولة بلقانية حقيرة وإحدى الدول العظمى، فتخرب أوربة بأدمى الحروب التي سجلها التاريخ.
ويواصل هذه السلسلة للحوادث غير المنتظرة نفر من المتهوسين الذين أعمتهم أوهام سياسية مجردة، كذلك، من الأسس العقلية تجرد المعتقدات الدينية القديمة، ويقبضون على زمام روسية، ولم تلبث هذه الإمبراطورية العظيمة أن غرقت في بؤس عميق.
ووقائع مثل هذه مما يبلبل العقل، ولا ريب في أن لها عللها (ولعدم السياق علله)، ولكن تعيين هذه العلل هو من البعد والتعقيد أحيانا ما يوضع معه فوق وسائل التحليل. •••
تنشأ الحوادث التي يتألف منها التاريخ عن عوامل مختلفة، ومن هذه العوامل ما هو ثابت كالأرض والإقليم والعرق، ومنها ما هو عارض كالأديان والغزوات، إلخ ...
ومبدأ العلة هذا هو من أكثر ما يشغل بال الفلاسفة، ويجد أرسطو أربعة معان مختلفة لكلمة: «العلة». وإذا ما نظر إليها من الناحية العملية وجد أنها تدل على حادثة تؤدي إلى أخرى، بيد أن المعلول لا يعتم أن يصبح علة بدوره، ويرى العالم قد تألف من شبكة ضرورات يمثل كل واحدة منها معلولا وعلة معا.
وفي التاريخ تبلغ الحوادث من الانتظام ما يجب أن يرجع معه إلى مدى بعيد جدا أحيانا، وذلك لتعيين تعاقب العوامل التي أدت إليها.
ومن أعظم ما في معرفة التاريخ من مصاعب كون الحاضر الذي يكتنفنا، ونراه جيدا، صادرا عن ماض بعيد لا نراه، فيقتضي حسن إدراك الحوادث أن يرجع إلى سلسلة طويلة من العلل السابقة.
وقليل من الوقائع ما يمكن إفراده في التاريخ، فمن الحوادث التاريخية وما تشتق منه تتألف سلسلة متصلة يتعذر فصل حلقاتها عنها، فلولا الحروب الأهلية في رومة لاستحال ظهور القياصرة.
وكان سبب حرب سنة 1871 المباشر برقية دبلمية، وكانت مصادرها البعيدة معركة ينا التي هي نتيجة الثورة الفرنسية، هذه الثورة التي هي نتيجة سلسلة طويلة من الحوادث السابقة، ولولا ينا ما كنا لنعرف الوحدة السياسية الألمانية على ما يحتمل، هذه الوحدة التي أوجبت سدان. وهكذا نجد أن نابليون الأول أعد الصراع إذا ما رجعنا إلى سلسلة العلل، وكان إنذار النمسة إلى صربية - الذي هو حادث أولي للحرب العظمى - نتيجة سلسلة طويلة من الوقائع لا يمكن إدراكه بغيرها، وكانت عللها المباشرة، وهي ما حدث من جدل بين صربية والنمسة، وما تبع ذلك من إعلان النفير العام في روسية، إلخ، من قلة الأهمية ما كان الدبلميون يأملون معه منع وقوع الصراع، ولم تك جهودهم مجدية؛ وذلك لأنه كان ينتصب خلف العلل الحاضرة الضعيفة عامل القوى المتراكمة نحو غرض واحد منذ زمن طويل والتي كانت من شدة الوطء ما لا تذلله جهود التسكين.
وإذا ما اقتصر المؤرخ في البحث عن مصادر الحرب الأوربية على المفاوضات الدبلمية التي أسفرت عن انقضاض بعض الأمم الأوروبية الكبرى على بعض، لم يدرك شيئا من تكوين هذه الكارثة الهائلة، وهو يقول في نفسه سائلا بلا ريب: إذا كان جميع هؤلاء الأقطاب قد انتهوا إلى الحرب على الرغم من جهودهم الواضحة التي تهدف إلى حفظ السلم، أفلا يكونون قد أصيبوا بجنون؟ لقد نشأ عن سلسلة من العلل البعيدة وجود قوى أشد من إرادتهم، ومن العبث أن تحركوا لإبقاء سلم كانت تفر منهم سريعا، ومن العبث أن أبدوا يأسا عميقا عندما ظهرت هوة مقدرة مفتوحة أمامهم، فما كانوا ليسيطروا على الحال ما داموا غير مؤثرين في الماضي.
Неизвестная страница