فلما جاء باكون ورأى ذلك الخمول الفلسفي رام إصلاحه. فكتب في ذلك عدة كتب منها كتابه «القياس الجديد» و«الإصلاح العظيم» وهو أهم كتبه ولم يصدر منه سوى جزئين في عام 1597 - وإليك خلاصة الآراء الفلسفية التي نشرها في كتبه.
رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته - يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته إن كل ما يدرسونه اليوم (أي في أيام باكون) يدرسونه بناء على أقوال اليونان، ولاسيما أرسطو مع أن اليونان لم يعرفوا شيئا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئا في كتابها السامي.
فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها. وفضلا عن ذلك؛ فإن اليونان أمة قديمة وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة. فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذن أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك؛ فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئا إلى الآن ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية. وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة. فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارا عملية.
ولكن قبل هدم القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولا وفروعا، لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب. وبناء على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه وعليه يعتمد العلماء.
الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوى نفس الإنسان في هذا الترتيب ثلاثة أقسام؛ «الذاكرة. والتصور والعقل». وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث. فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة.
ثم إن باكون يأخذ التاريخ. والشعر، والفلسفة، كلا بمفرده ويفرع منه فروعه. فالتاريخ طبيعي وبشري. والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علوم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا الخ. والتاريخ البشري يشمل التاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي (الغير ديني) وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر؛ فإنه يكتفي بقسيمه إلى ثلاثة أقسام وهي: الشعر للوصف. والشعر للروايات. والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون؛ فن معرفة الله. وفن معرفة نظام الطبيعة. وفن معرفة نظام الإنسان. ثم يفرغ باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعا عديدة يضيق المقام دونها. ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارجا عن هذه الدائرة.
ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم وشرحه كل أصوله وفروعه شرحا كافيا وافيا، وجه همته إلى وضع قاعدة لبنائه. فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو توجب. كما تقدم أن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسا طبيعيا. وقد ذكرنا مثال ذلك ف تجربة تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون؛ فإنه قال: إن التجربة عدة مرات لا تكفي بل يجب معها أمران؛ الأول إعادة التجربة والامتحان في نفس المادة المطلوب فحصها إلى ما شاء الله، حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها. وثانيا عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي بل إجراء امتحان سلبي معه. مثال ذلك: بخر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائما. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي؛ فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ماء كان العمل صحيحا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسا طبيعيا. ولا يجوز لك أن تقول: إن أرسطو أو أفلاطون أو أيا كان قد قال ذلك وأثبته، فعلينا أن نصدقه؛ فإننا نريد أن نحكم في أمورنا عقولنا لا عقول الذين تقدمونا. أي أننا لا نصدق أحدا ولا نبني حكما على حكم أحد ما لم تظهر لنا صحة قوله بالتجربة والامتحان والمشاهدة والبرهان - فبناء على ذلك كنست جميع المبادئ القديمة والتعاليم التي من وراء العقل كنسا، وحل محلها علم المحسوسات، أو ما يسمونه العلم الوضعي أو الامتحاني. وقد أطلق باكون وأنصاره بذلك عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي وأعدوا للعلم ميدانا فسيحا قرن فيه العلم بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة. فكأنه روح الحرية بث في العقل والعلم والعمل فأحياها معا.
ولكن فلنبحث الآن بعد مرور القرون الطوال وانتصار العلم والفلسفة في هذا العصر. هل قام العلم بكل الوظيفة التي انتدبه العقل البشري لها؟ هل قدر إلى اليوم على استئصال كل الشقاء والرذيلة من الأرض وإصلاح شأن البشر فيها إصلاحا تاما. هل استطاع إرواء ظمأ الإنسان إلى ما وراء هذه الطبيعة التي هي عظيمة، ولكنها واأسفاه مادية جامدة. وبعبارة واحدة نقول: هل حل العلم محل الدين حلولا نهائيا بعد تلك الحرب العقلية الكبرى، التي دارت رحاها في أوربا بين أمم مختلفة وفلسفات مختلفة.
كلا.. لم يصنع العلم ذلك صنعا تاما بعد، وإن كان قد صنع شيئا كثيرا منه. ولسنا نعلم السبب الحقيقي في هذا العجز. هل هو ضعف العلم نفسه عن إرضاء الإنسانية وتسكين تأثرها، أم هو ضعف الإنسانية نفسها عن احتمال قوة العلم الهائلة.
Неизвестная страница