مشكلة علاقة الإنسان بالكون : وهناك مشكلة أخرى يتعين على الفلسفة مواجهتها، وهي متولدة عن تلك التي عرضناها منذ قليل. هذه المشكلة خاصة بالعلاقة بين الإنسان وبقية الكون. وهناك من المفكرين من يعتقدون أن هذا أهم سؤال نستطيع أن نتساءله؛ إذ إنه رغم أنه قد يكون أضيق نطاقا من البحث الأول الشامل في طبيعة الواقع، فإنه أوثق اتصالا بتجربتنا اليومية؛ ذلك لأن هذا التساؤل الخاص بالعلاقة بيننا وبين بيئتنا قد يكون أهم بالنسبة إلى سعادتنا ورفاهنا من أي سؤال غيره.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن الكون (بقدر ما كان معروفا في ذلك الحين) لم يخلق إلا ليكون تابعا لكوكبنا، الذي هو بدوره موجود بوصفه مسرحا تمثل عليه دراما الخلاص الكبرى. وبطبيعة الحال كان لهذه النظرية الكونية المتمركزة حول الأرض، تأثير مباشر في تلك النظرة إلى الأشياء، المتمركزة حول الإنسان، وقد اتضح ذلك عندما تقدم كوبرنيق لأول مرة بنظامه الفلكي معارضا به هذه النظرة القديمة. فقد كان الحجة الأخلاقية الكبرى ضد النظرة الجديدة «المهرطقة» هو أنها حطت من قدر الإنسان لأنها أزاحته من مكانته المركزية في الكون، بحيث لم يعد يبدو هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكونية الكبرى. وبينما أي رأي كهذا في علاقة الإنسان بالكون يبدو في نظر العلم الحديث ممتنعا وذاتيا مفرطا، فما زالت هناك من الاختلافات في الرأي حول التحديد الدقيق لطبيعة هذه العلاقة ما يكفي لشغل أوقات الفلاسفة في عمل لا يتوقف. (6) مشكلات الدين
الخلود : كل هذا يؤدي إلى مشكلات أخرى قد تكون أشد إلحاحا، وهي مشكلات لا بد أن تعترف الفلسفة بأنها تنتمي إلى مجالها الخاص. فالبحث في طبيعة الكون وعلاقته بالإنسان يؤدي بنا إلى سؤال يراه الكثيرون أشد الأسئلة التي يتعين على الفلسفة أو الدين أن يواجهها إلحاحا، وأعني به: إلى أين نذهب؟ والواقع أن معظم الأذهان ترى أن لغز المصدر الذي أتينا منه أقل أهمية بكثير من السؤال عن سبب مجيئنا هنا، وعن الوجهة التي سنقصدها فيما بعد. فهم على استعداد لاستبعاد مشكلة أصل الإنسان بوصفها سرا لا أمل فيه، أو على الأقل شيئا ليست له إلا أهمية أكاديمية في المحل الأول. أما مشكلة هدف الحياة والمصير النهائي، فهي مشكلة لا يستطيع إنسان أن يتجنبها. فلا بد أن يكون لكل فرد رأي ما في موضوع الخلود، وهنا أيضا نجد الفيلسوف لا يختلف عن معظم الناس إلا في أن آراءه في الموضوع قد اكتسبت بعد تفكير أعمق، وربما كانت أكثر اتساقا مع الصورة العامة التي يكونها عن الواقع.
الخلود بوصفه مشكلة فلسفية : يرتبط البحث الجاد في الخلود الإنساني عادة بالدين واللاهوت، ونتيجة لذلك فإن الطلاب كثيرا ما يدهشون إذ يعلمون أن الفلسفة تبدي اهتماما جديا بهذا الموضوع. ومع ذلك فإننا إذا ذكرنا أنه لا يوجد في التجربة البشرية شيء يخرج عن مجال الفلسفة - لا سيما إذا كان متعلقا بالمعاني والقيم النهائية - فلن يدهشنا أن تقع مسألة لها كل هذه الأهمية بالنسبة إلى الدين والأخلاق، تحت أعين الفيلسوف الفاحصة.
