فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء‏

فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء‏

فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء

فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء

تأليف

ناصيف اليازجي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الكريم الوهاب. الذي بيده الفضل يؤتيه من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب. أما بعد، فإذ كان ذكر الشيخ ناصيف اليازجي قد سار في كل طريق، فتواردت إليه المراسلات من كل فج عميق؛ رأينا أن نطبع ما دار بينه وبين القوم من هذا القبيل. وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء

من ذلك ما ورد إليه من عبد الباقي أفندي العمري من بغداد. وهو قوله:

زارت حماك بكل بكر كاعب

وبدت كبدر لاح بين كواكب

وترنحت ورنت فأصبح صبها

ملقى قتيل ذوابل وقواضب

نشرت ذوائبها ففاح عبيرها

كالمسك فوق كواهل ومناكب

نظرت على بعد خيال رقيبها

فتعجبت من فرعها بغياهب

قد أحرقت كبدي بنار خدودها

سبكا فلا تطفي بدمع ساكب

لم أدر قبل قوامها ولحاظها

أن الردى بمعاطف وحواجب

لو لم يكن منها اللمى خمرا لما

خطرت وماست كالنزيف الشارب

ليلي طويل حالك كفروعها

والجفن صار كخطوها المتقارب

أمسى الفؤاد بشعرها وبصدغها

أبدا لسبع أساود وعقارب

ولقد ركبت من الجياد مطهما

ينساب كالحيات بين سباسب

ألف الفلا لف الفدافد بالربا

كالبرق يطوي البيد تحت الراكب

فكأنني من فوقه ملك ومن

وحش القفار أسير بين مواكب

أصبو إلى نحو الحمى متلفتا

تلفا وقد ضاقت علي مذاهبي

ما لي وصرف الدهر طال مطاله

عندي وأنعم لي بمنع مطالبي

ويهش إن هو ظل يهشم أعظمي

أو بات ينهشني بناب نوائب

إن رمت أن يطفي ضرام ضمائري

لم يرمها إلا بصوب مصائب

سحت وشحت بالدموع وبالكرى

عيني وأولتني بلون شاحب

عمري مضى ما بين مذود عاذل

لذع الحشى مني وعين مراقب

أخطت سهام البين قلبي والهوى

لا زال يرميني بسهم صائب

أبلى النوى جسدي النحيف كأنني

قلم بدا بيدي نصيف الكاتب

حبر حلا في حبره قرطاسه

كالتبر لما لاح فوق ترائب

فسطوره وطروسه في حسنها

حاكت سماء زينت بكواكب

وكأنما أقلامه وبنانه

برق سرى ما بين خمس سحائب

فلكم أفاد مروعا بيراعه

وبكتبه كم فل جيش كتائب

ولكم بعلم النحو أوضح منهجا

أغنى اللبيب به عن ابن الحاجب

فطن حوى من كل فن قلبه

فكأن فيه محاضرات الراغب

رقت لطافة شعره واستعبدت

رق ابن عباد الوزير الصاحب

لو رام نظم الدر في أصدافه

وافى له بفرائد وغرائب

أو للدراري شامها أو شاءها

طلعت عليه بطالع أو غارب

سبك القريض وصاغه حليا له

وبه تكفى عن صناعة كاسب

تجري القوافي تحت ظل يراعه

وتظل ترعاه بمنلة طالب

لو كان يرقى المرء في الشعر العلى

لعلا على الشعرى بعشر مراتب

تصبو إلى أخلاقه ريح الصبا

ويميل لطفا كل سار سارب

حفت به العليا فخف بحملها

وبحلمه أمسى كطود راسب

ذرب اللسان يذب فيه مخاصما

واللفظ عذب كالنبات الذايب

ربحت تجارة حظه في خطه

وجرت سوابقه بسوق تجارب

لم يبتهج في الدهر في ذهب ولم

يحزن على فقدان مال ذاهب

يبدو محياه كبدر طالع

والرأي منه كالشهاب الثاقب

لو قمت طول الدهر أنشد مدحه

بين الأنام فلم أقم بالواجب

وبمدحه العمري آب مؤرخا

ترتيب مدحي في نصيف الكاتب [وبمدحه العمري آب مؤرخا = سنة 1264، ترتيب مدحي في نصيف الكاتب = سنة 1848].

فأجابه بقوله:

يا أيها القلب الخفوق بجانبي

قد صرت ويحك حاضرا كالغائب

الحق بأهلك في العراق وخلني

بالشام في أهلي فلست بصاحبي

فتنتك أفئدة الرجال فلم تكن

ممن أصيب بأعين وحواجب

عاطيت لكن لا بكأس منادم

فسكرت لكن لا بخمرة شارب

ذقت الهوى صرفا وما كل الهوى

يجد الفتى فيه السبيل لعائب

حب الكريم كرامة لمحبه

ونباهة المطلوب مجد الطالب

قد شافك العمري قطب زمانه

متباعدا في صورة المتقارب

متواتر الآثار أردف كتبه

فأتت كتزكية الشهود لكاتب

هذا إمام في الأئمة ذكره

قد شاع بين مشارق ومغارب

ولئن تأخر في الزمان فإنه

عقد بلى الآحاد عند الحاسب

نجني الفرائد من بحار قريضه

منظومة من صنع فكر ثاقب

من كل قافية شرود بيتها

ضربت له الأوتاد بين ترائب

أثنى جميلا من تعود سمعه

فيه ولكن بالخليق الواجب

أثنى بما هو أهله فكأنما

أهدى لنا من نفسه بمناقب

شرف لبست طرازه فاهتزني

عجبا إلى ما فوق فوق مراتبي

فإذا ادعيت جعلت ذلك شاهدي

وإذا افتخرت جعلت ذلك ناسبي

يا جابر القلب الكسير بلطفه

ماذا ترى في أمر قلب ذائب

ما زال يقعده الهوى ويقيمه

كالفعل بين جوازم ونواصب

اردد فؤادا لي أراك غصبته

مني فإن الرد حكم الغاصب

ما كان أسمحني به لكنه

وقف العراق فلا يصح لواهب

شوقي إلى من لم تراه نواظري

في قطر أرض لم تطأه ركائبي

أحببت زوراء العراق لأجله

ولأجلها أطراف ذاك الجانب

حق المحبة للقلوب فقد أرى

حب الوجوه عليه لمحة كاذب

وإذا تعرض دون عين حاجب

فهناك قلب لا يرد بحاجب

أفديك يا من ليس لي في حبه

فضل فذاك علي ضربة لازب

أحسنت في قول وفعل بارعا

وكلاهما للنفس أكبر جاذب

أنت الذي نال الكمال موفقا

من رازق من شاء غير محاسب

فإذا نظمت فأنت أبلغ شاعر

وإذا نثرت فأنت أفصح خاطب

وإذا نظرت فعن شهاب ثاقب

وإذا فكرت فعن حسام قاضب

وإذا جرت لك في الطروس براعة

فسواد وشم في معاصم كاعب

هذه رسول لي إليك وليتني

كنت الرسول لها بمعرض نائب

شامية من آل عيسى أقبلت

في ذمة العمري تحت مضارب

عذراء يثنيها الحياء مهابة

وتقودها الأشواق قود جنائب

نزعت إلى ماء الفرات وما درت

كم أغرقت صهواته من راكب

تلك البقية من ذخائر أعجم

تلقى البقية من كرام أعارب

من كل نابغة يفيض كأنما

نشر الفرزدق في تميم الغالب

ماذا يقوم ولو تطاول قاصر

بمدى تقصر فيه جرد سلاهب

فلك الجميل إذا عذرت وإن تلم

فلقد أصبت وما الملوم بعاتب

وأرسل إليه الشيخ عبد الحميد الموصلي من بغداد هذه الأبيات:

حتى م أهفو للقدود الهيف

وأخف إن سنحت ظباء الخيف

وأمد طرفي للحسان وأنثني

من دونهن بناظر مطروف

أذكى الهوى بحشاشتي نار الجوى

والجفن جاد بدمعه المذروف

أوقرن آذاني الحوادث بعدما

سمعت رنين خلاخل وشنوف

ونفرن عني الغانيات وملن من

بعد الوصال إلى المطال الكوفي

ومنعنني رشف اللمي وأبين أن

يتحفنني إلا كئوس حتوف

أسفا على عصر الشباب وقد مضى

بربيع لذاتي وطيب خريفي

ولى وأبقى في الجسوم وفي الحشا

برد الشتاء وحر نار مصيف

والشيب سود صفحتي وقادني

في شعره المبيض كالمكتوف

والظهر ضاهى قوس نداف القرى

والشيب صار كقطنه المندوف

والدهر أنكر صحبتي من لؤمه

وتنكرت لامي من التعريف

وكلفت في شاكي اللحاظ ثقيلة

ردفاه لا يشكو من التكليف

وبقيت أستف الذعاف تصبرا

وأعلل الآمال بالتسويف

قلبي وطرفي أصبحا من بعده

والبين بين مقرح مكفوف

لم أحظ من دمعي ومن حادي النوى

إلا ببحري وافر وخفيف

ومن النواظر والفؤاد فلم أفز

إلا بخلي فاسق وعفيف

والنوم زال عن العيون ولم أزل

أفري بطون فدافد وكهوف

أنساب ما بين السباسب والربى

لم تثن حدي حادثات صروف

فكأنني ملك ومن غول الفلا

أختال بين عساكر وصفوف

كم ليلة ليلاء بت بقفرها

والجن جندي والوحوش ضيوفي

متعللا بلعل أن يلحظنني

هيف المعاطف من خلال سجوف

وبربما ريم الفلا بعد الفلى

يحنو علي بصدغه المعطوف

وعسى برشف لماه يشفي علتي

أو يسقي غلة مدنف مشغوف

لذع الهوى مني الفؤاد وإنني

لا أرعوي بالعدل والتعنيف

أبلى الضنى جسدي فصرت كأنني

قلم الكتابة في أكف نصيف

حبر كفنه لدى الوغى أقلامه

عن هز أرماح وسل سيوف

والدر يهوى والدراري تشتهي

تهوي ليكتبها كبعض حروف

لو أبصرت عين ابن مقلة خطه

صارت كجارية له ووصيف

كبش الكتائب والكتاب وإنه

بالنحو ينطح هامة ابن خروف

متوقد الأفكار يوشك في الدجى

يبدو له المستور كالمكشوف

فطن تمنطق بالفصاحة وارتدى

جلباب علم النحو والتصريف

متصرف في كل فن فكره

وعن المكارم ليس بالمصروف

بحر وفيه فرائد من نظمه

عذب بعيد الغور غير خسيف

تطفو جواهره ليقرب أخذها

للمجتديها من جميع طفوف

يحلو على مر الدهور مذاقه

ويروم فعل الأمر بالمعروف

إن حارت الآراء من أهل النهى

راحت إلى عقل لديه شريف

وإذا النفوس تنافرت واستوحشت

آوت لمربع أنسه المألوف

في كل حين ذكره في حينا

أبدا ينفس كربة الملهوف

هو دوحة الأدب التي طول المدى

تعطي المنى من دانيات قطوف

هو روضة يجري بها نهر الندى

من فوق جسم كالنسيم لطيف

قد حاز كل الحسن في تحريره

وأجاد في التأليف والتصنيف

لا زال محفوفا بحظ وافر

والخط مثل الحظ بالتصحيف

فبه صفا عبد الحميد مؤرخا

ناهيت نظمي في مديح نصيف [فبه صفا عبد الحميد مؤرخا = سنة 1264، ناهيت نظمي في مديح نصيف = سنة 1848].

فأجابه بقوله:

ما بين أعطاف القدود الهييف

سبب ثقيل قام فوق خفيف

إن فر من تلك الرماح طعينها

لقيته أجفان المهى بسيوف

سبحان من خلق المحاسن وابتلى

مهج القلوب بحبها المألوف

دعت الخلي إلى الهوى فأجابها

طوعا وعاصى داعي التعنيف

أمسى يجر على القتاد ذيوله

من كان يعثر في رمال الريف

وإذا الهوى ملك الفؤاد فإنه

ملك الفتى من تالد وطريف

أفدي عذارا خط كاتبه بلا

قلم لنا سطرا بغير حروف

شببت فيه تصببا حتى أتت

عذراء من بغداد تحت سجوف

خود شغلت وقد شغفت بحسنها

عن حسن كل وصيفة ووصيف

تختال تحت رقائق وعقائق

ومناطق وقراطق وشنوف

عربية ألفاظها قد نزهت

عن شبهة التصحيف والتحريف

نسج البديع لها طرازا معلما

من صنعة الأقلام في التفويف

أهلا بزائرة علي كريمة

حلت فجلت عن محل ضيوف

إن لم يصح المدح لي منها فقد

صحت بذلك آية التشريف

جاد الإمام بها علي تفضلا

كالبحر جاد بدره المرصوف

رجع الثناء بها عليه بلطفه

فكأنه رجع الصدى لهتوف

علم قد اشتهرت مناقب فضله

في الناس فاستغنى عن التعريف

كثرت صفات الواصفيه وطالما

لذت فشاقتنا إلى الموصوف

صافي السريرة مخلص يمشي على

قدم التقى ويجر ذيل عفيف

أفعاله المنصرفات صحيحة

سلمت من الإعلال والتضعيف

هو عارف بالله قام بنهيه

عن منكر والأمر بالمعروف

سيماؤه في وجهه الوضاح من

أثر السجود على أديم حنيف

لهج بخلق الزاهدين أحب من

لبس الشفوف إليه لبس الصوف

يهفو إلى زهر الفضائل عائفا

من زهرة الدنيا اجتناء قطوف

ياقوت خط من سواد مداده

كحل لطرف الناظر المطروف

أقلامه كالبيض في إمضائها

لكنها كالسمر في التثقيف

قد صرفت في المعربات بنانه

تلك العوامل أحسن التصريف

تسعى لديه على الرءوس كأنما

تجري على فرس أغر قطوف

العالم الشهم الفؤاد الشاعر ال

واري الزناد الباهر التأليف

ثمل العراق بشعره حتى جرت

في الشام فضلة كاسه المرشوف

من كل قافية كزهر حديقة

في كل معنى كالنسيم لطيف

هي معجزات في صدور أولي النهى

ضربت عروضا ليس بالمحذوف

لا بدع في عبد الحميد فإنها

أم العراق أتت بكل طريف

أم العراق مدينة الخلفاء وال

علماء والشعراء بضع ألوف

لا تنكروا خوفا يهول رسالتي

منها وإن تك أمن كل مخوف

لولا الغرور حبستها لكنني

أطلقت عذري خلفها كرديف

وتوفي أنسباء لأحمد فارس أفندي الشدياق فقال يعزيه (كتب بها إليه في بلاد المغرب):

لا نبكي ميتا ولا نفرح بمولود

فالميت للدود والمولود للدود

وكل ما فوق وجه الأرض ننظره

يطوى على عدم في ثوب موجود

بئس الحياة حياة لا رجاء لها

ما بين تصويب أنفاس وتصعيد

لا تستقر بها عين على سنة

إلا على خوف نوم غير محدود

ما أجهل المرء في الدنيا وأغفله

ولا نحاشي سليمان بن داود

يرى ويعلم ما فيها على ثقة

منه ويغتر منها بالمواعيد

كل يفارقها صفر اليدين بلا

زاد فما الفرق بين البخل والجود

يضن بالمال محمودا يثاب به

طوعا ويعطيه كرها غير محمود

هان المعاد فما نفس به شغلت

عن رنة العود أو عن ربة العود

يا أعين الغيد تسبينا لواحظها

قفي انظري كيف تمسي أعين الغيد

يبدو الهلال ويأتي العيد في زهج

ماذا الهلال وماذا بهجة العيد

يوم لغيرك ترجوه وليس له

كل ليوم غداة البين مشهود

قد صغر الدهر عندي كل ذي خطر

حتى استوى كل مرحوم ومحسود

إذا فجعت بمفقود صبرت له

إني سأترك مفجوعا بمفقود

يا من له منه أهل لا جزعت على

أهل وهل لك ركن غير مهدود

لسنا نعزيك إجلالا وتكرمة

فأنت أدرى ببرهان وتقليد

لكل داء دواء يستطب به

وليس للحزن إلا صبر مجهود

والصبر كالصدر رحبا عند صاحبه

فإن صبرك مثل البيد في البيد

لله أية عين غير باكية

ترى وأي فؤاد غير مفؤود

إن كان لا بد مما قد بليت به

هان البلى بين موعود ومنقود

حاشاك من خطة للقوم باطلة

منها الأسى لفوات غير مردود

فالحلم في القلب مثل السور في بلد

والعلم في العقل مثل الطوق في الجيد

فأجابه بقوله:

ما بين يوم وليل دهر تنكيد

فما البقاء وإن نحرص بمحمود

والعيد ما اعناد من هم ومن حزن

فما نرجي بإهلال وتعييد

بل الهجود من الأضداد صار لنا

وأنت أدرى بما يعنى بتهجيد

وليس في غابر شيء نؤمله

غير المضي على فقدان مفقود

نمسي ونصبح والأكدار باقية

وهل لماء وطين غير ذا العيد

ما تنقضي من بلايا الدهر واحدة

حتى تجيء بكم غير معدود

ألفت كل مصاب من تبددنا

آها لها إلفة تغري بتبديد

وويح قلب معنى بالمنى كمد

وفتحها كان حتفا غير محجود

هي الحياة فبالأغوال أولها

لكن آخرها إخفات مجهود

ما إن يعدد فيها المرء من سكن

إلا ليخربه من دون تعديد

لو كان تسويدها معنى نحققه

ما غم عنا اشتراكا لفظ تسويد

وما ثراها لدى التحقيق غير ثرى

والريد من لؤمها ريد على الريد

فما اللبيب من استغواه عاجلها

عن صدق آجلها لهوا بموجود

إذا بدا لك من ترغيبها سبب

ألفيت ألفا لها يقضي بتزهيد

لا يزعم الغافلون الموت مغفلهم

فكل حي وإن يهمل إلى الدود

لعل ينفع من يرجى تعلته

لو كان ورد المنايا غير مورود

إن كان لا بد مما حم في أجل

فلينع قبل مناه كل مولود

وعامل كان معمولا لعملته

كحاسد كان معمولا لمحسود

قضى الأولى لهم استوحشت نحبهم

وقد قضيت لهم نحبي وتعديدي

كأنما الجفن يحمي ناظري شفقا

عليه من دخل إغفاء وتسهيد

فكل هم به هم يؤرقني

وكل شجو به شجوي وتنكيدي

محضتني يا وفي العهد تعزية

بمن فقدت بيوم عشت موعود

وعلت والله أدرى إذ دريت بنا

أبياتك الغر ملحودا بأخدود

ذكت معانيه حتى أج مصحفها

لكن تبر طناها جد منشود

أقدم بها عادة للدهر ثابتة

وإنما نحن فيه نبت تجديد

يصيب فيه الخوارزمي واصفه

يعطي ويمنع لا للبخل والجود

كرمت يا من تحرى الصبر أنت حر

بأن تفوز بمأمول ومقصود

وامتدحه جرجس أبلا من صيدا بقوله:

بحور الهوى قد أغرقت كل سابح

وقصر في ميدانه كل رامح

وما الحب سهل لو تراه وإنما

عناء وما فيه ارتياح لطامح

جنون وعقل للذي يبتلى به

فناء البقا مجرى الدموع السوافح

سعيد شقي من غدا مبتلى به

ومن هو خال منه ليس بفالح

فلو شمت من أهوى وضوء جبينه

ونور المحيا همت في ذي الملايح

فقم أيها الصاحي اسقني خمرة اللمى

ونصبو لتغريد القماري الصوادح

أهيم بمغناها كما بت هائما

بنظم إمام للفضائل مانح

لبيد بليد عنده حيثما غدت

قصائده تبكي زكي الروائح

نصيف لأن الدهر أنصفنا به

فأضحى به أهلا لكل المدايح

له العلم عبد طائع وهو سيد

لذا جل منه الوصف عن كل قادح

حميد المزايا وافر العلم كامل

وبحر بيان مغرق كل سابح

فأجابه بقوله:

مدامع جفن الصب إحدى الفواضح

فيا لك سرا واقفا تحت بائح

ومن كان منا ليس يملك قلبه

أيملك دمعا سافحا إثر طافح

وقفنا على وادي الغضا وغصونه

تكاد لوجدي تلتظي من جوانحي

ترى كلل الأظعان بين ضلوعنا

ونسأل عنها كل غاد ورايح

لكل محب في هواه سجية

ولكن ما كل السجايا بصالح

وأعدل أهل الحب من ليس يلتجي

إلى بسط عذر في ملاقاة ناصح

هويت الذي أعطى العلوم فؤاده

فأعطته منها سانحا بعد بارح

تيمنت باسم الخضر فيه وطالما

ترى المرء لا يخلو اسمه من لوايح

وجدت به بل منه متعة سامع

ويا حبذا لو نلت رؤية لامح

به حسدت عيناي أذني وربما

تخصص بالإقبال بعض الجوارح

لعوب بأطراف الكلام على الصبا

رأيت به الممدوح في ثوب مادح

وهيهات ليس السن مانحة النهى

لمن قلبه بالطبع ليس بمانح

إذا تم فاق الشمس في غرة الضحى

هلال يفوق البدر في سعد ذابح

لكل حديث في الزمان خواتم

تدل عليها محكمات الفواتح

وكتب إليه محمد عاقل أفندي من الإسكندرية:

ثمرة غصن براعة مطلع الأدب، وحبة حسن ختام يراع مجامع الأرب، الوحيد الذي دلنا شذا عرف نافة مسكه، إلى تيقن علو مرتبته قبل التحير في شكه، جناب المحب الأعز، والودود الأميز؛ الشيخ ناصيف اليازجي، نال كل ما يرتجي. آمين.

أما بعد، فإن ود الأدب حميم، ولو على السماع، وجامع الظرف زعيم، مع تباين البقاع. وقد ورد لنا أنموذج ديوانكم المنيف، ونمونة قولكم اللطيف، فاشترى حبة القلوب في عكاظ بيانه، وسلب درة العقول بسحر ألفاظ تبيانه، واستخفق طير روح الشوق للحوم والانقضاض على اقتناص فرصة التعارف، واستصفق ورق دوح النوق للسمو والانخفاض على مناص غنيمة التآلف. فحررت هذا النميق، وسيرت هذا التنميق، مذيلا بعاطلة هي لكم واصلة، إن اقترنت بالقبول ماست على أم الحجول، وأردفتها بأخرى من قول الأمجد الأفخم الأغر، سعادة حمد محمود أفندي مترجم مجلس الأورناتو بالثغر - عسى بذلك ننتظم وإياه في سلك عند محاسيب السعادة، ونفوز بالتشريف كما جرت به بين الأدباء العادة.

كاشف أفندي زاده

الفقير محمد عاقل

للفقير كاشف زاده محمد عاقل:

معالم الصبر دون الحي من مضر

ومرتع الغيد في قلبي وفي فكري

ومنبت الشيح شيح الظبي أفئدتي

فارعى وحاذر من النيران والشرر

واحكم بما شئت في حر تملكه

رق الغرام وقيد مطلق الخفر

وفوق اللحظ من جفنيك في كبدي

فموت مثلي من سهم ومن وتر

فما يعيش مدى الأيام ذو نفس

والحتف يحلو بسيف الطرف والحور

أيا غزال المهى بالله صل دنفا

قد صاد فيك ليوث البر والقفر

وسامرته سها الآفاق مذ سهرت

عيناه في هجر ليل طال كالشعر

يزيد بي الوجد حتى إن يغيبني

عن الوجود أرى رؤياك في سهري

فاحزم الرأي إشغافا بأبهتي

والحزم في الوجد فوق الحزم في الخطر

نعم وإن كان ذل الحب مفخرة

فعز ذل الهوى عز بلا قذر

كم قد أبيت ونيران الفراق لها

في حندس الليل ضوء فاق عن قمر

أقلب الطرف في الآفاق عل أرى

ما قد يرى أو يلاقي طرفه نظري

وأجمع الرأي حتى إذ أخيله

للعين عينا وأملا كوبة السمر

فصيب الرأي من إن ضل رائده

يجد في السير نحو العين بالأثر

وأجبن الناس من يلوي أعنته

في الاقتحام ويعزي الأمر للقدر

ما زلت أتبع مجرى سيل صيبه

والحال قد حال بين الورد والصدر

حتى ظفرت بأبيات لقد نشرت

طبعا فدلت بنا الأعلام للجدر

أنعم ببيت قصيد المجد قائلها

عين الزمان وحيد البدو والحضر

نصيفنا اليازجي من نال مرتبة

في الظرف عن دونها يا ضيعة العمر

بشرى لبيروت قد نالت ببهجته

في طالع السعد حظا صين عن كدر

إن كنت لم أره هذي مآثره

قد عرفتنا مقام الغصن بالثمر

أو كنت قبل على عشق السماع به

أهيم فالآن عندي صادق الخبر

أعلل القلب باللقيا فيقلقه

مطول الوعد في أيام مختصر

ما أقصر العمر إن كانت معللة

كل المقاصد بالغايات والغرر

فيا نسيم الصبا وافيه باكرة

بعرف مسك سلام فائق عطر

وبلغيه تحيات لقد نثرت

تفوق في حسنها منظومة الدرر

فإن تعودي بنشر الطيب عاطرة

منه إلينا فما خيبت في وطر

وإن يمل بصدود فهو في سعة

لا عيب قد صد قبلي صاحب الخضر

وخاطب الخود إذ ما رد مرسله

فلا يعاب فإن الوشي للحبر

وهاك خاطبة الود المتين أتت

لتخطب الود فاطلب غالي المهر

فما لديك سوى كفء تشد له

ظهر المطايا فتنسى أهبة السفر

لحمد محمود أفندي:

مردد الظن إن السحر في النظر

عن أعين الغيد حقق صحة الخبر

واستنصح العقل من قبل القدوم لها

فإن قدمت فكن منها على حذر

فإنها أسهم سرعى إذا رميت

ألم تكن هي إلا اللمح بالبصر

ما هن أسهمك اللاتي عهدت بها

تكلف الشد في قوس وفي وتر

هي العيون لها في كل جارحة

جرح فلم تبق من عضو ولم تذر

تعودت في الورى أمرا فما التفتت

إلا لقصد خفي عن أعين البشر

ترنو متى أبصرت صبا فتصدعه

فما تشاهدها إلا على خطر

هن النواهد ما فرقن من طرر

إلا ليجمعن بين الفجر والسحر

بيض كواعب لولا سود أعينها

ما كنت أخشى من الخطية السمر

من كل فاترة الأجفان ناشطة

لها لفتك الورى نوع من الخفر

خود ممنعة عن خمر مبسمها

تنفي الإباحة إذ تفتيك بالحظر

عليلة الطرف ما صحت مودتها

إلا لتحصل من قلبي على وطر

نوامة الجفن من عين المهى عرفت

لم ينطبق جفنها إلا على حور

ينسيك ناعسها طول السهاد بها

ولذة النوم تنسي غصة السهر

يرى المؤمل عينيها فتصرعه

كأنما الموت وافاه على قدر

هي المهى حجبت عن كل ذي سفه

فما تبدت لطرف قط ذي قذر

يا معرضا عن هواه بالذي اقترفت

واشوه في نقله عن ربة الحبر

تجفو مبرأة مما به رميت

من كاذب كأماني هاجع السمر

طووا لك الزور في وشي الكلام وإن

حققت أبصرته وشيا على وبر

وأحمق الناس من إن أمكنت فرص

يرضى من الشيء بعد العين بالأثر

فالزم هوى الغيد غيد البيد هن على

هواك أبقى ودع صناعة الحضر

واقصر هواك عليها مثل مقتصري

على نصيف مديحي غير مختصر

قد حل بيروت لكن مصر تعرفه

وكيف تنكر أرض طلعة القمر

ثمار فضل أتت من دوح سؤدده

بمصرنا فعرفنا العود بالثمر

إن يمض دهري وخاب الظن فيه ولم

أظفر برؤيته يا ضيعة العمر

يا أهل بيروت إن لاقيتم كبدي

فمتعوا جدركم من قبل بالخفر

أكباد أهل الهوى حرى وما بردت

إلا لترمي من الأشواق بالشرر

ودونكم حر لبي فهو رقكم

وارعوا ذمام شج فيكم على سفر

ملكتموه بألفاظ هم غرر

ورابح من شرى الألباب بالغرر

بعز ألفاظ يازجيكم ومفخره

سدتم على كل معتز ومفتخر

أيامكم بمعانيه ازدهت وبه

صفت لياليكم من شائب الكدر

على سنى فضله طيبوا بعصركم

فإن بدر علاه غير مستتر

وفي ثناه ارتضوا مني بعاطلة

تجنبت ما غلا من أنفس الدرر

فقال في جواب الأول:

