أو «فلسفة المطلق»، وهو الاسم الأكثر شيوعا. ولقد كان أهم دعاتها هم نتشه وشبلنج وهيجل، الذين كان آخرهم يفوق الباقين في تأثيره بمراحل. ولقد كان لهذه المدرسة تأثير هائل في المذهب المثالي في إنجلترا والولايات المتحدة. ويبدو أن هذا التأثير قد تعدى نقطة السمت قبل الحرب العالمية الأولى بفترة ما. ولكن أحدا لا يستطيع أن يقرأ بفهم فلسفة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولاهوته أو حتى شعره، ما لم يكن على شيء من الإلمام بهذه المدرسة وتعاليمها.
وأهم ما يميز المثالية المطلقة هو أنها تتجه بقوة إلى الواحدية بقدر ما يتجه مذهب باركلي إلى التعددية. «فالوحدة» و«الشمول» و«الكل» ألفاظ رئيسية في هذا المذهب. وربما كانت تمثل أجرأ محاولة بذلت حتى الآن لفرض الوحدة والتكامل على العالم والتجربة البشرية. وهي قد حققت هذه الوحدة بوسيلة تبدو بسيطة، هي التوحيد بين الطبيعة والذهن. وبطبيعة الحال فإن باركلي كان قد حاول أن يقوم بشيء مشابه لهذا في توحيده بين الطبيعة والجربة، غير أن مذهبه كان يشتمل على عدد من الأذهان الفردية أكبر من أن يتيح سد الثغرة بينهما. أما مذهب هيجل فقد حاول التخلص من هذه الصعوبة عن طريق مفهوم الذهن الشامل أو المطلق (الذي يطلق عليه عادة «المطلق» فحسب)، والذي لا تكون أذهاننا المتناهية إلا أجزاء منه فحسب.
من باركلي إلى هيجل : والواقع أن الخطوات المنطقية التي أدت إلى ظهور هذا «المطلق» طريفة إلى أبعد حد، لا سيما بعد أن أصبحنا قادرين على فهم هذا التطور المحتوم من النزعة الذاتية عند باركلي. فصاحب المذهب المطلق شأنه شأن صاحب النزعة الذاتية، يبدأ بما هو في نظر المدرستين معا أهم الوقائع المجردة: ألا وهو الاعتماد التام لكل وجود كما نعرفه على التجربة. من هذا الموقف المعرفي المعترف به، يقفز كل من نوعي المثالية قفزة هائلة إلى الرأي القائل إن الوجود يتوقف على التجربة - لا الوجود - كما نعرفه فحسب (أي بقدر ما تمتد تجربتنا)، وإنما الوجود بما هو كذلك. ولكن في الوقت الذي ينتقل فيه باركلي إلى افتراض ذهن إلهي لكي يحفظ وجود العالم الطبيعي (بوصفه موضوعا للإدراك). فإن منطق المذهب يؤدي إلى تصور أعمق وأدق من الوجهة العقلية إلى حد ما. فهذا «المطلق» هو، من وجهة النظر المعرفية، ذات شاملة لكل شيء، تناظر الكون بوصفه موضوعا شاملا. ذلك لأننا لو اعترفنا مع باركلي بأن «وجود الشيء هو كونه مدركا»، وبأن كل موضوع في العالم ليس إلا موضوعا للإدراك (أو منسوبا إلى التجربة)، فعندئذ يلزم عن ذلك منطقيا أن نفترض فعلا إدراكيا مطلقا يضفي الوجود على المجموع الشامل للأشياء الطبيعية، الذي نسميه الكون؛ أي إن نفس وجود هذا الكون، الذي لا تعرفه أذهاننا المتناهية إلا معرفة جزئية (أي بوصفه موضوعات فردية) يقتضي هنا أن نؤمن «بمجرب مطلق» يحقق تكامل كل تجربة ممكنة لا كل تجاربنا الجزئية فحسب.
وأيا ما كان حكمنا الشخصي على المثالية بالمطلقة بوصفها الرأي النهائي عن العالم، فلا مناص من الاعتراف بأن منطقه محكم. فما إن نقبل أن نخطو أول خطوة ودية مع الأسقف الطيب باركلي، في أيامه الغابرة في القرن الثامن عشر، حتى يكون صاحب المذهب المطلق قد امتلكنا جسدا وروحا. ولا يبدو أن هناك مفرا من منطقه الصارم؛ إذ إن أبسط غزل بريء مع «وجود الشيء هو كونه مدركا» يؤدي حتما إلى الوقوع في أحضان «المطلق» التي لا يفلت منها شيء. أما الواقعي، الذي هو حريص قبل كل شيء على الإفلات من هذا المصير العقلي، فإن لديه طريقته الخاصة في الاحتفاظ بحريته. غير أن هذه خاصة أخرى، ينبغي أن تنتظر فصلا آخر.
