وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم. والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطا مبهما بقوة عليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم، ويضع فيه العقل؛ فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه عقلا - أيضا - هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر، لا يزيد ولا ينقص. والناس يشتركون فيه، ويستمدون منه بكميات متباينة. على أن من كان منهم أكثر استمدادا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.
الفقرة (5) الخلود
ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟
ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة التي هي الآن دعامة عظيمة من دعائم الإنسانية. فإنما في أثناء مطالعاتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب - أيضا - فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلا يرى هذا الرأي، ولكننا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي، ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون تغير وجه المسألة. ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي. ولذلك قلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان:
أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب؛ فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رشد وجوب التأويل. وأما جوابه الثاني أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه فإليك خلاصته:
قال: «إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة. والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالدا والعقل المنفعل فانيا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام، الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذن هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية.»
الفقرة (6) فلسفته الأدبية
أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية. وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذهب «المتكلمين» الذين يقولون: إن الخير في يد الله، وأنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب، بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقي فيها الحكيم الفاضل وسعد الشرير اللئيم.
أما حرية الإنسان؛ فهو يذهب فيها مذهبا معتدلا. فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تماما ولا مقيدها تماما. وذلك إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيدا بها لما لها من التأثير على أعماله.
شرح الفقرات السابقة
Неизвестная страница