أهدت لنا نفحات الروض في السحر

خريدة من ذوات اللطف والخفر

خاضت إلينا عباب البحر زائرة

فليس بدع بما أهدت من الدرر

كريمة من كريم قد أتت فلها

حق الكرامة فرضا عند معتبر

أهدى إلينا بها رب القريض كما

أهدى السحاب إلينا عارض المطر

محمد العاقل الشهم الذي اشتهرت

ألطافه بين أهل البدو والحضر

في طيب مجلسه علم لمقتبس

وفي رسائله جاه لمفتخر

رحب الذراع طويل الباع مقتدر

قد نال أسراره من فضل مقتدر

كأنه النيل في فيض وفي سعة

لكن مورده صفو بلا كدر

ماضي اليراع يوشي الطرس عامله

فيبرز الحبر في أبهى من الحبر

تجري على الصحف الأقلام في يده

فتحسن الجمع بين البيض والسمر

أصبت من بحر علم لجة طفحت

فكنت من غرق فيها على خطر

تخوض فيها الجواري المنشآت بنا

من النهى لا من الألواح والدسر

أهلا بزائرة غراء قد نزلت

في القلب مرفوعة منه على سرر

أحيت كليم فؤاد لي فقلت له

أوتيت سؤلك يا موسى على قدر

وقال في جواب الثاني:

ربيبة من ذوات الغنج والحور

سبت فؤادي فلم تبقي ولم تذر

قد هاجت الشوق مني نحو مرسلها

فأصبح السمع محسودا من البصر

أهدى بها حمد المحمود مكرمة

منه فكان جليل العين والأثر

هو الكريم الذي تسمو مواهبه

عن النضار فيهدي أنفس الدرر

أفادني من عطاياه بنافلة

جاءت على غير ميعاد ولا خبر

خير الكرام الذي يعطيك مبتدئا

وأبهج الرفد رفد غير منتظر

اللوذعي الذي في مصر مجلسه

وذكره لا يزال الدهر في سفر

جهاده في سبيل العلم ملتزم

وهمه الدرس في الآيات والسور

قد جاءني مدحه عفوا فحملني

شكرا ثقيلا عظيم القدر والقدر

لبست حلة فخر منه زاهرة

بالحسن لكنها طالت على قصري

راقت بعينيه أبيات قد انتشرت

في مصر كالحشف المطروح في هجر

هاتيك أسعد أبيات ظفرت بها

فإنها جعلتني أسعد البشر

عين قد استحسنت مرأى فطاب لها

والله يعلم سر العين في الصور

أخاف إن قلت لم يصدق له نظر

من كان في كل أمر صادق النظر

وكتب إليه الشيخ عبد الرحمن الصوفي الزيلعي (من القاهرة):

إن أبدع ما تحدث به البراعة على منابر الأنامل، وأبرع ما سجعت به في رياض الطروس فهاجت منه البلابل؛ سلام تتأرج الأرجاء بعرف طيبه، وتنتسب الآداب لغزله ونسيبه، وبث شوق خصمه ألد، وغريمه لا يرد، يوري أواري، ويؤجج نار تذكاري، أهديهما لحديقة الآداب، ونور حدقة أعين أولي الألباب، خزانة الأدب، وشنوف الذهب، ونفحة الريحانة، ورشحة طلا الحانة، وسلافة العصر، ويتيمة الدهر، شمس اللطف والجمال، وبدر الظرف والكمال، من تزمل بالمعارف، وتدثر باللطائف، الشيخ الأكرم، والشهم الأفخم، من لا أسميه؛ تكرمة له وإجلالا. لا زال في عز وأمان، من طوارق الحدثان، ما هب نسيم الصباح، وتذكر مشتاق عهد الوجوه الصباح.

هذا والباعث لتحريره، وتنميقه وتحبيره، محض السؤال عن عزيز الخاطر العاطر، والمزاج الباهي الباهر، واللطف الزاهي الزاهر. لا زلتم تجنون من رياض العلم ثمار المعارف، وترفلون بأردية اللطائف والعوارف. هذا ونعرف جنابكم الشريف بأننا قد حصل لنا سوء حظ من بيروت حينما توجهنا إليها لعدم التشرف بجنابكم التي كانت هي غاية القصد والمراد، ولكن لم تزل حاضرا في القلوب، ومن المعلوم أن ما في القلوب كالمشاهد. ولا غرو من بعد الديار؛ فإن الشمس تنظر عن بعاد. هذا ولتأكيد الخلوص في المحبة البهية، بادرنا بترقيم هذه الصحيفة الثنية، فمهما لزم يكون أسير الإشارة فضلا عن صريح العبارة. ودمتم والسلام.

المحب المخلص لكم

عبد الرحمن الصوفي الزيلعي

عفي عنه

يا فتاح:

بلغت مقاما لم تنله الأوائل

وحزت كمالا تبتغيه الأفاضل

ولست براء غير فضلك يرتجى

لكل ملم فيه تدمى الصياقل

ولولاك لم تدر العلوم بأنها

تجل وأن قد بان منها دلائل

يطول لسان الفخر في فضلك الذي

بنيت له ركنا ليرجع ثاكل

ويقصر باع الدهر عن وصف ماجد

له جمعت في المكرمات الفضائل

فيا لك من مجد ويا له من يد

تطول إذا مدت وإن حال حائل

تقلدت الآمال فيما تقلدت

أولو الفضل فيكم والكرام الأماثل

إمام الورى أرسلت للناس قائدا

وهل غيركم يرجى وأنت المناهل

وكل مرام للأنام بغيركم

له الليل وجه والنجوم أوافل

وكل محب سار نحو وصالكم

ليبلغ ما يرجوه صب وسائل

يفوز بما يرضى من الوصل والهنا

لأنك مأمول ومثلي آمل

فلا زلت في حلل الفضائل منجدا

تحدث عنكم للأنام المحافل

ولا زلت غوثا للأنام ورحمة

تجل على من قلدته الذوابل

وكل ثناء من أسيرك قد بدا

كخردلة مما ثنته الأوائل

وكل إمام حاز فضلا على الورى

بشعر وقال الشعر عندي وابل

وأظهر في دعواه جل دلائل

تدل ومنها القول ها أنا قائل

لما بلغ المعشار في حصر وصفكم

وإن هو قد عانته حزم ووائل

وها أنا ذا الصوفي قد قلت منشئا

بلغت مقاما لم تنله الأوائل

فأجابه بقوله:

منازل عسفان فدتك المنازل

أراجعة تلك الليالي الأوائل

وهل ظبيات البان قد صرن بعدنا

أوانس أم كالعهد هن جوافل

أليس غبينا أن جيدي بأدمعي

تحلى وأجياد لهن عواطل

وإني أبيت الليل ما أعرف الكرى

وجفن الذي أهواه بالسهد جاهل

إذا ملكت أيدي الهوى قلب عاشق

فأهون شيء ما تقول العواذل

وأعذب شيء في الزمان أحبة

تزورك أو تأتيك منها رسائل

أتتني بلا وعد رسالة فاضل

له ولها حقت علي فواضل

بيوت من الأشواق فيها مجامر

ولكنها للأنس عندي مناهل

لعبن بقلبي إذ حللن بمسمعي

كما لعبت بالمعربات العوامل

ذكرت الحريري الذي اليوم عندنا

تلوح على الصوفي منه شمائل

له النظم والنثر الذي طاب لفظه

ومعناه لطفا فهو للحسن شامل

حكمنا له بالمكرمات على هدى

من الحق إذ قامت لدينا الدلائل

سبوق إلى الغايات قصرت دونه

وكيف يباري فارس الخيل راجل

تفضل بالمدح الذي هو أهله

كريم إلى أوج الكرامة واصل

وأثنى بما فيه فكان كأنه

بذاك يناجي نفسه وهو غافل

ثناء أراه باطلا غير أنني

أرى سوءة لو قلت ذلك باطل

فأسكت عن هذا وذاك تأدبا

وكم من سكوت قد تمناه قائل

وكتب إليه السيد حبيب البغدادي:

بث المشوق سرائر الأشواق

فمشت بها الأوراق للأحداق

ناب الوصال إلى المزار إذا نأى

خطو اليراع وساحة الأوراق

ومشوق سمع لم يمتع طرفه

والسمع باب وليجة العشاق

منها سلكت إلى العلاقة في علا

ناصيف رب الفضل والأعراق

ملأت محامده المسامع مثلما

ملأ النجوم صحائف الآفاق

أدب إذا طافت كئوس عقاره

سكر النديم وصح عقل الساقي

فيه ترنم كل شاد ناشد

وتغنت الورقاء في الأوراق

فذكرت إنشاد البليغ وشوقه

لرسائل الصابي أبي إسحاق

وشكرت منه من أتاح مشنفا

أذني بدر صفات ذي الأخلاق

وهو الحكيم الفيلسوف ومن سما

في قدره كالبدر في الإشراق

هو ذاك إبرهيم ذو الطب الذي

أمسى على أفلاط نجم محاق

فبعثنها عذراء أما طرفها

فمدادها والطرس كالآماق

ترنو بإنسان البديع عيونها

لجال إنسان الجميل الباقي

والعين يصغر جرمها لكنها

تلقى بها الدنيا على الإطلاق

ونشرت ودا قد طويت سواده

بصحيفة هي صفحة الأشواق

لقليلها معنى يشير لحاذق

إن القليل كفاية الحذاق

فأجابه بقوله:

فعلت كما فعلت سلاف الساقي

هيفاء تحكي الغصن في الأوراق

لبست من الوشي البديع مطارفا

ولها من الأسرار حبك نطاق

أحيت بزورتها فؤاد محبها

مثل السليم أتاه نفث الراقي

بعث الحبيب بها إلي حبيبة

هاجت إليه بلابل الأشواق

مكنونة أخذت خدور صحائف

فإذا بدت أخذت خدور تراق

ألقت على بصري وسمعي صبوة

فكلاهما من عصبة العشاق

يا سيدا ملك القلوب بلطفه

فغدت رقيقة رقة الأخلاق

أسمعتها نظم الحبيب فما درت

أحبيب طي أم حبيب عراق

قد جاءني منك المديح كأنه

زهر يمد لقفرة برواق

من صنعة الأقلام كان طرازه

وطرازكم من صنعة الخلاق

وكتب إلى محمد عاقل أفندي وحمد محمود أفندي (المذكورين آنفا في الإسكندرية):

