تلك هي الحجة القديمة، التي أحسن عرضها اسبينوزا ومفكرون كثيرون غيره. فهل نحن نرغب في أشياء ومثل عليا معينة لأنها خيرة، أم نحن نسميها خبرة لأننا نرغب فيها بطبيعتنا، ونحاول على هذا النحو أن نبرر رغباتنا بإطلاق أسماء تمجيدية عليا؟ إن الخيرية في نظر المثالية، تكمن في أشياء معينة وأفعال معينة لأن هذه الأشياء والأفعال تكون جزءا له دلالته من الخطة الكونية. أما المذهب الطبيعي فيرى أن هذه «الأمور الخيرة» لا توجد إلا سبب طبائعنا البيولوجية وحاجاتها. فلدينا بوصفنا أفرادا وبوصفنا جنسا في آن واحد، حاجات ينبغي الوفاء بها إذا أردنا استمرار بقائنا الفردي وتحقيق مصالح النوع الذي ننتمي إليه. ولذا فنحن نطلق اسم «الخير» على تلك الأشياء (كالطعام) أو النظم (كالزواج) أو الأفعال (كتضحية الوالدين) التي تفي بأي من الحاجات الأولية، وهذا هو كل ما يمكن أن يعنيه اللفظ في نظر المذهب الطبيعي. أما الحديث عن «الخير» بوصفه ما يعلو على مصالح البشر فهو بالنسبة إلى تفكير المذهب الطبيعي حديث لا معنى له.
الآراء المتضاربة حول طبيعة الإنسان : هناك سبب آخر غير الأسباب السابقة، للتعارض الدائم بين هاتين المدرستين. فعلى الرغم من كل ما قد تقوله المثالية عن وجود قرابة بين الإنسان وبين الكون الملائم له، فإنها تبني مذهبها الأخلاقي على أساس وجود انفصال بين «الطبيعة» وبين «الطبيعة البشرية»؛ فالمثالي، مع إصراره على تأكيد الطابع العقلي والأساس الروحي لعالم الطبيعة، يرى أن الإنسان بما له من ذهن وإرادة روحية ينفرد بهما عن غيره، له كيان مستقل عن بقية الطبيعة. وفضلا عن ذلك، فالطبيعة البشرية ليست مستقلة فحسب، وإنما هي أعلى؛ أي إنها حلقة اتصال - إن جاز هذا التعبير - بين الطبيعة والذهن الشامل، أو بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعي. ومن هنا فإن المثالي لا يتأثر عندما يقول صاحب المذهب الطبيعي مثلا أنه ليس ثمة دليل على وجود العدالة في الكون إلا بوصفها مثلا أعلى بشريا محضا، ويبين أن القانون الأساسي للطبيعة يبدو شيئا أشبه بقاعدة «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»؛ ذلك لأن المثال يعترف بأن للطبيعة «أنيابا وأظفارا مخضبة بالدماء»، ولكنه يؤكد أن امتلاك الإنسان للعقل ينأى به عن هذا القانون البدائي الذي هو مجرد قانون للصراع المرير من أجل البقاء. فالطبيعة البشرية تنال الخلاص بفضل اقترابها من مصدر «العقل» و«الخيرية» وبهذا تعلو على أصلها الحيواني.
أما في رأي المذهب الطبيعي، فإن الإنسان أحد أفراد النوع الحيواني، وهو لا يستطيع الخلاص أبدا من هذا الأصل، على الرغم من امتلاكه العقل أو الوعي. فعالم الطبيعة شامل لكل ما فيه على نحو متصل، والإنسان جزء من هذا العالم، شأنه شأن أي نوع آخر: وهو لا يقل عن أي شيء آخر في الكون من حيث خضوعه لقوانين العالم، وتحكم مبدأ العلة والمعلول في أفعاله؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف استثناءات، صحيح أن لكل نوع قدرات وخصائص فريدة، غير أن امتلاك هذه الخصائص لا يفصل هذا النوع بأية حال عن بقية النظام الطبيعي. كذلك فإن القدرات الفريدة للنوع لا تضفي عليه أهمية تزيد على ما للأشكال الأخرى للحياة. ولا جدال في أن الحيوان القارض تبدو له القدرة على الهضم أهم «وبالتالي ذات دلالة كونية أعظم» من القدرة على الاستدلال المجرد. كذلك فإن السرعة في نظر الغزال، تجعله على الأرجح فريدا في عينه هو؛ وبالتالي أهم في أعين الكون. أما بالنسبة إلى السمك، فكل القيم ترتكز على أساس من السيولة والقدرة على العوم.
