بعض النتائج المؤسفة للبحث في المعرفة : لا شك أن الاهتمام بإجراء هذا التحليل الأولي يمثل، نظريا، موقفا معقولا، ولكن ينبغي أن نعترف بأن بعض نتائج هذا الحذر كانت مؤسفة جدا. فتأثيره العام في الفلسفة الحديثة هو أنه جعلها مريضة عقليا. ذلك لأن المفكرين قد أصبحوا منهمكين في المشكلات المتخصصة الدقيقة في ميدان المعرفة إلى حد أنهم أخذوا يفقدون بالتدريج اتصالهم بالمسائل ذات النطاق الأوسع، التي كانت الفلسفة تهتم بها تقليديا. وهكذا أصبحت الفلسفة أشبه بالشخص المصاب بالوسواس، الذي يهتم بنفسه إلى حد أن أبسط التقلبات في حالته الصحية تتضخم أهميتها وتحتل في ذهنه مكانة تزيد على مكانة الحوادث الحقيقية الهامة في العالم الخارجي. وكذلك يصبح الذهن الفلسفي شاعرا بذاته أكثر مما ينبغي. فبدلا من أن تسعى الفلسفة إلى إصدار أحكام لها دلالتها بشأن طبيعة الواقع، أو معنى التجربة البشرية، نراها تكرس جهودها لإصدار أحكامها الخاصة. وبدلا من أن ينظر المفكرون المحدثون إلى العالم تلك النظرة الصريحة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة العقلية، وبينما الفلسفة الكلاسيكية كانت في أساسها موضوعية، فقد أصبحت الفلسفة في عصرنا هذا ذاتية قبل كل شيء.
وهناك نتيجة أخرى مؤسفة لهذا الاهتمام المفرط بعملية المعرفة، هو إبعاد الجمهور العام عن الفلسفة؛ ذلك لأن مشكلات المعرفة فنية متخصصة إلى حد بعيد وتحتاج إلى مصطلح خاص وأساس معين من المعارف. ومن ثم فإن الجزء الأكبر من الكتب المعاصرة المتعلقة بالفلسفة يظل غير مفهوم حتى بالنسبة إلى القراء المثقفين من ذوي الاهتمامات العامة. فالفيلسوف المحترف هو وحده الذي يستطيع أن يدخل إلى أعماق هذه المؤلفات، أو هو وحده الذي يستطيع، بعد دخوله، أن يخرج من الطرف الآخر دون أن تبدو عليه أية آثار من العناء الذي ألم به. وهكذا ندور في حلقة مفرغة: فلم كانت الكتابة الفلسفية قد أصبحت أبعد على نحو متزايد عن فهم القارئ العام، فإن قراءته لها تتناقص؛ ومن ثم فإن معظم الكتاب في هذا المجال لم يعودوا يعملون في كتابتهم حسابا للقارئ غير المحترف. وهذا بدوره قد جعل الفيلسوف أقل حرصا على محاولة الوصول إلى استبصار عميق بالمشكلات العامة للتجربة البشرية. وسواء أكان من الإنصاف اتهام الفيلسوف بأنه يعيش في برج عاجي أم لم يكن، فليس من شك في أنه يقضي اليوم معظم وقته في «الورشة» الفلسفية. فهو قد أصبح، كالعالم، باحثا قبل كل شيء، يهتم بمشكلات فنية ومتخصصة إلى أبعد حد.