بكى حتى بكيت على بكاه

جريح عينه نزفت دماه

يسائل أين حل ركاب ليلى

وينسى أن ليلى في حشاه

هوى قلب تعلقه اختيارا

فصار عن اضطرار منتهاه

ونار الحب يوقدها غرور

ولكن ليس يخمدها انتباه

تنود بنا العواطف راكبات

طريقا لا تقيم على هداه

فنهوى من تراه العين طورا

ونهوى تارة من لا تراه

هويت النازلين ديار مصر

وقلبي قد أحلهما حماه

هما القمران في أكناف أرض

يغار النجم منها في سماه

كلا الرجلين من أفراد عصر

يقصر كل عصر عن مداه

وكلهما حسام مشرفي

تلوح إذا استطير به المياه

أصابا كل محمدة وفضل

له بين الورى شرف وجاه

فذاك محمد يثنى جميلا

عليه وذاك من حمد ثناه

يصول يراع كل في يديه

بأنفذ ما تصول به قناه

وأبلغ ما تقلبه قلوب

وأفصح ما تفوه به الشفاه

أطاعهما القريض فكان عبدا

بأسهار الليالي مشتراه

ولو عرفتهما الأعراب قدما

لخرت نحو شعرهما الجباه

على الإسكندرية كل يوم

سلام الله معتنقا رضاه

لئن يك فاتها جبل ففيها

جبال في معارجها يتاه

بها الجبلان من علم وحلم

وحزم قد أقامهما الإله

علينا قام ظلهما مديدا

ونور الشمس يسطع من وراه

نهيم إلى ضفاف النيل شوقا

وإن بعدت علينا ضفتاه

ونرصد كل غادية عساها

ترشفت المواطر من صفاه

هي الدنيا تغر بها الأماني

وأين من الذي غرت مناه

أماتت في هواها كل نفس

وكل فؤاد صب في هواه

تدور بنا على عجل رحاها

وداعي الموت قد دارت رحاه

إذا غرس الفتى فيها رجاء

فلا يرجو الحيوة إلى جناه

فأجابه بهذه الأبيات:

نسيم الشام فاح لنا شذاه

وذا يا روح من عمري مناه

وكم في الناس أهواء ولكن

لكل طاب في الدنيا هواه

لك البشرى فقد وافى وفيه

وجدت عبير من أهوى حماه

عهدت الدهر يمطلني بقصدي

أسهوا كان ذاك أم انتباه

هوى قلبي هوى الأحباب لما

فقدت رسول من أهوى سواه

أياديه لها عندي جميل

شفاه الحمد تعجز عن أداه

أليس وكلما يرنو يزكي

لهيب الحب في قلبي أراه

أمن عجب عشقت على سماع

ومن أهوى بقلبي حل ها هو

خذوا المرآة من قلبي تروه

يغار النجم منه في سماه

وللأرواح في المعنى اجتماع

أرى كل اتصال من وراه

أرى وادي الحبيب وما رآني

لأن بمهجتي غاصت خطاه

خطبت وداده بالروح مني

فأدى مهرها جود علاه

وأنصف بالكتابة حيث يدعى

نصيف اليازجي لدى نداه

فريد لوذعي لو رآه

لقلده الحميد وصاحباه

هو المعنى وعين الظرف لفظ

وروح الجسم للأعضاء جاه

حوى كل الكمال وكل فن

والمظروف ظرف ما حواه

تراه في سماء الشعر شمسا

وهل يخفى عن الرائي ضياه

سرت بكلامه الركبان حتى

تلا القاصون والداني ثناه

فيا بيروت فيك بدر مجد

جميع المدن ضاء بها بهاه

إذا ما حزن مثل النيل يوما

فبحر اليازجي به السناه

جرى عذبا وطاف الأرض سبعا

ومنك هاك أجراه الإله

جرى بضفائف الألباب حتى

إلينا قد تناهت ضفتاه

وأهدى من جمان اللفظ معنى

صحاح الجوهري عنه رواه

وحملني جميلا كل عنه

مثيلي والكمال له دعاه

فأوجبني الثناء عليه حقا

ونول الشكر أعجز عن سداه

سريت بإثره والظن فيه

يغض الطرف عن شين يراه

ومبدأ ما أقول به ابتكارا

لغيري في سواه منتهاه

وكتب إليه الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري مفتي المنوفية والغربية بالديار المصرية:

بسم الله

حمدا لمن خلق الإنسان، وعلمه البيان، وفنق رتق لسانه برقائق المباني الموشحة بدقائق المعان، واستخرج من معادن ألسنة العرب إبريز أفصح اللغات، وأجلى عرائس البلاغة لذوي الفصاحة فأماطوا براقع وجوهها السافرات، وصلاة وسلاما على نبي الأمة وكاشف الغمة القائل: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحابته أجمعين. وبعد، فيقول فقير رحمة ربه، وأسير وصمة ذنبه، عبد الهادي نجا الإبياري - عمه الله وإخوانه بلطفه الساري: قد اطلعت على ديوان شعر شاعر القطر الشامي، الهمام الفاضل الشيخ نصيف اليازجي المتأرج عرف قدره السامي، فوجدته جنة أدب عالية، قطوفها دانية، قد أينعت فيه غصون البلاغة وأثمرت، وتلألأت فيه نجوم البراعة وأزهرت؛ فقلت مطرزا حلته السندسية، مقرظا بهجته السنية:

هكذا تنسق اللآلي وتنضد

هكذا تجمع المعاني وتحشد

هكذا هكذا الكلام كلام

صيغ درا بفكرة توقد

صد أهل اللسان حسن اختراع

منه عن مثله فأصبح مفرد

وتراءى لهم مني برق مبنا

ه فخروا لحسن معناه سجد

كل بيت فيه لكل خطيب

مفلق سجدة متى ظل ينشد

إن هذا هو البيان الذي أعجز

كلا عن البيان وأقعد

غزل في حماسة وبديع

في بيان لله در من أنشد

هو قاضي البلاغة الفاضل الند

ب الذي ظل في المعارف أوحد

عضد الفضل والعصام الذي استم

سك شخص العلا به وتعضد

ملك القول من يقسه بقس

فهو لا شك في القياس مفند

بنصيف قد أنصف الدهر بيرو

ت فأضحت تتيه في ثوب سؤدد

ولئن أصبحت تفاخر كل ال

مدن أضحى لعمري الحال يشهد

ما سمعنا بمثله عيسويا

يتحذى بمثل معجز أحمد

نظم الدر والدراري في أح

سن سمط من البيان ومهد

ألمعي لكنه عيسوي

كان أولى بفضل دين محمد

لو تروى ارتوى بكوثره العذ

ب وأروى إظماء من بات يجحد

جل من قسم الحظوظ فلا عت

ب وإن كان العقل في الأمر معهد

حكم مولى يقضي علينا بما شا

ء تعالى عن التولد سرمد

دم حليف العلا نصيف بفضل

لا يوازى وحسن حمد مؤبد

فقال يجيبه:

تقول لقلبي ربة الأعين النجل

أفق لا تقف بين الصوارم والنبل

قد استعبدته عينها وهي عبدة

فيا ويل عبد العبد ذل على ذل

فتاة يغار العقد من حسن جيدها

وتضحك عجبا مقلتاها على الكحل

بكيت وقد أرخت سدول قناعها

فقالت جرت هذي السحابة بالوبل

مهفهفة الأعطاف تخطر كالقنا

بمعتدل لا شيء فيه من العدل

تكاد لهضم الكشح تجعل عقدها

نطاقا كما يستبدل المثل بالمثل

أسالت على ورد الخدود ذؤابة

لخوف ذبول قد تلقته بالظل

وخطت لخوف العين بالوشم رقية

على معصميها كالفرند على النصل

تبدت وما أعمامها من قضاعة

تعد ولا أخوالها من بني ذهل

وما رفضت منهم سوى الجود والوفا

ولا حفظت منهم سوى النهب والقتل

يلومونني أن أحمل الذل في الهوى

كأنهم لم ينظروا عاشقا قبلي

إذا لمت من لا تكسر القيد رجله

فإنك أولى بالملامة والعذل

إلى الله أشكو جور فاتنتي التي

لئن رضيت قلبي فقد زدتها عقلي

وأشكر مولانا الكريم الذي به

غدت مهجتي عن كل ذلك في شغل

إمام من الأفراد قطب زمانه

ومالك رق العلم في العقل والنقل

عليه من الهادي الذي هو عبده

سلام عداد القطر أو عدد الرمل

هو العالم العلامة العامل الذي

لدى ربه قد قام بالفرض والنفل

إذا ما رقى متن المنابر خاطبا

تقول رسول جاء في فترة الرسل

أتاني كتاب منه أحيى بوفده

فؤادي كفيض النيل في البلد المحل

أحب إلى الأسماع من لحن معبد

وأعذب في الأفواه من عسل النحل

تفضل بالمدح الذي هو أهله

فلم أستطع شكرا على ذلك الفضل

لئن لم يصب ذاك الثناء فحبذا

تكلف مثل الشيخ ذلك من أجلي

لك الله يا من جل ذكرا ومنة

فحق له التفضيل في الاسم والفعل

ويا من تلبيه القوافي مغيرة

بأخفى على الأبصار من مدرج النمل

إليك عروسا تستحي منك هيبة

لذاك قد التفت وسارت على مهل

قد استودعت قلبي الكليم وما درت

فكان كذاك الصاع في ذلك الرحل

أشوق إلى تلك الديار وأهلها

جميعا كما اشتاق الغريب إلى الأهل

وإني لأرضى بالكتاب على النوى

إذا لم يكن لي من سبيل إلى الوصل

وكتب إليه محمد عثمان أفندي من القاهرة:

عصر الشباب مضى وكان ظريفا

كم تهت فيه وكم لبست شفوفا

ولى وأبقاني إلى الصحف التي

ملئت بقدر حروفها تحريفا

في معشر قطعوا عن الحسنى وقد

سلوا على قطع الرجاء سيوفا

من لي بهجرة أحمد فأصدهم

وأصد مصر لأجلهم والريفا

وإلى الشآم أشد راحلتي وأق

صد منصفا من أهلها ونصيفا

اليازجي الحبر والبحر الذي

وسع العلوم بخطه تأليفا

رب القريض أبو المقامات التي

تركت حريرينا يبيع الصوفا

وأحط أحمالي بظل جنابه

وأنال من بركاته التشريفا

ولم نقف له على جواب.