ونستطيع أن نتوقع أن تكون طريقة معالجة الفلسفة لهذه المشكلة مختلفة اختلافا كبيرا عن طريقة معالجة الدين لها؛ ذلك لأن الميتافيزيقي، على الأقل لن ينظر على الأرجح إلى الخلود على أنه «مصادرة ضرورية» للحياة الأخلاقية، بل إنه سيسترشد على الأرجح بالأدلة العلمية في بحثه عن جواب لهذا السؤال الهائل. وهو يلح عادة على استطلاع الإمكانيات الفعلية لبقاء الشخص بعد الموت استطلاعا كاملا، ويطالب بمناقشة المسألة بأسرها دون مسلمات قبلية حول «ضرورة» الخلود أو علاقته المفترضة بالأخلاق. وحتى لو كان الفيلسوف يعتقد أن من الممكن إثبات البقاء بعد الموت على أسس عقلية، أو أن نظرته إلى العالم تجعل منه على الأقل إمكانا مثيرا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسر أي وجود كهذا على أسس تختلف عن الأسس التقليدية في التفكير الديني؛ ذلك لأن العلاقة بين الحياة الأرضية وبين البقاء بعد الموت تتمركز عادة، بالنسبة إلى رجل اللاهوت، حول نقاط معينة كالأخلاق، والعدالة الإلهية، والقصاص وما إلى ذلك. ففي جميع الأديان تقريبا، يرتكز الخلود على الافتراض القائل إنه حالة ينبغي «اكتسابها»، وهذا يؤدي إلى الربط بينه وبين بقية تجربتنا على أسس أخلاقية في المحل الأول. أما الفيلسوف فيهتم، على الأرجح، بالعلاقات بين هذا البقاء وبين تجربتنا الكاملة - وضمنها قراراتنا ومعاييرنا الأخلاقية بالطبع - ولكن ضمنها أيضا عناصر كثيرة غير هذه. فالفلسفة إذ تنظر إلى الكون نظرة شاملة لكل شيء، لا تقتصر على النظر إلى الحياة من زاوية «الخير» و«الشر» و«الخطيئة» و«الخلاص»، ومن ثم فهي تنظر إلى مسألة الخلود بدورها من زاوية واسعة، فتحاول الربط بينها وبين طابع الكون في مجموعه، بدلا من طابع الإنسان أو الخلاص الإنساني.
مشكلة الله : لا يشعر المبتدئ في الفلسفة عادة بدهشة كبيرة عندما يعلم أن مشكلة «الله» تمثل إحدى المشكلات في ميدان الفلسفة. إذ إن موضوع الألوهية عادة يتمثل لنا موضوعا لا يقتصر معالجته على الدين وحده، على خلاف الحال في موضوع الخلود. ومع ذلك فمن الشائع أن يشعر هؤلاء المبتدئون بالدهشة للموقف الذي يتخذه معظم المفكرين من هذه المسألة. فحتى بعد أن يعلم الطالب أننا نستخدم في ميدان الفلسفة نفس منهج التحليل العقلي لكل المشكلات، ونعالجها بموضوعية ونزاهة، فإنه يشعر بعدم الارتياح حين يدرك أن «الله» هو بالنسبة إلى الفلسفة مشكلة عقلية أخرى فحسب. وأحيانا يكون من الصعب إقناع المبتدئ بأن من الممكن (أو حتى من حسن الذوق) أن نتحدث في هذا الموضوع بغير أعين غاضة «منخفضة» وعقل خاشع. والواقع أننا حينما ننبه الطالب في هذا المجال إلى أن الفلسفة لا تعرف جوانب في التجربة البشرية تكون «مقدسة»، بمعنى أنها تظل بمنأى عن التحليل العقلي، فإن هذا التنبيه كثيرا ما يبدو له موقفا غير لائق؛ ذلك لأن البحث في مشكلة الله دون إبداء خشوع أو انفعال يزيد على ما نبديه عند تحليل مفهوم «العلية» (مثلا) يبدو أمرا غير جدير بهذا الموضوع على الإطلاق. وحتى لو فهم الطالب أن موقف الفيلسوف لا ينطوي على أي شيء من عدم الاحترام، وإنما هو مجرد نوع من الضمان الدستوري بأن «كل المشكلات قد خلقت سواء»، فسيظل من المستبعد أن يتمكن من خوض هذه المسألة دون أفكار سابقة؛ ذلك لأن الإيمان بوجود الله قد تأصل في التفكير الغربي منذ أقدم العهود إلى حد أصبح معه أي تحد لهذا الإيمان، أو حتى التفكير جديا في أي بديل عنه، يعد في نظر أذهان كثيرة أمرا لا يتصوره العقل. وحتى لو عقمنا المناقشة تعقيما دقيقا باتفاق جميع الأطراف على أن هذه مسألة أكاديمية بحتة لا ترتبط بالإيمان الديني ارتباطا مباشرا، فسيظل من الصعب على بعض الطلاب أن يهدئوا أعصابهم ويشتركوا في المناقشة بحرية.
