Философия истории у Вико
فلسفة التاريخ عند فيكو
Жанры
ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن هذا التحول بدأ عند هوبز متأثرا بما وصلت إليه علوم الطبيعة من الدقة والإحكام، فتطور علوم الطبيعة ووصولها إلى اليقين والدقة والإحكام في مناهجها على أيدي رواد العلم الحديث خاصة جاليليو وبعده نيوتن ، جعل المؤرخين يحاولون بالتدريج أن ينظروا إلى عملهم نظرة علمية ويحاولوا أن يصلوا فيه إلى اليقين.
واستمر هذا الانتقال إلى النظرة العلمية للتاريخ عند الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز؛ فقد تحول في بداية حياته عن المناهج المدرسية وتعمق دراسة الكتاب القدامى من إغريق ورومان، وخاصة المؤرخين والشعراء والفلاسفة وبوجه أخص مؤلفات أرسطو في الأخلاق والسياسة، واتجه إلى هوميروس وترجم الإلياذة ، واهتم بقراءة توكيدوديس (460-396ق.م.) الذي اعتبره أهم المؤرخين السياسيين وترجم كتابه عن الحرب الأهلية (البليبونيزيه) بين أثينا وإسبرطة، وكان هوبز عند ترجمته هذا الكتاب لا يزال ينظر للتاريخ من ناحيتيه الأخلاقية والتربوية ويؤكد على أهمية دراسة الماضي بالنسبة للحاضر والمستقبل. ثم عكف هوبز بعد ذلك على دراسة إقليدس (365-300ق.م.) وجاليليو (1564-1642م) وتوصل إلى نظرية في المعرفة قابل فيها بين العلم باعتباره معرفة بالنتائج أو معرفة مشروطة وبين المعرفة المطلقة أو معرفة الوقائع التي يسجلها التاريخ، ولكنه ظل حتى النهاية على رأيه في أن التاريخ ليست له إلا قيمة أخلاقية بل لقد استبعد المعرفة التاريخية من كتابيه «التنين» و«الجسم» ثم انتهى إلى رأي في التاريخ يشبه رأي ديكارت، الذي يحتمل أن يكون قد تأثر به، وهو أن التاريخ مجرد حكايات يمكن أن تساعدنا، كما تساعدنا الأسفار والرحلات، على تكوين أحكامنا والارتقاء بعقولنا وتعريفنا بعادات الأمم الأخرى، ولكن الإمعان في قراءة التاريخ قد يجعل صاحبه يعرف العادات السيئة في الماضي مع جهله كل الجهل بالعادات السائدة في الحاضر، وقد انتهى الأمر عند ديكارت (1596-1650م) إلى التفرقة بين المعرفة العقلية الدقيقة القائمة على أسس رياضية وبين المعرفة التي تقوم على الخبرة البشرية كما نجدها في معرفة اللغات والتاريخ والجغرافيا التي تثقل في رأيه ذاكرة الإنسان بأعباء غير ضرورية وبذلك يكون ديكارت قد تشكك في القيمة العلمية للتاريخ وقلل من شأنه.
والخلاصة أن حركة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد ونشأة الدول القومية ساعدت جميعا على دراسة التاريخ كما ساعدت على إحياء البحث التاريخي والاهتمام بالمؤرخين والكتاب القدامى بحيث ظهرت مؤلفات عديدة كانت في الواقع مجاميع تضم ذخيرة من الوثائق والنقوش القديمة، ولكنها لم تكن تاريخا بالمعنى الدقيق، أضف إلى هذا ما ذكرناه من قبل من أن أصحاب النزعة الإنسانية قد شجعوا الإقبال على دراسة التاريخ القديم أو بالأحرى نشر كتب المؤرخين القدامى ولفتوا الأنظار إلى فائدة التاريخ، لكن المؤرخين الذين كتبوا بهذا الأسلوب لم تكن كتاباتهم دقيقة ولم تكن لهم دراية بالوقائع التاريخية، أما نزعة الشك في أصالة الوثائق التاريخية - وهي النزعة التي تأثرت بشك ديكارت - فلم ترق إلى مستوى الشك النقدي أو المنهجي، ولم تحاول أن تضع الفروض التي تختبرها بطريقة صحيحة بحيث انصب اهتمام المؤرخين في تلك الفترة على معرفة ما تم في الماضي لا على معرفة كيف تم وكيف تطور حتى وصل إلى حالته، أي أنه لم يخرج من الرواية التاريخية إلى التفسير والتعليل وبالتالي تفسير حركة التاريخ على أساس فروض ومبادئ تبين وجهته ومساره.
