التفسير الروحي للمادة : من الواضح أنه، مثلما أن أكثر الصعوبات التي تواجهها الواحدية المادية هي تفسير مصدر الذهن وطبيعته، فإن المذهب المضاد لها، وهو الواحدية المثالية، ينبغي أن يواجه صراعا عاتيا مع المشكلة المضادة. فلم توجد المادة - أو إذا شئنا أن نرد السؤال إلى أقرب أمثلته إلى البشر، فلنقل: لم كان للذهن جسم؟ إن الموقف الطبيعي يرى أن كثيرا من الردود التي تقدمها المثالية إنما هي أمثلة بارزة لمغالطة وضع العربة قبل الحصان. غير أن بعض هذه الردود منطقية صائبة، وهي تغدو مقنعة تماما إذا ما قبلنا المسلمة الأصلية لكل تفكير مثالي. ولعل أقوى هذه الحجج اثنتان؛ الأولى: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للعمل الفعال؛ إذ إن الأفكار لا تغدو فعالة إلا إذا تم السلوك بمقتضاها، وهذا السلوك يحتاج إلى كائن عضوي مادي. والثانية: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للاتصال. فنحن، بوصفنا كائنات عضوية، أشبه «بعوالم من الجزر»، منعزلون عن غيرنا من الكائنات الروحية، ولا يمكننا أن نتصل بعضنا ببعض إلا من خلال حواسنا - «فالنفس تخاطب النفس من خلال البدن» - والجهاز الحسي فيزيائي أو مادي بالضرورة. ومن هنا كانت حاجة الذهن إلى الجسم.
على أن لدى الواحدي المادي - كما قد نتوقع - ردودا على كل من هاتين الحجتين، أو لديه على الأصح ردا واحدا يسري عليهما معا. فهو يرى أن الحجتين معا تفترضان نفس الشيء الذي نسعى إلى إثباته؛ أعني ضرورة وجود عالم فيزيائي أو مادي. «فالجسم» لا يكون لازما للعمل الفعال إلا في عالم فيزيائي موجود من قبل. وبعبارة أخرى فنحن لا نحتاج إلى الأجسام لكي نخرج الأفكار إلى حيز التنفيذ. إلا لأننا نحيا في عالم من الأشياء المادية، وضمنه الأجسام الأخرى. ولو كان الكون بأسره روحيا أو ذهنيا، لما احتجنا إلى الأجسام المادية لكي تكون أدوات للفعل أو وسائل للاتصال. ففي وسعنا أن نتصور قطعا، في عالم من الوجود اللامادي، أن تتمكن الأذهان من الاتصال بالأذهان الأخرى والتأثير فيها مباشرة، دون أن تضطر إلى استخدام الأداة القاصرة التي تتيحها آليات الإحساس.
معركة المذاهب الواحدية : في معركة المذاهب الواحدية، يشعر كل جانب بأن موقفه يحتاج إلى مسلمات أصلية أقل، ولا يترك من النهايات غير القابلة للتفسير إلا عددا أبسط، فكل من الطرفين يعترف بأنه يلاقي صعوبة في تفسير وجود العالم المضاد، ولكن كلا منهما يشعر أيضا بأنه يستطيع القيام بهذا التفسير على نحو أفضل مما يقوم به خصمه. مثال ذلك أن المثالي يعترف بأن الأجسام وأجهزتها الحسية تبدو وسائل غير كافية للاتصال، أو أدوات غير كافية للعمل. ولكنه يرى أن القول بأن الوسائل المادية عاجزة عن تحقيق الأغراض الذهنية هو أمر أقرب إلى المعقول من القول بأن المصدر الذهنية كافية لتفسير وجود الذهن. وبعبارة أخرى، فإذا سلمنا بأن لكل موقف نقاط ضعفه، فإن المثالي يرى أن الأجزاء الواهنة عنده أقل ضعفا من تلك الموجودة في المذهب المادي. وينظر المادي من جانبه إلى مسألة بطريقة مماثلة؛ فهو يسلم بأن من الصعب تفسير الذهن على أساس الفرض المادي، غير أنه يذهب إلى أن هذه الصعوبة ليست إلا لهو أطفال إذا ما قورنت بالمشكلات التي تواجهها المثالية عندما تبدأ مقدماتها الذهنية. وينتهي المادي من ذلك إلى القول بأن من أكبر المشكلات التي تواجه المثالي كيفية إرضاء الموقف الطبيعي. ذلك لأن الاعتقاد بأن الذهن قد تطور أو انبثق من المادة، هو قطعا أقرب إلى المعقول من الاعتقاد بأن «الذهن» الشامل كان عليه أن يولد العالم المادي لكي يجعل منه مسرحا يمارس عليه فاعليته. ولا يبدو هذا الرأي الأخير، في نظر صاحب المذهب المادي، أقل إقناعا من نظرية «فشته» القائلة إن «الذهن» (أو الأنا، في مصطلحه الخاص) يخلق لذاته عالما خارجيا ماديا لأن الإنسان في أساسه موجود أخلاقي يحتاج إلى عالم مادي صلب يقاومه - فالأنا في نظر «فشته» يعتمد أن يضع أمام ذاته حدا من أجل أن يتغلب على هذا الحد، والإرادة تخلق المادة بوصفها عقبة لذاتها، حتى تمارس طبيعتها الأخلاقية في ذلك السعي المستمر. والواقع أن الواحدي المادي يرى أن موقف فشته هذا، رغم ما يتصف به من امتناع، إنما هو النتيجة المنطقية لذلك الانقلاب الذي يعكس به المثالي وضع العربة والحصان الميتافيزيقيين. فهو يحذرنا قائلا: إذا بدأت بالمقدمة المثالية الروحية، فسوف ينتهي بك الأمر، بطريقة منطقية خالصة، إلى حماقة فشته. (4) الواحدية المحايدة