1
نظرة المذهب الطبيعي إلى الذهن : نستطيع الآن أن ندرك، بناء على ما قلناه في الفصل السابق، أهمية المكانة المركزية التي يحتلها الذهن في النظرة المثالية إلى الأشياء. أما المذهب الطبيعي فيرى في الذهن مجرد أداة فحسب. ذلك لأن قدرة الإنسان على البقاء في الصراع على العيش لا تجد معونة من الألوان التي تحميه، ولا من السرعة الفائقة، أو المخالب الحادة، أو القدرة على إطلاق رائحة ساطعة، أو إصدار زئير مخيف. ففي استطاعة الحيوانات الأخرى أن تتفوق عليه في سرعة الجري، وفي القدرة على السباحة، وأن تقهره في أية معركة تنشب دون أسلحة. غير أن للإنسان، بدلا من هذه القدرات والأجهزة الخاصة، أداة أخرى، هي عقله، تمكنه من أن يعوض نفسه وزيادة، عن طريق اختراع شتى أنواع الأسلحة والأدوات، وتسخير قوى الطبيعة لخدمته. غير أن هذا الذهن الفذ الذي يمتلكه، والذي هو بالفعل أكثر أدوات التكيف مرونة، يظل مع ذلك (بالنسبة إلى بقية الكون) مجرد أداة من أدوات البقاء والتكيف. إنه حقا فريد، وذو أهمية قصوى للإنسان، ولكن هذا ليس دليلا على أن له أية أهمية كونية تزيد على أهمية مخلب النمر أو زعانف السمكة. صحيح أن الإنسان يستطيع أن يفعل بعقله أمورا تفوق ما تفعله الحيوانات الأخرى «بأدواتها» ولكن من الصحيح كذلك أنه يستطيع أن يستخدمه في اتجاه الشر مثلما يستخدمه في اتجاه «الخير». وبالاختصار، فكل ما يعنيه امتلاك العقل هو المزيد من القوة واتساع نطاق السلوك، وليس بالضرورة المزيد من الخير.
وهكذا فإن هذه الفكرة المألوفة لدى أصحاب المذهب الطبيعي، تسير على النحو الآتي؛ ففي البدء كانت الطبيعة، ثم ظهر الإنسان بعد عملية تطور طويلة شديدة البطء. والنوع البشري هو ارتقاء (أو ازدهار، إن كان هذا اللفظ يسعد المثالي) للطبيعة، ولكنه ليس أكثر أو أقل أهمية من الأنواع الحيوانية الأخرى، التي تفصل الإنسان عنها فوارق أقل أهمية بكثير، من وجهة النظر البيولوجية، من الحاجات والسمات التي يشترك فيها مع هذه الأنواع. فالنظام الطبيعي متصل، والإنسان، على الرغم من فردانيته الذهنية، وأهميته العامة في نظر نفسه، لا يشكل انقطاعا في هذا النظام. «الطبيعة» في الإطار العام لتفكير المذهب الطبيعي : يوجه خصوم المذهب الطبيعي أحيانا إلى القائل به تهمة توسيع تصور «الطبيعة» وجعله شاملا إلى حد يغدو معه هذا اللفظ بلا معنى، مثلما أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم خصمه بالتوسع في تصور «الذهن» إلى حد يصبح معه شاملا لكل شيء، وبذلك يجعله بلا معنى. غير أن ما يعنيه المذهب الطبيعي بلفظ الطبيعة شيء مختلف كل الاختلاف. فهو عندما يسمي «الطبيعة» بالحقيقة الوحيدة، ويبدو ذلك كأنه يوحد بينها وبين الوجود، لا يكون معنى ذلك أنه قد افترض «مطلقا» جديدا يكون أشبه «بالليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء».
2
وإنما يفترض صاحب المذهب بدلا من ذلك، عالما لا يمكن أن يكون فيه للعالي وجود. فهو يدعو إلى نزعة طبيعية تستبعد أي مبدأ فوق الطبيعة. والأمر الذي يؤدي به إلى تعريف الطبيعة على نحو يؤدي إلى استبعاد كل «عالم آخر» أو «ما وراء هذا العالم» من مقولة الوجود، هو ارتيابه العميق في المذاهب التي لا تقوم على أسس تجريبية، مهما تكن منطقية أو محكمة البناء.
ويفترض المذهب الطبيعي ثلاث مسلمات بشأن الطبيعة. وهذه المسلمات تبلغ من الأهمية ومن الدلالة حدا يجعلها تتحكم في تجديد الطابع الكامل لهذه المدرسة الفلسفية. ومن ثم فإننا لو فهمنا هذه المسلمات فهما كاملا، ومعها نتائجها السلبية لأمكننا أن نكون صورة لا بأس بها عن نظرة هذه المدرسة إلى العالم. (1)
يؤكد المذهب الطبيعي أولا أنه لا يوجد إلا نظام أو نسق واحد للواقع ومستوى واحد للوجود. وهذه المسألة تؤدي ضمنيا إلى استبعاد كل ميتافيزيقا ثنائية، وتجعل من المستحيل وجود أي نوع من العالم العلوي أو فوق الطبيعي. (2)
Неизвестная страница