ولا بد أن يكون القارئ قد أدرك أن الخلاف بين القائل بنظرية الخلق والقائل بنظرية التطور يرتد إلى صراع بين النزعة الطبيعية والنزعة فوق الطبيعية . فالفيلسوف المؤمن بالمذهب الطبيعي ينظر إلى الفرض الدارويني - عن حق تماما - على أنه واحد من أقوى أسلحته؛ إذ إن هذه النظرية هي التي أسهمت بالدور الأكبر في إتاحة امتداد التفكير الطبيعي إلى الميادين البيولوجية والنفسية والاجتماعية. أما القائل بنظرية الخلق فلا بد أن يكون من المؤمنين بالنزعة فوق الطبيعية؛ إذ إن نفس مفهوم الخلق الخاص يقتضي فاعلا أو قدرة خارجية (أي فوق الطبيعية) من نوع ما. ولو نظرنا إلى المسألة من خلال النزاع بين مختلف المدارس الفلسفية، لوجدنا أن التأثير العام للمذهب التطوري كان دعم المذهب الطبيعي إلى حد بعيد. وعلى العكس من ذلك، فربما كان المذهب التطوري هو أقوى عامل منفرد أرغم النزعة فوق الطبيعية على الوقوف موقف الدفاع، بل إن المثالي نفسه قد وجد لزاما عليه، في كثير من الأحيان، أن يعدل تفكيره على نحو يتسع معه للنظرية الجديدة ونتائجها الضمنية. (10) صراع بين المذهب الآلي والمذهب الحيوي
بعد أن أسفرت الحرب بين مذهب الخلق ومذهب التطور عن انتصار الأخير إلى حد بعيد في وقتنا الحالي، وذلك من وجهة النظر العلمية على الأقل، فإن الجدال بين أنصار المذهب الآلي وأنصار المذهب الحيوي قد أصبح أشد ميادين الخلاف حيوية في ذلك المجال الغامض المسمى «بفلسفة العلوم البيولوجية». ويبدو أن كل جيل يتعين عليه أن يقاتل في ميدان جديد؛ ففي الوقت الحالي أصبح الميدان الرئيسي للمعركة هو ذلك الفرع من الميدان البيولوجي، المسمى «بعلم النفس». ومع ذلك فالأفضل أن نبدأ بدراسة الجدال بين المذهبين الآلي والحيوي في علاقته بميدان البيولوجيا بوجه عام.
عرض موجز للموقفين : يدل لفظ المذهب الآلي في البيولوجيا على ما يعنيه هذا اللفظ بالضبط؛ فهو محاولة للامتداد بالنظرة الآلية إلى الكون بحيث تشمل الكائنات الحية. ويرى هذا المذهب باختصار أن من الممكن تقديم تفسير كامل للكائن العضوي على أساس المبادئ الآلية؛ أي عن طريق القوانين التي تسري على المادة في حركتها. ولو شئنا استخدام تعبير أدق وأقرب إلى الروح العلمية، لقلنا إن المذهب الآلي البيولوجي يرى أن الكائن العضوي نظام فيزيائي كيموي، يمكن تحليل سلوكه إلى تلك الأنواع من التفاعلات التي تدرس في معامل الفيزياء والكيمياء. وهكذا فإن القائل بالمذهب الآلي لا يعترف بوجود فارق هام بين العالمين العضوي وغير العضوي: فالسلوك على المستوى العضوي لا يمثل إلا صورة أشد تعقيدا بكثير، من تلك التفاعلات التي تميز سلوك المادة غير العضوية. وينكر المذهب الآلي أن يكون أي عامل أو مبدأ غير فيزيائي قد ظهر في الطبيعة مقترنا بظهور الحياة. وهكذا تصبح البيولوجيا مجرد امتداد للفيزياء والكيمياء في مجال يتضمن ظواهر أعقد من تلك التي يدرسها العلمان الآخران عادة. ومع ذلك، فلما كان ميدان البيولوجيا متصلا بميداني هذين العلمين الأقدم منه عهدا، فإنه لا يحتاج إلى مبادئ جديدة أو مفاهيم أساسية جديدة كل الجدة.