وورد إليه من عبد الباقي أفندي العمري هذه الأبيات تقريظا على مقاماته مجمع البحرين، وهي قوله:

غرر أم درر مكنونة

في عباب البحر بين الصدفين

أم غواني سفح لبنان لمن

حل بغداد إشارة باليدين

أم دمى من قصر غمدان لنا

صلتت أجفانها ذا شفرتين

هام قلبي بمعانيها كما

هام من قبلي جميل ببثين

أم مقامات لناصيف علت

وأنارت فازدرت بالفرقدين

ولنا أوراقها من حبرها

أبدت المسك بصحف من لجين

وظفرنا إذ حكت أخلاقه

يوم وافتنا بإحدى الحسنيين

وتراءت بحلى أرقامها

فتذكرنا ليالي الرقمتين

لست أدري وهي العنقاء من

أين جاءت وهي لا تعزى لأين

قد أتتني تتقاضى دينها

فوفت للمجد عني كل دين

بمراياها العقول ارتسمت

فمحت عن عين عقلي كل غين

وتجلت صور العلم بها

فجلت عن كل قلب كل رين

وعلى الإحسان والحسن معا

طبعت والطبع مشغوف بذين

رحت من راحة معناها ومن

روح مبناها حليف النشأتين

يا لسفر أسفرت ألفاظها

بين أفقيه سفور النيرين

يرجع الراجي مجاراة له

بعد محض اليأس في خفي حنين

طار في الآفاق من خفته

بالمعاني فاستخف الثقلين

ودعا الشيخ الحريري مع ال

همذاني أثرا من بعد عين

بين ما قد أبدعا فيه وما

بين ما أنشاه بعد المشرفين

قرب الشاحط منا نشره

فطوى ما بيننا شقة بين

يا له قاموس فضل قد طوى

مجمع البحرين بين الدفتين

فأجابه بقوله:

أسألت بان الجزع وهو يصفق

كيف الثنية بعدنا والأبرق

وهل الأجارع أمطرت بعد النوى

يوما وهل تلك الخمائل تورق

يا جيرة الحي الذين تحملوا

ما كنت أحسب أننا نتفرق

أستغفر الله العظيم بأنني

فارقتكم وبقيت حيا يرزق

ولقد بكيت على الديار فساءني

دمع له سعة وطرف ضيق

والدمع من بعض المياه قليله

يروي ولكن الكثير يغرق

هل مبلغ عني التحية ظبية

عن مسك نكهتها اللطائم تفتق

تلقي معاطفها الغصون فتنثني

خجلا وتلقاها النجوم فتخفق

بدوية من آل مرة قد حلا

نهب القلوب لها بطرف يسرق

من خال وجنتها بلاء أسود

من وشم بلجتها عدو أزرق

يا درة الغواص طي خبائها

ويحي متى هذا الخباء يمزق

لو تطبع الأحداق فيه رأيته

كالدرع من حدق إليه تحدق

غلقت حصونك دون ممدود الهوى

لكن عن المقصور ليست تغلق

إن لم تصب قدم إليك تطرقا

خوف الرقيب فللقلوب تطرق

قد كان لي قلب فطار به الهوى

فأنا بلا قلب أهيم وأعشق

وجد توقد في خلال أضالع

قد كان يحرقها فصارت تحرق

قد أيمن الصبر الذي أعددته

للنائبات وركب شوقي معرق

شوق يهيج إلى الذي ينسى به

شوق الجمال الهائم المستغرق

العالم الصدر الكبير الشاعر ال

فطن الشهير الكاتب المتأنق

علم يمد على العراق رواقه

وبه العواصم تستظل وجلق

أبقى له الباقي الذي هو عبده

شيما من الفاروق لا تتفرق

منها الوداعة والزهادة والتقى

والعدل والحلم الذي لا يقلق

بدر بأفق الشرق لاح وضوؤه

في الخافقين مغرب ومشرق

ما زال في شرف الكمال فلم يكن

نقص ولا خسف به يتعلق

هو ذلك الرجل الذي آثاره

لا تقتفى وغباره لا يلحق

وله الفتوح إذا تمرد مارد

في كل معضلة وعز الأبلق

تأتي نفائسه إلي سوابقا

وهو الذي في كل فضل يسبق

ولعلها كالصبح يسبق شمسه

والشمس تدنو بعد ذاك فتشرق

سرت برؤية خطه العين التي

أبدا لرؤية وجهه تتشوق

أثر الأحبة يستلذ به كما

يلتذ وسنان بطيف يطرق

غمرت فوائده البعيد بنيلها

مثل القريب ونيلها يتدفق

كالبحر يهدي من جواهره إلى

من لا يراه كمن به يتعمق

يا أيها القمر الذي من دونه

طبق المفاوز لا السحاب المطبق

إن كنت قد أبعدت عنا نازحا

فالبعد أشجى للقلوب وأشوق

أثني عليك كأنني متفضل

ولك التفضل عند من يتحقق

لو لم يكن لك ما نطقت بمدحه

فترى بماذا كان شعري ينطق

وقال في رسالة إلى الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي:

بكل ظبية وحش ظبية الإنس

ماذا نعادل بين العفو والفرس

إن كان في الجيد والعينين بينهما

شبه فأين جمال الثغر واللعس

ربيبة من بني الريان مترفة

ترنو بلحظ لأسد الغاب مفترس

سبحان من صاغ ذاك الثغر من برد

لها وألهب ذاك الخد بالقبس

فتاكة اللحظ غرتني لواحظها

لما رأيت عليها فترة النعس

تبيت في حرس من لحظ عاشقها

يا ويحه وهو منها ليس في حرس

يلوح ضوء جبين تحت طرتها

يا للعجاب اجتماع الصبح والغلس

وتنتضي السيف من جفن مضاربه

أمضى من السيف في كف الفتى الشرس

مليحة قصرت عنها الحسان كما

قد قصرت كل مصر عن طرابلس

عن بلدة زانها الله العلي بما

أفادها من عطايا روحه القدس

أنشا بها كنز أسرار لسائله

أشفى من المطر الهامي على اليبس

قضاض مشكلة خواص معضلة

رواض مسألة من كل ملتبس

الناظم الناثر الشهم الكريم له

بالفضل يشهد طيب النفس والنفس

سهل الطباع سليم القلب من وضر

صافي الصفات نقي العرض من دنس

يزف من كلم كالدر ساطعة

أبكار فكر كضوء الصبح منبجس

خرائد من بنات العرب قد فتنت

بحسنهن بنات الترك والفرس

إذا أفاض لسان منه في جدل

مضى فأبلى لسان الخصم بالخرس

لا يصطلي نار إبراهيم مجتهد

ولا تنال علاه كف ملتمس

يا غائبا بان عنا غير ملتفت

وذكره في حمانا غير مندرس

إن لم تكن نظرة منكم أفوز بها

فنظرة من كتاب منك مقتبس

فأجابه بهذه الأبيات:

قد غازلتني مهاة السرب والأنس

فنبهتني لحب الغيد بالنعس

وألبست وجنتيها للورى خفرا

أمسى خفيرا لها من لحظ مختلس

تركية خدها القاني حمته ظبى

هند عن العرب فاستغنت عن الحرس

لم يلمس القرط منها كف عاشقها

وهل تنال الثريا كف ملتمس

تحوك بالغزل ثوب السقم مقلتها

وكم محب بها ثوب السقام كسي

قد أطلعت عين شمس سين طرتها

ومن عجيب طلوع الشمس في الغلس

حاولت برد الحشى من نار وجنتها

كمن يحاول برد النار بالقبس

على الأقاحي ثنايا ثغرها ضحكت

وحمرت وجنة الصهباء باللعس

أجل عيونك في ما تحت برقعها

والبدر تحت سحاب في الدجى وقس

أخو الحسين لها الوجه البديع كما

لرقنا حسنه أمسى أبا أنس

لم ينصف الشعر فيها إن تقاصر عن

أغزال ناصيف زاكي النفس والنفس

فريد عصر غنينا بالحديث له

عن القديم فبتنا منه في عرس

قد حرر اللفظ في سوق الرقيق لذا

قد استرق معانيه بلا هوس

أزهى وأزهر من طرس أنامله

به جرت من بديع منه منبجس

شمس المعاني بأفق الشعر منه بدت

إذ راض كل أبي الملتقى شمس

فرد ترى منه سبعا في البيان كما

قد جل تثمين در منه ملتمس

له قلائد صاغتها قريحته

بجيد كل حليم الطبع أو شرس

لها اطراد بتفويف البديع يرى

توجيهه للمعاني غير منعكس

يصبو إليها أبو إسحق حيث غدت

أبياتها لغواني الحسن كالكنس

تجري بأسماع من يصغي لمنشدها

جري السلامة في أعضاء منتكس

على تمادي عهودي قد تذكرني

وكم حبيب تمادى عهده فنسي

ما أنصفتك أبا ناصيف مرتبة

سواك يسمو بها في العرب والفرس

وافت ربيبتك العذرا إلي ضحى

ترنو بلحظ لأسد الغاب مفترس

وقد أتتني ورهن الشعر أغلفه

فقد المفرق بين العير والفرس

فخذ لها نحلة آياتها علمت

ما الفرق بين ضياء الشمس والقبس

ولا تعر لسواها منك مستمعا

فهي المثاني وصوت الغير كالجرس

وكان بعض الأصحاب قد استنكر من بعض ما في قصيدة الشيخ عبد الهادي الدالية المذكورة آنفا، فرد عليه ردا عنيفا.

