مطلقة، ألم لا يدانيه أي ألم» (الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر). وبهذا يكون الله «في جوهره، محبة إلى درجة أن الوحدانية التي هي تعريفه ذاته بأحد المعاني ليست سوى مجرد نتيجة للمحبة»
1
وتضيف: «هناك شكلان من المحبة، اللقاء والانفصال. وهما ضروريان جدا. وينطوي الاثنان على الخير نفسه، الخير الوحيد، المحبة؛ لأنه عندما يقترب شخصان ليسا صديقين من بعضهما، لا يكون هناك لقاء. وعندما يبتعدان لا يكون هناك انفصال. هذان الشكلان حسنان أيضا لاحتوائهما على الخير نفسه.»
2
كتبت آرنت عن المحبة في أطروحتها عن أوغسطين (1929)، لكنها لم تبلغ ما بلغته فايل من تعال وتسام يصير فيه البلاء والشر قدرا لا مفر منه: «أعتقد أن أصل الشر، عند الجميع ربما، بل عند من أصابهم البلاء بصورة خاصة، وخصوصا إذا كان البلاء بيولوجيا، إنما هو حلم يقظة. إنه العزاء الوحيد، غنى المبتلين الوحيد، العون الوحيد لحمل الثقل الرهيب للزمن؛ عون بريء لا غنى عنه على أي حال. فكيف يكون ممكنا الاستغناء عنه؟ ليست له سوى سيئة واحدة، هي أنه غير واقعي. وعزوف المرء عنه حبا بالحقيقة يعني حقا تخليه عن جميع ممتلكاته بدافع جنون الحب واتباع من كان الحق بذاته.» كل البشر يستسلم للشر عن غير وعي، ما دام أنه لا يمكن أن يعيش وحيدا في العالم؛ لأن هذا الأخير هو بوابة ومدخل وحاجز، وفي الوقت نفسه، جسر للعبور «ليس ضروريا أن يقول المرء نعم للشر حتى يتملكه الشر. ولكن الخير لا يشغل النفس إلا إذا قالت له نعم» وهكذا ف «أقصى ما يمكن أن يفعله الكائن الإنساني، هو أن يحافظ في داخله على سلامة ملكة قول نعم للخير» (رسالة إلى جو بوسكيه). وإذا كانت دعوة فايل هي الجرأة في قول «نعم للخير»، فإن دعوة آرنت لملايين الضحايا الذين قادهم بضع مئات من جنود النازية إلى المحرقة، هي قول: «لا»، لا للشر وللهمجية: «لماذا لا يستطيعون التمرد؟» ذلك هو السؤال الذي أحرق حنة وهي تبحث عن أصل الشر، لا بما هو بلاء ميتافيزيقي يجد أساسه في القدر، وإنما بلاء بشري يعبر أيما تعبير عن تصحر هذا العالم. فكل المآسي «التي يمكن أن نتخيلها تعود إلى مأساة واحدة: إضاعة الوقت»؛ لأن إنسانا يعيش وحيدا في العالم، لا يمكنه أن يتمتع بأية حقوق لأن؛ قدره هو الواجبات لا غير.
صبا محمود: نحو أنثروبولوجيا الإسلام
صبا محمود (1962-...) أنثروبولوجية أمريكية (باكستانية الأصل)، باحثة نقدية معاصرة تنتمي إلى الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت ، وتهتم بقضايا عديدة حول النظرية السياسية والأنثروبولوجيا في منطقة الشرق الأوسط (عضو مركز الشرق الأوسط للدراسات) وجنوب آسيا (عضو معهد الدراسات حول جنوب آسيا)، تركزت أعمالها حول مجتمعات ذات غالبية مسلمة، ولها مساهمات عدة حول الأخلاق والسياسة، العلاقة بين الدين والعلمانية، مكانة النساء ودورهن في تلك المجتمعات.
