وفي الأنثروبولوجيا الفلسفية، وتكبدت عناء العيش في كنف حيث حرمتها الحياة من الأبوة، واختارت عنوة حضن الكنيس هربا من ويلات النازية التي لاحقتها إلى كرملية هولندا لتتخلص منها بمعية أختها روز في أبشع الصور في محرقة أشفيتز الغازية سنة 1942، فإن اهتمام آين راند التي اختارت الهروب من الاتحاد السوفياتي في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، سينصب حول النزعة الموضوعية حيث تبحث عن عالم خاص بجون غالت (بطل روايتها الإضراب): عالم فرداني بامتياز، حيث تعلي قيم «فضيلة الأنانية» (عنوان كتابها المميز) بدل قيم كانط المتعالية، فعبارتها المدوية: «امنحني الحرية أو الموت»، تقر أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من جهة أنه مكتف بذاته ولا يتوجب أن تحبسه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة. ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولة ولا مجتمعا بقدر ما نحن تجمع بشري مبني على إرادتنا ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيم خارج أية قوانين أو قواعد؛ لذا لا ينبغي أن نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية أو أنانية المصلحة الفردية التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره.
ما يجمع هاته الوجوه في اعتقادنا هو ذلك الصوت النسوي النقدي الذي تغفله بعض الأقلام الفلسفية ولا تمنحه ما يستحق من اهتمام. فجميعهن رغم اختلاف مشاربهن واتجاهاتهن الفلسفية وانتماءاتهن العقدية واختياراتهن السياسية تركن أثرا فلسفيا عميقا، ناهيك عن الخيوط الناظمة لبعض المفاهيم التي نحتناها حيث التداعي قائم: الحق في كافة الحقوق، الشر، التوتاليتاريا، الاعتراف والرغبة (حيث التوليف بين اسبينوزا وهيجل كما فعلت بتلر) ...
لا يسعنا في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز رغم الكليشيهات التي تظهرها بعض الأنظمة السياسية في هذه الرقعة من العالم، إلا أن نعلي من شأو التفكير الفلسفي الذي تركته هاته الوجوه النقدية وغيرها (وأغلبهن لا يزال على قيد الحياة) في سبيل الدفع بتفكير من هذا النوع في مجتمعاتنا؛ حيث لا تزال النساء عرضة لكل أنواع الاضطهاد والتهميش والتحقير بفضل بنيات التسلط الذكورية المتعششة في تربتنا، والتي ترسخها في عالم اليوم تيارات محافظة لن تزيدنا إلا انتكاسة نحو الوراء (الماضي الذهبي الذي يحلمون به وينادون به حيث تطالب المرأة بالخنوع والطاعة والخضوع لسلطة الرجل بدعوى «ناقصة عقل ودين»). فالتنوير يقتضي أول الأمر الخروج من حالة الوصاية والخضوع، فكيف يمكن قبول ما نشاهده يوميا من مآس وجرائم في حق النساء، والدعوة إلى جهاد النكاح، وإلى حق سبي نساء العدو (هذا إذا صح فعلا أنه عدو؟) ... كيف لنا السكوت عن أنظمة الذل التي تبتغي إبقاء الوضع على ما هو عليه؟
يزداد لدي اليقين أن ثورة الحقوق والمساواة قد أدت فعلا إلى تحولات عميقة بدأت تظهر بوادرها في مجموع الكوكب الأزرق. ورغم أن هدف الليبرالية السياسية والرأسمالية العالمية هو إدخال النساء في إطار أسطورة «مقاربة النوع» إلى عالم المال والأعمال بهدف تلطيف الاستغلال وترسيخ الاستعباد الجديد للنساء، فإنها في حقيقة الأمر تحفر قبرها بنفسها؛ لأن الفردانية كمبدأ قد يؤدي بالمجتمعات المعاصرة إلى نتائج عكسية. يتم تبرير الفردانية بدعوى الحرية الفردية التي هي شرط الديمقراطية الليبرالية، لكن يتم تناسي أن الحرية في شموليتها والسياسية تحديدا هي شرط لا مناص منه؛ لأن منح الاستقلالية المادية للمرأة هو مفتاح تحررها الشامل. هكذا ترى نادية دو موند أن «النساء تستعمل كجيش احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي، يدمج في فترات التوسع الاقتصادي ولكنه يسرح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة ... ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة أيديولوجية مفادها أن الرجل هو من يلبي أساسا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربة بيت. وتستخدم النساء مكان قوة العمل الذكورية لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها. كما تستعمل النساء بطبيعة الحال في أقسام «ضعيفة» و«هامشية» من الطبقة العاملة كما هو حال المهاجرين والمهاجرات.» لذلك تذهب نانسي فريزر في كتابها: حظوظ النسوية
Fortunes of Feminism
إلى ضرورة قطع الصلة مع النيوليبرالية لبناء مجتمع متضامن؛ حيث تقول «تتيح الأزمة الحالية الفرصة لتولي زمام الأمور وربط حلم تحرير المرأة برؤية لمجتمع متضامن. ولكي تتحقق هذه الغايات، تحتاج النسوية لقطع علاقتها بالليبرالية الجديدة، واعتماد «ثلاث مساهمات» لخدمة أغراضها الخاصة:
أولا:
يجب علينا أن نقطع الصلة الزائفة بين نقد مستوى دخل الأسرة والرأسمالية المرنة، والعمل لخلق شكل من الحياة لا يركز على أسعار/أجور العمل وتعزيز الأنشطة غير المأجورة، بما في ذلك أعمال الرعاية.
ثانيا:
علينا أن نغير مسارنا من السجال حول اقتصاد السوق إلى الهوية السياسية، بحيث يتم دمج النضال لتقديم شكل يناهض القيم الذكورية ويسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية أيضا.
Неизвестная страница