هل هناك ضرورة للبحث في المعرفة؟
يشعر المبتدئ في ميدان الفلسفة أحيانا بالرغبة في تجاهل مشكلة المعرفة وإغفالها، وذلك كرد فعل منه على الطابع الفني والذاتي المفرط، الذي تتميز به الفلسفة المعاصرة. وهو على الأرجح يبرز ذلك على أساس أن كل ما نحتاج إلى افتراضه هو (1) وجود العالم الخارجي، (2) ووجود أذهاننا الخاصة، (3) وإمكان وجود نوع من العلاقة المعرفية بين الاثنين. وهو قد يشعر أن لنا الحق في افتراض فاعلية هذه العلاقة بين عالم المعرفة الباطن، وعالم الأشياء الخارجي، ما دام من المحال، على أساس فرض التطور، أن نكون قد تمكنا من البقاء بوصفنا نوعا، ما لم يتحقق لنا، بفضل عملياتنا المعرفية، اتصال مرض بالعالم الذي نعيش فيه. فلو لم تكن أذهاننا قادرة على التعامل مع الواقع، ولو كانت حواسنا تعطينا صورة مشوهة تشويها خطيرا «للأشياء كما هي في ذاتها»، لما استطاع الجنس البشري أن يبقى طوال المدة التي عاشها بالفعل. ولما كان هذا الجنس قد استطاع البقاء، وتكاثر عدديا، فإن هذا يبدو دليلا على فعالية عملية المعرفة لدينا. وإذن فأي سبب يمكن أن يبرر لنا الشك في رأي الموقف الطبيعي في المعرفة؟ أليس للشخص البريء فلسفيا كل الحق في ادعاء أن حواسه وعقله يشتركان في إعطائه صورة موثوقا منها للعالم الخارجي؟
هذا التبسيط في مجال معرفة هو أمر يغري كل مستجد في ميدان الفلسفة على الدوام. ومن المؤكد أنه كفيل بإزالة كثير من الخلافات التي تعاني منها الفلسفة اليوم. ولو تحقق له القبول، لنقص عدد المشكلات الفكرية نقصا ملموسا، ولأصبحت المشكلات المتبقية أبسط بكثير. ولكن من المؤسف أن مثل هذا المخرج البسيط غير متاح لنا. فليس في وسعنا أن نصل إلى أية نتيجة في الفلسفة بدون أن تطل علينا مشكلة المعرفة برأسها، وعندما نحاول أن نصيب الأفعى بتلك الصيغة الصغيرة البسيطة التي يضعها المبتدئ، فإن الأفعى لا تتأثر بشيء. ومن هنا فإن أبسط مدخل إلى الفلسفة ينبغي أن يشتمل على عرض لبعض الحلول الهامة التي اقترحت لمشكلة المعرفة. (2) مصادر المعرفة: مذهب السلطة
هناك أولا بعض الطرق الأساسية للمعرفة، ومن الممكن تصنيف المدارس المختلفة في نظرية المعرفة على أساس مدى تأكيد كل منها واحدة من هذه الطرق. أولى وسائل المعرفة هي: مذهب السلطة
Authoritarianism .
2
والفكرة الأساسية في هذا المذهب هي أن المصدر النهائي للمعرفة هو سلطة من نوع ما: كالكنيسة، أو الدولة، أو التراث، أو الخبير. ولا شك أن المشكلة التي نبحثها ها هنا متداخلة مع مشكلة السلطة في صلتها بالحقيقة، وهي المشكلة التي ناقشناها في الفصل السابق، غير أن الباحث في نظرية المعرفة يمضي في التحليل شوطا أبعد بكثير.
لماذا لم تكن السلطة كافية : إن أفضل سبيل إلى البدء في تحليلنا للسلطة بوصفها المصدر النهائي للمعرفة هو أن نعلن مقدما النتائج التي سوف يسفر عنها التحليل. فالسلطة، في نظر الفلسفة، لا قيمة لها بوصفها حلا لمشكلة المعرفة. وتبدأ أسباب هذا الاستنتاج في الظهور حالما نتساءل عن قوام السلطة. وعن المعيار الذي ينبغي أن نفضل به سلطة على أخرى. وتلك أسئلة لا يستطيع القائل بفكرة السلطة أن يتجنبها؛ لأن السؤال «أية سلطة؟» هو سؤال عملي تماما، وهو يثار في أحيان كثيرة. فعندما نجد أنفسنا إزاء اثنين أو أكثر يطالب كل منهما بالعرش، فلا بد من أن يكون هناك معيار معين للاختيار بين المتنافسين. وهذا المعيار، كما سنرى فيما بعد، ينبغي أن يكون مقياسا معينا خارجا عن نطاق السلطات المتنافسة ذاتها. وبالاختصار، فعلى حين أن السلطة قد تكون هي المصدر النهائي للمعرفة، فإن هذا يبدو أمرا بعيد الاحتمال تماما، ما دامت لا تنطوي في ذاتها أبدا على ما يشهد بوجوب التوقف عندها؛ ذلك لأن نفس عبارتها القائلة: «أنا السلطة» ليست كافية، ولا بد أن يكون هناك شيء مستقل عن كل سلطة - حقيقية أو مزعومة - يساعدنا على تمييز الغث من السمين. ومن ثم فإن تحليلنا لمذهب السلطة يصبح دراسة للمعايير الخارجة عن نطاق السلطة التي يلتجئ إليها دعاة المذهب لدعم موقفهم. فلنختبر هذه المعايير إذن، وندرك لماذا كانت الفلسفة تجد معظمها غير صحيح.
Неизвестная страница