وكان ذلك بغير إذن الشيخ ناصيف، فكتب إليه يستعطفه بهذه الأبيات:

قف بالديار إذا الليل البهيم سجا

وقل طريد إلى نار الفريق لجا

ترى الصوارم شهبا تستضيء بها

فإن بدت مية فالصبح قد بلجا

يا دار مية حياك الحياء وإن

لم نرتشف منك قطرا ينعش المهجا

إن يمنع القوم إلمامي فما منعوا

أن أنظر الحي أو أستنشق الأرجا

لي فيك فتانة لام العذول بها

جهلا فقلت هو الأعمى فلا حرجا

أجللت عيني كبرا بعد رؤيتها

عن رؤية الغير حتى البدر جنح دجى

خود لها طيب أنفاس إذا ارتجزت

غنت لها الورق في عيدانها هزجا

معسولة الثغر في لألائه فلج

دمعي النضيد يباهي ذلك الفلجا

شكوت من ضيق تلك العين ظالمة

قالت إذا اشتد ضيق فانتظر فرجا

وإن أردت نجاة الرأي من سفه

فاذهب وناد بأعلى الصوت يا ابن نجا

ذاك الذي لا يروع الوجد مهجته

ولا يناظر طرفا للمهى غنجا

ذاك المحب بياض الصحف لا نعجا

في عارض وسواد الحبر لا الدعجا

ذاك الإمام الحصيف الكامل العلم ال

فرد الذي لا ترى في خلقه عوجا

مستجمع الفضل في علم وفي عمل

تألفا فيه كالبحرين قد مرجا

هانت على قلبه الأيام صاغرة

إذ كان يعرف ما في طيها درجا

فلا تراه لدى الإيسار مبتهجا

ولا تراه لدى الإعسار منزعجا

وداعة في وقار عز جانبه

كالماء بالراح في الأقداح قد مزجا

وهمة من بقايا الدهر قد أخذت

سبع الطباق إلى محرابها درجا

الشاعر الناثر المهدي لنا غررا

والخاطب الكاتب المنشي لنا بهجا

تدبج الصحف بالأقلام راحته

فتلك بيض خدور تلبس السبحا

قد أزهر الأزهر الضاحي بطلعته

كالبدر من مشرق الأفلاك قد خرجا

لقاؤه في عيون الكاشحين قذى

ولفظه في صدور الحاسدين شجا

طود ترى في ضواحي مصر موقفة

وظله في ربى لبنان قد نسجا

عهدي بها النيل يسقي ريفها ترعا

فصار آخر يسقي أرضنا خلجا

يا كعبة العلم لم تحجج لها قدمي

لكن قلبي قضى في خيفها حججا

إن كان قد جاء منك الخير منفردا

فطالما جاء منك الخير مزدوجا

فحضر منه جواب بهذه الصورة:

نعيم فوادي، وغاية مرادي، لما وصلت قصيدة حضرتكم اللامية بادرنا بإرسال جوابها لساحتكم الحاتمية، وهو هذا:

خذوا حذركم من نظرة الحدق النجل

فكم أرشقت بالصب نبلا على نبل

متى أمكنت قلب امرء فعلت به

لعمرك ما شاءت من الأسر والقتل

ومهما رنت أورت زناد الغرام في ال

فؤاد فأمسى في عياء وفي شغل

وإن غزلت ألحاظها نسجت لنا

سقيماتها أثواب سقم من الغزل

وإن نعست أجفانها أيقظت أسى

هواها بقلب لم تكبله من قبل

لقد شبهوها بالمهند فانثنى

وقد أدركته خجلة الفل والكل

وقالوا بها سكر فقلت غلطتم

ولكنه سحر يجر إلى السل

لئن أنكر العذال سحر جفونها

فآيته البيضا السواد من الكحل

تأمل عذولي في رقائق هدبها

تر السيف فيها والهوى سابق العذل

فلا تقفن حيث العيون فإنها

مصارع جد في مكامن من هزل

وما بطل من قام والحرب قائم

إلى بطل بل من لوى عن هرى النجل

بنفسي لعوبا بالعقول تخالها

قريبا ويقصيها الدلال عن الخل

لها ما لغصن البان والريم والطلا

رضابا وجيدا واعتدالا بلا عدل

تميس فتزري بالقناة وإنها

لتنآد من مر النسايم في الأصل

فتاة تساوى ثغرها وعقودها

ونظم الفتى ناصيف في الحسن والشكل

همام له لهو بكشف القناع عن

حسان المعاني لا الحسان من النجل

له باكتساب المجد والفخر والثنا

ونيل العلا شغل عظيم عن الشغل

بعزم يريك العضب قضبا وهمة

تريك الثريا كالشراك من النعل

أجل الورى قدرا وأطولهم يدا

وأعدمهم في الفضل للند والمثل

براعته يوحي إليها ضميره

فتفصح عن سر البلاغة بالفضل

تبين من سحر البيان بدائعا

شفاء لمعتل الفؤاد من الجهل

وتفصح عن سر البلاغة والزكا

بأوجز لفظ في عبارته جزل

ففي نظمها در تباع به النهى

وفي نثرها سحر يخامر بالعقل

فما نظمت إلا فرائد لؤلؤ

وما نثرت إلا كواكب من قول

إذا ما ادعى شخص سواه مكارما

فليس من الدعوى لعمري في حل

نواصي عوادي الدهر ترمي من اسمه

بأنفذ من نبل وأنشب من نصل

تركب تركيب الطباع به الندى

مع الحلم والمعروف والبأس والعقل

ووافى العلا من بعد طول تأود

فعدلها بالعدل في القول والفعل

يرى أنه ليست تتم طهارة

لمن لم يطهر راحتيه من البخل

فمن كفه بل كل أنملة له

تمد بحور بالمواهب والبذل

أقرة عين المجد عذرا فإنني

أجلك قدرا أن تعارض من مثلي

وإني وإن جازيت مثلك غرة

كبا بي جواد الفكر في حلبة القول

متى طاول العصفور نسرا أو استوى

أخو عرج في السبق بالسالم الرجل

فإن تقتنع مني على قدر ما ترى

وإلا فهذا آخر العهد بالرسل

وبينما أنا على جناح سفر، وإذا بهلال قصيدة حضرتكم الجيمية سفر، فرأيت أن أقدم هذه القصيدة قياما بالواجب علي وإنفاقا على قدر مالي، وليعرف الهمام عجزي فيكاتبني على قدر حالي. وإن شاء الله عند أوبتي من رحلتي أقدم لأعتابك جواب الجيمية. ودمتم بحفظ باري البرية.

عبد الهادي نجا

عفي عنه

وورد منه مع هذه الرسالة رسالة وقصيدة أخرى (بهذه الصورة):

أيها العلم الذي جاوز بند فضله عنان المجرة، وطار صيته في الآفاق حتى أوقف النسر الطائر وأوقعه في صرة، والشهم الذي صير السماك الأعزل عن رتبته أعزل، وجعل في فنون البلاغة قلم كل بليغ مغزل. إن شوقي إلى اجتلاء بدر طلعتك الباهر، واجتناء ثمر سمر ناديك الزاهر؛ شوق الغريب إلى الوطن، والبعير إلى العطن. وقد ورد الرقيم الذي أزهرت أفانينه، وازدهرت دراريه وقوانينه، فما هو إلا روضة بليلة الأدواح، علية النسائم والأرواح. فيا ليت شعري! أهذا كتاب أم جنة الخلد ومعانيه الكواعب؟ أم سماء الفضائل وألفاظه الكواكب؟! وإنك والله قد استنهضت به مني ذا عرج، واستشجعت غير كلح، واستسمنت ذا ورم، بل نفخت في غير ضرم، فلا غرو إذا تقاعست عن المبارزة في حلبتك؛ فالبغاث لا يستنسر بقاعتك. وإني لأعرف قصوري عن مجاراة مثلك يا فارس البلاغة، فيقصر باعي عن التطاول في هذا الميدان، ويحصر من يراع براعتي اللسان، وإن أوتي فصاحة سحبان ونطق بحكمة لقمان. كيف لا وأنت قس البلاغة وقاضيها الفاضل، ورئيس هذه الصناعة المشار إليه بالأنامل! فما فطرت نكتة إلا فطرت ألباب أرباب البيان، ولا سطرت خطبة إلا أطلت حيرة أصحاب الفكرة في رقة هاتيك الألفاظ ودقة تلك المعان، فتبارك من سواك في الفضل آية لمن سواك، وأولاك رتبا قرت بها أعين أحبائك وشهدت بها ألسن أعداك. ووالله إني لأستحي أن أقابل بوادر كلمك ببوادر عجري وبجري، وأستعمي إذا انتدب جواد فكرك لمبارزة أعرج قريحتي مؤثرا أن يندرس هنالك أثري، فإن كنت سمعت أني ممن تبناه الأدب واصطفاه فسماعك بالمعيدي خير من أن تراه. أو كنت سمعت أني صفرت في هذا العصر بقاع هذه الأرياف فإنما ذلك حين خلا منها لي الجو. وإلا فأنا لدى محضر مثلك من صيارفة الكلام لا أعرف الحو من اللو. لكن لما عرفت من الحبر الهمام أنه لا يقبل لي عثارا، ولا يقبل مني في رد الجواب أعذارا؛ نظمت هذه القصيدة على وجل، متدثرا بدثار الحياء والخجل، وأردت أن أزف عرائسها لسدتك الباهية؛ فلزمت خدرها حينا أبية مستحيية. لعلمها أنه لا خيار في جناها. ولا خير في لفظها ولا في معناها، حتى جاءها من نحو حيك خاطب ورأيت أنه أمر لازب واجب، فبعثتها شفيعة لنفسها في التأخير، ولمثلها عند مثل جنابك قول جليل وأمل كبير، فبلغها من حضرتك المأمول، واجعل نحلتها حسن القبول. بلغ الله جنابك في الدارين كل ما اشتهى، ولا زلت تبتدئ المكارم كلما قيل. انتهى.