أما المذهب الحيوي
فيعتقد أن الظواهر العضوية لا يمكن تعليلها تعليلا كافيا على أساس معرفتنا الحالية للفيزياء والكيمياء، ولا على أساس أية معرفة مقبلة شاملة لقوانينهما. فصاحب هذا المذهب يرى أن ظهور الحياة في الكون قد أدى إلى إدخال عامل أو مبدأ جديد أصيل في الطبيعة. وهو يرى، فضلا عن ذلك أن هذا المبدأ «حيوي» غير آلي وغير مادي وغير كيموي. وهكذا فإن المذهب الحيوي هو في أساسه المذهب القائل إن ظواهر الحياة فريدة في نوعها - إنها فئة لا نظير لها - ومن ثم فهي تختلف أساسا عن الظواهر الفيزيائية الكيموية. فصاحب هذا المذهب يجد في الكائنات العضوية الحية شيئا جديدا ومختلفا كل الاختلاف عما يمكن كشفه في أي مجال آخر من مجالات النظام الطبيعي؛ أعني شيئا لا يمكن تعليله على أساس مجرد زيادة تعقد أو تعدد العوامل الموجودة من قبل. هذه الإضافة الجديدة المفترضة إلى الطبيعة تكاد تكون مما يستحيل تعريفه، ما دامت (كما قلنا الآن) فريدة في نوعها، والشيء الذي يكون منفردا تماما يستحيل تعريفه؛ إذ إن كل تعريف ينبغي أن يكون بالنسبة إلى شيء آخر داخلا في نطاق تجربتنا. وقد أطلق مختلف أنصار المذهب الحيوي على هذا العامل غير القابل للتعريف أسماء متباينة ، «كالقوة الحيوية» أو «قوة الحياة» أو «الكمال
Entelechy » أو «الدفعة الحيوية
Élan Vital » أو «العالم شبه النفسي
»، وغيرها. وحاول آخرون وصف طبيعته المفترضة على أساس الاختلافات التي تفرق بين النشاط العضوي والنشاط غير العضوي، غير أن هذا العامل قد ظهر آخر الأمر غامضا غير قابل للوصف. (11) حجج كل من الجانبين
لكل من جانبي النزاع حججه القوية. وسوف نستمع إلى صاحب المذهب الآلي في البداية؛ إذ إن المذهب الحيوي إنما هو إلى حد بعيد نقد لما ينطوي عليه الموقف الآلي من تبسيطات أو نواقص (حقيقة مزعومة). (1)
حجج المذهب الآلي : (أ) يشير صاحب المذهب الآلي أولا إلى أن وجهة النظر العامة للعلم، وكذلك منهجه العام، تتسم بأنها آلية. ومما له دلالته الخاصة أن أشد العلوم دقة؛ أعني أقرب العلوم إلى المثل الأعلى لكل نشاط علمي، هي الفيزياء والكيمياء. وهذان العلمان يقومان على أساس من العلية الآلة. وفضلا عن ذلك فإن العلم كلما ازداد دقة، ازداد اقترابا من الطابع الآلي. وهكذا يكون لنا الحق في أن نفترض أن العلوم البيولوجية كلما ازدادت دقة، أصبحت تفسيراتنا أقرب إلى الطابع الآلي. (ب) وهناك علاقات عامة معينة بين البيولوجيا وبين العلوم الأخرى تشير إلى ضرورة تفسير العمليات الحيوية تفسيرا آليا. ومثال ذلك أن كل الكائنات العضوية تخضع لقوانين المادة ومبدأ «بقاء الطاقة». وربما كان الأهم من ذلك أن كثيرا من التركيبات والعمليات الحيوية الخاصة يمكن إرجاعها إلى تركيبات وعمليات آلية أو كيموية. ولعل أفضل مثال لذلك، التحليل الكيموي للخلايا، الذي يرجعها إلى أجزاء مكونة لها كالبروتينات والببتونات وما شابهها، وهذه بدورها ترد إلى تجمعات شديدة التعقيد من الهيدروجين والنيتروجين والكربون وغيره. (ج) وهناك حقيقة تدعم موقف صاحب المذهب الآلي بقوة، هي أنه كان هناك اتساع مطرد، من الوجهة التاريخية، في تطبيق التفسير الآلي على العمليات البيولوجية، وضمنها تلك التي كان يعتقد من قبل أنها بمنأى عن مثل هذا التفسير، كالاستجابة للمنبهات مثلا. وعلى الرغم من وجوب الاعتراف بأن هناك عمليات عضوية متعددة لم تخضع بعد للتفسير الآلي، فإن هناك احتمالا (بل ترجيحا في نظر البعض) في أن تخضع هذه بمضي الوقت لتلك الطريقة في التفسير. وكما أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة، فإن صاحب المذهب الآلي هو إنسان لديه إيمان معين؛ أعني إيمانا بالمناهج الآلية. فهل يستطيع أحد أن ينكر عليه حقه في هذا الإيمان، بعد ما توصل إلى تحقيقه الآن من إنجازات؟ (د) ويستفيد القائل بالمذهب الآلي كثيرا من الكشوف التي تم التوصل إليها، في ميدان إنتاج تركيبات صناعية تحاكي الكائنات العضوية بنجاح. وهناك أمثلة أقوى من هذه تأثيرا في أذهان معظم الطلاب، وهي حالات الإخصاب الصناعي التي ذكرت في هذا الفصل من قبل، والتي أمكن فيها الاستغناء عن الحيوانات المنوية للذكر بطرق آلية أو كيموية. والواقع أن كثيرا من الأذهان ترى في هذه المحاكاة للأشكال أو العمليات الحية، حتى مع كونها قليلة العدد، أقوى حجة ممكنة تؤيد المذهب الآلي فتراهم يتساءلون: إذا كنا قد استطعنا أن نفعل كل هذا الآن عن طريق محاكاة العمليات الحيوية، فما الذي يمكن أن يحمله المستقبل في طياته من الاحتمالات؟ (2)
Неизвестная страница