تشغل حاليا منصب مدرسة مساعدة في جامعة كالفورنيا بولاية بيركلي، وقبلها عملت مهندسة معمارية لمدة أربع سنوات، غير أن شغفها بالبحث الأنثروبولوجي وخاصة أنثروبولوجيا الإسلام بدأ لما كانت طالبة دراسات عليا في جامعة ستانفورد على يد أستاذها طلال الأسد الذي لعب دورا هاما في مسارها الجامعي والأكاديمي، حيث أقرت في حوارها مع ناثان شنايدر: «كنت مهندسة معمارية لأربع سنوات ... وعزمت على العودة إلى الدراسات العليا من أجل التفكير في التحولات التي حدثت جراء الصعود الذي عرفه المشهد الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية، لم أكن أعرف حقا الكثير عن الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت؛ ولذا التحقت ببرنامج الدراسات العليا في العلوم السياسية، الذي وجدته ذا توجه مركزي أوروبي للغاية؛ فأدركت أن هذا التخصص لن يساعدني على استكشاف نوعية الأسئلة التي كنت مهتمة بها، كنت محظوظة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت لألج حقل الأنثروبولوجيا الذي أصبح بمثابة تخصصي الأصلي.» معتقدة أن أي تخصص آخر كان سيستوعب نشاطها و«لكن الأنثروبولوجيا مكنتني من متابعة مسألة الاختلاف بطريقة جدية»؛ لأن الكتابات الأنثروبولوجية المبكرة عن مجتمعات المسلمين قد أغفلت دور النساء، وتركزت حول «دراسة الآخر البدائي من أجل تأكيد خصوصية القيم الثقافية والاجتماعية الغربية»، وقد اتجه علماء الإناسة فيما بعد مع تيار ما بعد الحداثيين للاشتغال بطريقة نقدية حول مسألة اختلاف الثقافات، التاريخ، التقاليد، تجدد معه البحث فيما يعرف حاليا بالتنوع الثقافي. وقد مكنها تعاملها مع الفقراء والمحتاجين في الأحياء الهامشية في أمريكا وباكستان، لمساعدتهم على تصميم المساكن وتمويلها وبنائها، من إدراك قيمة الحياة الاجتماعية التي يحاول فيها سكان هذه الأحياء «أن يفهموا عالما ألغى إلغاء كاملا إمكانية وجود حياة هانئة، ورغم هذا لا يزال الناس يحاولون إعادة بناء هذه الإمكانية من خلال مواءمة أنواع مختلفة من الممارسات والعادات».
نالت صبا محمود شهرة واسعة بفضل أبحاثها القيمة حول مكانة النساء في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، حيث أنجزت بحثها الميداني الأول (سياسة التقوى: الإحياء الإسلامي والشخصية النسوية) ما بين 1977 و1995 حول المرشدات الدينيات في القاهرة، بعد أن فشلت في إنجازه بفاس والدار البيضاء والجزائر، الذي نالت بموجبه شهادة الدكتوراه، ومنحتها الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية جائزة فيكتوريا شوك سنة 2005، فإلى جانب مقالاتها النقدية ودراساتها العلمية فقد نشرت مجموعة من العناوين الهامة منها: «هل النقد علماني؟» (2009) بمعية طلال أسد، وجوديث بتلر، وويندي براون، وهو بمثابة مؤلف نقدي يعيد النظر في الجدل الذي أثارته الرسوم الدنماركية والذي صور بأنه صراع بين التجديف وحرية التعبير، بين الرؤية العلمانية والرؤية الدينية للعالم، «سياسات الحرية الدينية» (2015)، «الاختلاف الديني في عصر العلمنة: تقرير حول الأقليات الدينية» (2015)، الذي ناقشت فيه التعدد والتنوع الذي ميز منطقة الشرق الأوسط وبلدان آسيا الجنوبية (سواء في البلدان المستقرة سياسيا واجتماعيا أو في البلدان التي تعيش اضطرابات جراء الحرب والصراعات الأهلية).
حظي كتابها: «سياسة التقوى» بشهرة واسعة بالنظر إلى تحليله للحركات الإسلامية في مصر التي غيرت الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي شجعت النساء على المواظبة على الدروس الدينية في المساجد التي تقدمها المرأة «الداعية» حول الدين منذ ما يقارب ثلاثة عقود في مختلف مساجد القاهرة، وهي دروس هامة جدا - في نظر صبا - بالنظر إلى ما تثيره من نقاشات عميقة أعادت الاعتبار للنساء المسلمات في الحياة الدينية والاجتماعية بعد التهميش الذي طالها بسبب تأويلات مغرضة في حق النساء، حيث دافعت بقوة عن خروج النساء إلى المجال العمومي؛ لمناقشة مواضيع كانت إلى عهد قريب حكرا على الرجال، ويتعلق الأمر بشئون العقيدة والإيمان، فبرامج الوعظ والإرشاد التي اجتاحت بعض البلدان المسلمة (مصر، باكستان، المغرب ...) ستلعب دورا هاما في مجال التأويلات، وستغذي العديد من الأفعال والسلوكيات الإنسانية.
Неизвестная страница