الأكثر، وهم عن ذلك كله غافلون والقواعد العلمية التي يعرفونها تقضى عليهم بتصحيح الأقيسة والوثوق بها، فيطردون معظم الأشياء كليًا حرمانًا وحصولا تأليفًا وتنفيرًا تقريبًا وتبعيدًا إهمالا ومراعاة، فيخبطون لذلك خبطًا عظيمًا ويخطئون السياسة أصلا
ورأسا. والكيس من العامة والهمج لا يعرف الكليات ولا الأقيسة والعمل بها، ولا إلحاق الأشياء بنظائرها ولا قياس العكس والحلف والملازمات، فبنظر في الجزئي الذي هو بصدده نظرًا خاصًا غير مشوش بما يفسده ويتفقه فيه مانعًا وعائقًا، ويجسره على ذلك صحة الجزم وعدم التردد وما ينشأ من كثرة الاحتمالات من الفتور والتواني وضعف العزيمة، فتنجح مساعيهم ويصيبون في ظنونهم غالبًا.
(ومنها) أنهم لبعد غورهم وغوصهم يفرضون محتملات بعيدة ويجزمون بوقوعها وثوقًا منهم بظنونهم وافتتانًا بأنفسهم، وما من شيء إلا ويطرقه الاحتمال المثبط عن إمضائه واستقامته، فيتخلفون لذلك عن مظان الخير والتعرض لتنفيسات الدهر وغشيان أهل الجاه، فيقعون في الفلاكة والإهمال
(ومنها) وهو مختص بأصحاب علوم الأوائل من الحكمة والفلسفة والطبيعة والمنطق والجدل والطب وكلام الأقدمين والتصوف الممزوج بالفلسفة والمتبحرين في التشكيكات والشبه، وعلى الجملة فمن تضلع في هذه العلوم وحدها ولم يكن له خدمة لما في الكتاب والسنة من الأحكام والمعارف ولا تضلع في الفقه ولا نظر نظرًا تامًا في كلام العلماء الكبار المتشرعين فإنه يخرج بهاء الشريعة وجلالها ومهابتها وتعظيم ما فيها من فلبه، فيسترسل في اللذات محرمة كانت أو جائزة رذيلة خسيسة كانت أو غير منفرة، ويستثقل الإتيان بالمأمورات فيتركها طلبًا للراحة والدعة، وأرزاق العلماء مبنية على التماس بركتهم والاستنجاح بأدعيتهم وترفيعهم عن رذيلة الاحتراف والاكتساب الجائزين، فمتى لم يرفعوا أنفسهم عن الرذائل المحرمة ولم يكن لدعائهم عمل صالح يرفعه ولا على شمائلهم شواهد البركة أنكف الناس عن إسعافهم بمرادهم وأخذوا في طعنهم وتنقيصهم وربما رموهم بالزندقة والإلحاد، فتستحكم الفلاكة فيهم والفلاكة كالبرص في الجسد تنتشر فيه وتسري وتتزايد ما لم تجد دواءً حاسمًا مانعًا له من السريان.
(ومنها) وهو مختص بأصحاب علوم الأوائل أيضًا أنهم يرون أن لا كمال إلا التحلي بالمعارف والإطلاع على النكات والحقائق والوقوف على الأسرار والدقائق،
1 / 37