لا بد أننا قد أدركنا الآن أن كلا من هذين المذهبين الواحديين يمثل تبسيطا مفرطا للمسألة الأساسية. فكلاهما يبدو وقد وقع أحيانا في مغالطة الرد
Reductive Fallacy ، وكلاهما يبدو مصابا بعمى جزئي فطري بالنسبة إلى إدراكه لأهمية جوانب معينة في التجربة البشرية. ومع ذلك فإن الجدل الذي احتدم بين المدرستين قرونا طويلة قد أفاد الفلسفة في نواح متعددة. فقد كشف هذا الجدل عن الطابع الأساسي للمسألة موضوع البحث، وبين عقم الحلول المبسطة لمشكلة الواقع، كما أنه أرغم كلا من الجانبين على أن يزداد تعمقا، فكشف بذلك عن متضمنات كثيرة جديدة للتجربة أصبحت جزءا من تراثنا العقلي الدائم. وأخيرا فإن هذا الجدل حين كشف عن عدم كفاية الموقفين المتطرفين (أعني حين كشف ذلك للجميع فيما عدا أولئك الذين يقولون بوجهة النظر نفسها) قد دفع المفكرين إلى البحث عن حلول أشمل وأكثرا إقناعا. وهكذا فإن ذلك الخلاف، الذي كان في بعض الأحيان مريرا، كان نافعا بقدر ما كان محتوما. فقد تعلمنا منه الكثير، حتى وإن يكن عدد أولئك الذين وجدوا فيه إجابات مرضية تماما قليلا بحق.
ولقد اقترح اسبينوزا، في أوائل عهد الفلسفة الحديثة، حلا يعد واحدا من الحلول الشاملة لهذه المشكلة الميتافيزيقية. هذا الحل هو النظير الأنطولوجي لنظرية «الوجهين» التي قال بها اسبينوزا بشأن العلاقة بين الذهن والجسم، وهي النظرية التي عرضناها في الفصل السادس. ويعرف موقف اسبينوزا أحيانا «بالواحدية المحايدة
Neutral Monism »، كما يشار إلى مذهبه بالقول إن الواقع النهائي ليس ذهنيا ولا ماديا، وإنما هو جوهر محايد، يكون الذهن والمادة مجرد صفات له. هذا الرأي، كم قلنا من قبل، ينظر إلى ذهن الإنسان وجسمه على أنهما مجرد وجهين لنفس الجوهر الواحد الكامن من ورائهما. وهكذا فإن تسميتنا للحادث «ماديا» أو «ذهنيا» تتوقف على الطريقة التي ننظر بها إليه. فإذا ما نظرنا إليه من خلال وجه معين (أي علاقات معينة) لبدا لنا حادثا ذهنيا، وإذا نظرنا إليه من خلال الوجه المادي، لبدا لنا بالطبع حادثا جسميا، ولكن الواقع أنه هو نفس الحادث، لا يمثل إلا تعديلا لنفس الجوهر الواحد.
مذهب اسبينوزا : على الرغم من أن الواحدية المحايدة لا ينبغي أن تعد هي ومذهب اسبينوزا شيئا واحدا، فإن تفكير اسبينوزا هو الممثل الكلاسيكي لوجهة النظر هذه؛ لذلك فإن خير ما يمكننا عمله هو أن ندرس بعض تفاصيل هذا المذهب. فاسبينوزا يرى أولا أن هذا الجوهر الشامل هو الموجود الحقيقي الوحيد، وليست كل الأشياء الأخرى، المادية منها والذهنية على السواء، إلا صفات أو أحوالا له. وهو يعرف هذا الجوهر صراحة بأنه «ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته»، وفضلا عن ذلك فالجوهر هو ذاته الله. فكل ما يوجد هو الله أيضا، ولما كان الجوهر أو الله واحدا أزليا لا متناهيا، فإن الواقع بدوره واحد أزلي لا متناه. ويمتد هذا التوحيد بين الله والجوهر والواقع، في مذهب اسبينوزا، بحيث يشمل الطبيعة. ويقتصر اسبينوزا عادة، في مصطلحه الخاص، على استخدام اللفظين الأخيرين من هذه السلسلة الشاملة، ويتحدث في العادة عن «الله أو الطبيعة
Deus Sive Natura ».
وسوف تتاح لنا في فصولنا الأخيرة فرصة الكلام بمزيد من التوسع عن هذا التوحيد بين الله والطبيعة، الذي يعرف في المصطلح الفلسفي باسم «مذهب شمول الألوهية
Неизвестная страница