ومع ذلك فإن أي شخص يستطيع أن يدرك، بعد أن يمضي في مدرج الفلسفة أياما غير كثيرة، أن مشكلة الله ليست فقط واحدة من أهم المشكلات التي تعالجها الفلسفة، بل هي أيضا من أطرف المشكلات وأكثرها إثارة للفكر. ومن المألوف أن يتبين الطلاب أن الخشوع الذي ضاع من تصور الألوهية قد عوض بمزيد من الاهتمام والإثارة العقلية. ولو كان من حسن حظهم أن يصلوا إلى هذا الكشف، لأصبحوا إلى هذا الحد فلاسفة. (7) مشكلة حرية الإنسان
هناك مشكلة ثالثة تقترن بمشكلتي الله والخلود، هي مشكلة حرية الإرادة. ولقد كان من أهم التغيرات العقلية التي أسفر عنها توسيع نطاق وجهة النظر العلمية، تضاؤل مجالات تجربتنا التي لا تسودها الحتمية الدقيقة. فقد كان الناس في الأصل ينظرون إلى الطبيعة كلها (والطبيعة البشرية بالطبع) على أنها خارجة أساسا عن القانون. فالذهن البدائي كان يرى أنه إذا تدحرجت صخرة على جانب تل، فذلك لأن للصخرة إرادة خاصة بها، يمكن أن تمارس باختيار. أي إن الذهن البدائي كان ينقل حرية الاختيار والحركة التي يستشعرها الإنسان في نفسه بوضوح، إلى كل الأشياء والمخلوقات. فلكل منها إرادة مستقلة ، يمارسها بحرية. على أن هذه النظرية الساذجة قد استبعدت، في معظم أرجاء العالم، بعد أن عرفنا أن الأشياء المادية العادية تخضع لقوانين آلية، على الرغم من أننا لسنا موقنين بعد بماهية هذه القوانين أو طريقة سيرها.
والحق أن نمو العلم قد أحدث تغييرا عميقا في طريقة تفكيرنا، فقد تمكن جاليليو ورفاقه في العمل من صياغة هذه المعرفة المبسطة للواقع الآلي في صورة قوانين لا يتطرق إليها الشك. وفضلا عن ذلك، فقد تبين أن هذه القوانين لا تقبل أي استثناء، وتنطوي على تعاقب دقيق للعلة والمعلول. ومنذ ذلك الحين، أصبح القانون والنظام العلمي يبسط سيطرته على عملية طبيعية بعد الأخرى. وامتدت حدود العالم الخاضع للعلم، من مجال الأجسام المادية، إلى عالم الحياة الحيوانية، ولم يعد أحد يسلم مقدما بأن وجود القدرة على الفعل الحركي يبطل المبدأ الأساسي القائل إن كل تغير ينتج عن تغيرات سابقة من نوع ما - أي إن كل حادث يتحدد بسبب، ويؤدي إلى نتيجة مناظرة له.
ولكن على الرغم من الزحف المتصل للقانون العلمي، فقد كان هناك مجال عظيم الأهمية، هو مجال الحياة البشرية، يعد حتى عهد قريب بمنأى عن أي تطبيق كامل لمبدأ الحتمية هذا فبينما الناس قد تعلموا منذ عهد بعيد أن أجسامهم تخضع لقوانين آلية كثيرة تؤثر في الأشياء غير الحية (كالجاذبية مثلا) فإنهم كانوا يتأثرون دائما بذلك الشعور الذي لا يمكن إنكاره، وأعني به الشعور بأننا أحرار في مجال الاختيار والإرادة. هذا الشعور بالحرية يبلغ من الأهمية في التجربة البشرية حدا يجعل معظم الناس يسلمون دون جدال بأنه إذا كانت أفعالهم خاضعة للعوامل الفيزيائية، فإن إرادتهم تستطيع الاختيار على نحو يستقل عن أية سوابق. والواقع أن هذا الشعور يبلغ من القوة، ويكاد يبلغ من الشمول، حدا يجعل من العسير على أي شخص ليس لديه تكوين علمي أو فلسفي متعمق، أن يعترف باحتمال أن يكون فعله واختياره معا متحددين تماما بحوادث سابقة (هي في العادة فعل واختيار سابقان)، شأنها في ذلك شأن أي حادث آخر في الطبيعة.
Неизвестная страница