ولعل الكتاب الذي جمع بين هاتين الناحيتين هو كتاب جانونه
عن التاريخ المدني لمملكة نابولي، فكان الكتاب الوحيد الذي قدم تاريخا عاما اهتم فيه بالقوانين والنظم الاجتماعية كما أكد نظريته النقدية، خاصة فيما يتعلق بتاريخ السلطة الكنسية، وقد نشأ فيكو في نفس البيئة الثقافية التي نشأ فيها جانونه فكانت نابولي في ذلك الحين مزدهرة بالثقافة والتفكير الحر والحماس الوطني وانتعشت فيها الفلسفة الأبيقورية والنزعة الذرية. (3) الاتجاهات الفكرية في فلسفة فيكو
هكذا نشأ فيكو في المجتمع الإيطالي في زمن كانت فيه نابولي ملتقى تيارات ثقافية عديدة، فدرس في صباه المذهب الذري والأبيقوري، الذي كانت نابولي في ذلك الحين مركزا له، وتأثر تأثرا كبيرا في بداية حياته بالفلسفة الذرية القديمة عند ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس (94 / 99-51 / 55ق.م.) وخاصة هذا الأخير، يظهر هذا جليا في قصيدته «عواطف يائس» التي كتبها في شبابه المبكر عام 1692م متأثرا بدراساته للوكريتوس وقصيدته الكبرى «طبائع الأشياء» وعبر فيها عن تأثره بشخصية هذا الشاعر الروماني ومزاجه المكتئب، وقرأ الكلاسيكيين أمثال أفلاطون وأرسطو وتاسيتوس. كما توفر كذلك على دراسة مذاهب السابقين لعصر النهضة ورواد النزعة الطبيعية الحديثة (أمثال تيلزيو وبرونو وكامبانيلا) كما أثر عليه المنهج العلمي التجريبي عند جاليلو وبيكون وبويل (1627-1692م) تأثيرا قويا. ولا ننسى أن هذا العصر هو عصر سيادة الفلسفة العقلية لديكارت وهوبز وأن الفكر المسيطر كان فكر ديكارت ومعارضه جاسندي (1592-1655م) اللذين لم يجتمعا إلا على شيء واحد ألا وهو معارضتهما لأرسطو وجالينوس (129-199م) والمدرسيين.
كل هذه التيارات الفكرية مجتمعة كانت هي الفكر السائد في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وهي الفترة الزمنية التي عاشها فيكو والتي انتشرت فيها تيارات فلسفية جديدة للإعلاء من شأن العلم وتمجيده، ولم تكن مراكز هذه الدراسات الجديدة في الأديرة أو الجامعات، وإنما كانت في بعض الصالونات الأدبية والأكاديميات التي أسسها رواد النهضة الإيطالية على نمط الأكاديميات العلمية في فرنسا وإنجلترا. واتهم أنصار الفلسفة الجديدة من قبل الكنيسة بالإلحاد وقدم بعضهم لمحاكم التفتيش التي كانت تجثم على الأنفاس في ذلك الوقت. وإذا كان فيكو لم يذكر شيئا عن محاكم التفتيش في سيرته الذاتية رغم نشاطها في نابولي طوال فترة حياته، إلا أن كتاباته لا تفهم إلا من خلال هذه الخلفية القاتمة؛ فقد مزقت المدينة نتيجة الصراع بين المكاتب المقدسة الإسبانية والرومانية التي أخذ الأهالي يقاومونها مطالبين بإبعاد محاكم التفتيش، وقد انعزلت محاكم التفتيش الإسبانية قبل مولد فيكو، ولكن المحاكم البابوية أو الكاثوليكية استمرت طوال حياته وحتى بعد مماته، ثم لم تلبث هذه المحاكم الأسقفية أن لجأت إلى نفس الأسلوب الذي اتبعته محاكم التفتيش.