خصائص المذهب المطلق عند هيجل : نود، قبل أن نختم هذا البحث الذي هو أوجز بحث ممكن للمثالية المطلقة، أن نعدد بعضا من سماتها الهيجلية الخاصة التي كان لها أوسع تأثير. فأولا، يلاحظ أن هذا الشامل، أو الكل الذي هو «مطلق» ليس شيئا جامدا لا حياة فيه. وقد أخذ هيجل هذه البادرة (كما يفعل المثالي دائما) من طبيعة الإنسان، ولا سيما طبيعة عمليات الإنسان العقلية، وجعل منها مفتاحا رئيسيا يفض به أسرار الحقيقة. ولما كان يؤمن بأن الطبيعة والعقل موحدان في كل عضوي، فإن من المنطقي في نظره أن يجد في طبيعة الإنسان العقلية ماهية «المطلق»؛ فهو روح أو عقل كوني شامل. وهناك فكرة أخرى، تعد من أجرأ إسقاطاته، هي أن العملية التاريخية أو التطورية للكون ما هي إلا تكشف أو تحقق متزايد «للروح». وفي هذا التحقق المتزايد نجد نموا مزدوجا، فالروح تحقق ممكناتها، وتزداد وعيا في نفس الآن. وكل تغير تاريخي، وكل حادث في الزمان، وكل نمو تطوري، يمثل مرحلة في النمو التدريجي «للروح». وأن هذه المراحل (أي أكملها تحققا وأكثرها وعيا) هي النظم البشرية، ولا سيما الفن والدين والفلسفة.
وإذن فكل ما يتبقى هو تحقيق الوحدة النهائية. فإذا كان كل وجود تعبيرا عن «الروح المطلقة»، إذا كان هذا «المطلق» هو بالتالي الواقع الكامل فعندئذ لا يمكن أن يكون وعينا إلا الوعي الذاتي المطلق. وإذن فالتاريخ، أو مرور الحوادث ، وتجربتنا، أو وعينا بهذه الحوادث، هما النصفان المحدودان أو الناقصان لعملية واحدة.
6
وهكذا فإن العملية الكونية غائية، وكل ما يحدث يهدف إلى تحقيق الإمكانات الكامنة في «الروح». «فالحدوث» يعني تحقيق إمكان آخر معين للمطلق. (9) تلخيص للمثالية
كان تقديم المثالية بالطريقة الشاملة المعممة التي قدمناها بها في هذا الفصل أمرا بالغ الصعوبة. ذلك لأنه كان هناك خطر دائم من أن نرتكب، خلال محاولتنا الأخذ بيد القارئ خلال هذه الغابة الفلسفية في جولة سريعة شاملة، خطأ تجاهل هذه الحقيقة الهامة. وهي أن أية غابة مؤلفة من أشجار لا تتشابه منها اثنتان. ومن المعلوم أن الفوارق بين المدارس الفرعية المتعددة داخل المذهب المثالي كثيرا ما تكون فوارق ملحوظة، بل إن المفكرين الأفراد يختلفون في آرائهم اختلافا أكبر. ولقد كان أصعب الأسئلة إجابة، في تقديمنا لهذه الصورة العامة لمثل هذا الميدان المعقد، هو سؤال أفلاطوني، وأعني به: كيف يكون المرء مثاليا؟ ... أو بعبارة أخرى: إذا استبعدنا كل الفوارق «المظهرية» وتغلغلنا في «الحقيقة» فما هي ماهية المثالية؟
تلخيص عام : إذا شئنا أن نلخص هذا الفصل ونختمه، فلنقل إن المثالية هي نظرة إلى العالم يكون فيها الذهن أو الفكر أو الروح الحقيقة الأساسية، وهي مذهب يتخذ من الذات العارفة (أي الذهن البشري الفردي المتناهي أو العارف المطلق، أيا كان نوعه) مركزا للأشياء، ثم ينظم الكون حول هذا الوجود المركزي. وفضلا عن ذلك فإن الكون مرتبط ارتباطا منظما بهذه الذات المركزية العارفة على أنحاء شديدة الوثوق بوجه خاص. فالكون هو على نحو معين - يتفاوت من مدرسة مثالية إلى أخرى - إسقاط أو امتداد للذهن أو الروح. ومن ثم فإن الواقع يتصف بكثير من الخصائص التي يعدها الذهن أساسية فيه هو. فالمثالية تصور لنا عالما غالبا، معقولا، مفهوما، والأهم من ذلك كله أنه إما خير في ذاته، وإما معني أساسا بالخير. إنه عالم لا يكون للقيم فيه وجود موضوعي فحسب، وإنما يعمل مسار الكون ذاته على تحقيقها وحفظها، بل إننا نستطيع أن نجد، في النظرة المثالية إلى العالم، أسبابا للاعتقاد بأن الهدف الأول لهذه العملية الكونية تحقيق القيم إلى أقصى حد ممكن. وبذلك «لا يستبعد شيء مقدما بوصفه مستحيلا في اتجاه أعلى أمانينا البشرية.»
Неизвестная страница