وفي عام 1688م قدم بعض أصدقاء فيكو المقربين إلى هذه المحاكم بتهمة الزندقة. عاش فيكو إذن فترة الإرهاب الديني والفكري التي تصدت فيها محاكم التفتيش للنهضة الإيطالية وكادت أن تخمد أنفاسها، ولعل هذا - كما يؤكد بعض الباحثين - أن يكون هو سبب لجوء فيكو إلى حجب أفكاره بدلا من توضيحها، واستخدام أسلوب يغلب عليه الغموض ولا سيما في المواضع التي احتاج فيها إلى إخفاء نزعاته الفكرية عن محاكم التفتيش أو الحكام المستبدين الأجانب من ملوك نابولي سواء كانوا من الإسبانيين أو النمسويين، وإذا كان فيكو يزعم في سيرته الذاتية أنه نأى بنفسه عن الفلسفة الجديدة أثناء وجوده في فاتولا من 1686 إلى 1695م، إلا أن الواقع يشهد أنه لم يمض عام حتى حضر إلى نابولي وعاش بالقرب من هذه الفلسفة وعلى صلة بها طوال فترة شبابه، وتمثلت مبادئها في تطوره الفكري وتأثره بالمفكرين القدامى والمحدثين ابتداء من ديمقريطس (460-371ق.م.) وأبيقور (341-270ق.م.) ولوكريتوس حتى ديكارت. وعلى الرغم من انتقاده الشديد للفلسفة الديكارتية إلا أنه ظل ديكارتيا حتى سن الأربعين، وهي السن التي تسجل بداية تبلور أفكاره بوضوح وظهور مبدئه الأصلي. والغريب أن أعظم من نقد ديكارت كان هو نفسه أعظم ديكارتي في إيطاليا. وحتى إذا صدقنا زعمه باعتزال الحياة الثقافية لمدة تسع سنوات في فاتولا، فقد كان متأثرا بديكارت وحياته المتوحدة أثناء إقامته في هولندا؛ إذ قال عن نفسه إنه كتب «المقال في المنهج» بعيدا عن كل أصدقائه معتزلا كأنه يعيش في الصحارى المقفرة.
وفي الفترة بين سنتي 1699 و1706م كان فيكو لا يزال يشارك ديكارت ومالبرانش (1638- 1715م) في ازدرائهما للتاريخ الذي لم يرق في نظرهما إلى مستوى العلم كما عبر عن ذلك في إحدى محاضراته، ولكنه بدأ يتخلص من تأثير ديكارت بعد ذلك بعشر سنوات، بل بدأ يستنكر أحكامه على علم اللغة على الرغم من اعترافه بفضله في تحرير العقول من سلطان أرسطو ومناهج المدرسيين، ويكفي أن نذكر سخريته من ديكارت في هذه العبارة: «لقد أصبحت دراسة اللغات هذه الأيام تعد في نظر الناس شيئا عقيما لا فائدة منه، ويرجع هذا إلى سلطان ديكارت الذي يقول إن من يعرف اللغة اللاتينية لن يعرف أكثر مما كانت تعرفه خادمة شيشرون.»
أخذ فيكو بعد تخلصه من تأثير ديكارت يستعيد في ذهنه عداوته السابقة للتاريخ التي كان متأثرا فيها بديكارت، ويكفي أن نقرأ الفقرة التالية من فصل بعنوان «محاولة عن العلم الجديد» في كتابه «القانون العلمي» عام 1721م لنرى كيف يسخر من إهمال الفلاسفة لعلم اللغة وكيف ينصحهم بالتعمق فيه واستنباط مبادئه الفلسفية: «لقد ظللت طوال حياتي أجد السعادة في استخدام العقل أكثر من استخدام الذاكرة، وكلما ازددت معرفة في علم اللغة ازددت إحساسا بجهلي، وكان يبدو لي في ذلك الحين أن ديكارت ومالبرانش كانا على حق عندما قالا إن التعمق في دراسة اللغة يضر بالفيلسوف ولا يلائمه، ولكنه كان من الواجب على هذين الفيلسوفين المرموقين أن يشجعا الفلاسفة على دراسة علم اللغة وأن يبحثا إمكانية رد هذا العلم لمبادئه الفلسفية.»
Неизвестная страница