عبد الهادي نجا

عفي عنه

وا لهف قلبي على ظبي نأى ونبا

فمن يشنف عنه مسمعي بنبا

هام الفؤاد به شوقا له وصبا

حتى تحمل منه في الهوى وصبا

ظبي تهالكت العشاق فيه جوى

مذ لاح في قرطق من حسنه وقبا

حمر مراشفه سود سوالفه

حور لواحظ عينيه فوا حربا

كأن حلته الغيم الرقيق وقد

أضاء من تحتها بدرا وما احتجبا

كأن طلعته البدر المنير بدا

في أوجه وكأن الطرف حرف ظبا

كأن قامته الغصن الرطيب زها

في روضه وكأن الجيد جيد ظبى

لما رنا فرأى أن ليس يعدله

حسن زها ولها نشوان راح صبا

وشام إحداق أحداق الأنام له

فقام يستلب الألباب منتها

يرنو فتطمع فيه النفس من شغف

وكيف يدرك عين الشمس من طلبا

يفتر مبتسما عن مثل ما نسق الد

ر النظيم وريق يزدري الضربا

لعينه حركات في تغزلها

تصبي وتسبى النهى ممن لها رقبا

لها إذا غزلت غزو وإن فترت

فتك يريك بأبناء الهوى العجبا

لا سحر إلا الذي في ضمن لحظتها

ولا مهند إلا ما لها انتسبا

ولا سلافة إلا من تكلمها

ولا سلامة منها لا ولا هربا

ترنو فتعنو لها الأرواح خاضعة

عنو شم المعالي للكريم أبا

نصيف العلم المفضال شامة قط

ر الشام بل واحد العصر الذي انتخبا

اليازجي الذي ما فاه ينشد إلا

فاح مسك بديع القول قد عذبا

شهم له في دياجي المعضلات سنى

برق يكشف من ظلمائها الحجبا

أسمى وأسمح من أعطى وأفصح من

أنشا وأبلغ من أملى ومن كتبا

أزكى الأنام نهى أندى الكرام يدا

أجلى الورى حسبا أعلاهم نسبا

يرام عرفا وأما في الجدال فلا

يرام بل يسترد الخصم منتحبا

علم تفكره جزم تصوره

حزم تبصره ندب إذا ندبا

يلقى ميممه بالبشر مبتسما

لكن له هيمة تودي الورى رهبا

ويستلذ بفعل المكرمات وفك

المشكلات وإن أودت به تعبا

يا راح روحي قد أهديت لي كلما

تستعرب العجم أو تستعجم العربا

فما دريت أسحر أم دهاق طلا

وما شعرت أزهر أم زهور ربى

تالله نظمك والإكليل في نسق

ونثرك النثرة العليا ولا عجبا

فما كعاب تثنت في غلائلها

كما تثني قضيب البان وقت صبا

في عطفها خنث أنعم به خنثا

في نطقها طرب أحسن به طربا

في خلقها غنج أجمل به غنجا

في خلقها أدب أكمل به أدبا

في كفها صرف صهباء تدور بها

على أناس قضوا من أنسها أربا

يوما بأبدع من خود بعثت بها

ردت صبا صبوة لي كان قد ذهبا

شامية وردت في مصر فانتقبت

حسان مصر حياء واختفت أدبا

أودعت فيها من الآداب ما عجزت

بنو البلاغة عن آياته حقبا

لله شعر كسلك الدر منتظما

وطرس نظم كصدر الخود مكتتبا

در يفوق على الدر النضيد ويز

دري بلألائه الأفلاك والشهبا

أرجو من الله لقياك التي علقت

روحي بها إنها البشرى لمن كئبا

لا زلت تسمو على أبناء عصرك في

فضل وفصل وفخر باهر وحبا

ما غردت صادحات الطير ترقصها

على الغصون نسيمات الصبا طربا

فقال يجيبه:

آس العذار على خديه قد كتبا

حديث فتنته الكبرى فما كذبا

ما زال يخضر ذاك الآس مزدهيا

وكيف يخضر نبت جاور اللهبا

فتى من العرب العرباء منطقه

لكن شمائله لا تعرف العربا

غض الصبا لين الأعطاف معتدل

له فكاهة ريحان ولطف صبا

ما زال وجدي به ينقاد عن سبب

حتى رأيت لزهدي في الهوى سببا

لهوت عن غزل فيه بعارضة

من النسيب بخود تفتن الأدبا

رسالة من ضواحي مصر قد وردت

كأنها فلك قد ضمن الشهبا

بديعة النظم خطت بالمداد ولو

أصاب كاتبها أجرى لها الذهبا

لله من كاتب أقلامه نظمت

عقد اللآلي بلا سمط فوا عجبا

يفتن في فتنة الألباب مبتدعا

إذا قضى أو روى أو خط أو خطبا

مهذب ترفع الأوهام حكمته

حزما إذا قام للتدريس منتصبا

يقضى له حين يفتي في مجالسه

بالسبق ممن رأى في كفه القصبا

عبد أضيف إلى الهادي فنال هدى

من المضاف إليه كان مكتسبا

أقوى الورى سندا أعلى الذرى عمدا

أندى الكرام يدا خير الأنام أبا

طلق اليراعة طلق الوجه طلق يد

طلق اللسان إذا السيف الصقيل نبا

كالبحر مندفقا والصبح منبثقا

والسهم منطلقا والغيث منسكبا

سهل الخلائق لا يهتاجه غضب

حتى توهمته لا يعرف الغضبا

يغضي عن الجهل من حلم ومكرمة

عينا لها لحظات تخرق الحجبا

أراد للنفس وضعا من وداعته

يوما فطارت بها فوق العلى رتبا

لا يبرح المرء حيث الله يجعله

ومن رأى النجم تحت الماء قد رسبا

متى تزر شيخنا المفتي الكبير ترى

أبا حنيفة في محرابه انتصبا

ترى التلاميذ تستملي فوائده

كأنه البحر يسقي ماؤه السحبا

كنز العلوم الذي يغني الفقير به

من العطايا ويبقى فوق ما ذهبا

بحر على أرض مصر مد لجته

فنالت الشام حتى جاوزت حلبا

أهدى إلينا بيوتا كلما ضربت

طي الحشى وتدا مدت له سببا

تلك العذارى التي في الريف قد ولدت

وأثبت اليمن الأقصى لها النسبا

بتنا نشوق إلى مصر لرؤيته

ونرصد الريح هل تأتي لنا بنبا

يمثل الوهم هاتيك الديار لنا

حتى كأنا وردنا نيلها العذبا

عز اللقاء فرددنا رسائلنا

كمن تيمم حيث الماء قد نضبا

من ليس يقدر في وصل الأحبة أن

يستخدم الخيل فليستخدم الكتبا

وأما جواب الجيمية الذي وعد به الشيخ قبلا فقد أرسله بعد عودته مصدرا بهذه الرسالة:

بسم الله أفتتح وبه أختتم

يا من أطال بدر نظم فائق

وافت به أيدي مكارمه الغرر

وكساني الحلل الحسان ثناؤه

بصفاته والغير مرآة النظر

هذا محب قد وفتك حروفه

في ثوب تقصير يشين من اقتصر

لكنه يبدي اعتذارا صادقا

ومن الكمال قبول عذر من اعتذر

يا عزيزي وحبيبي، ونصيفي ونصيبي، يا جنابا حسنت خلائقه، وخطيبا أنعشتنا أزاهره وشقائقه، وعانقتنا عرائس دره المنظوم، وجملتنا حلل مدحه بما هو به معلوم؛ إليك اعتذاري في تأخر جواب شريف كتابك، وعدم القيام بواجب ما سلف لي من رقيق خطابك، فقد عرض لي من العوارض ما أذهلني عن المكاتبة، وشغلني عن توالي رسائل المخاطبة، وأعجزني عن التأهل لمخاطبة مثل الجناب، وجعلني أضرب أخماسا في أسداس حتى إذا دخلت من باب خرجت من باب. وهذه محاسن حلمك محمودة للشاكرين، وفضائل مكارمك مؤمنة للخائفين، فكيف لا آمن معها عدم الإغضاء عن هذا التقصير سيما مع إبدائي تلك المعاذير، وبعون الله إذا اعتدل الحال، وراق البال، وجليت مرآة الفكر من الصدا، وسرى بعد هذا اليوم غدا؛ نوالي مكاتبتكم اللائقة، ونفائس عرائس مدائحكم الفائقة، ونقوم بما استقر في الذمة من واجب الحقوق، ونخرج بتوفيق الله من ربقة هذا العقوق. والآن أنا مرسل جواب الجيمية، إلى ساحتكم السحبانية، مقدما إياها إلى أعتابكم على رجاء قبولها على علاتها، وإسبال ثياب الصفح عن زلاتها. وشوقي إلى جميع من ينتمي إلى جنابكم الأكرم. ودمتم.

الفقير

عبد الهادي نجا

عفي عنه

بدت فأبدت من الأشواق بي وهجا

وأسفرت ثم قالت مت ولا حرجا

حوراء قد ملئت أجفانها دعجا

هيفاء قد عبقت أردانها أرجا

تبدو فيصفر لون البدر منكسفا

وتنثني فيغار الغصن منفلجا

مظلومة الوجه في تشبيهه قمرا

مظلومة الفرع في تشبيهه بدجى

ما بين ألحاظها كم من طريح ظبى

وبين أعطافها كم من طعين حجى

من كل صب قضى وجدا وكل شج

بقي فلم يلق من أسر الهوى فرجا

وأي صبر لصب قد رأى هيفا

في قدها ورأى في لحظها غنجا

كأنما قدها مهما مشت ثمل

من خمر مقلتها ينآد منعرجا

كأنما ردفها من بينها وجل

يكاد يجذبها في النهض مندمجا

والله ما كان عذري في الهوى بلجا

لولا جبين لها قد ظل منبلجا

ولا ذرفت يواقيت الدموع جوى

لولا مباسمها اللاتي زهت فلجا

لقد تعلمت من ألحاظها غزلا

يستعبد الحر أو يستأسر المهجا

أجانس الخد منها بالرقيق من ال

ألفاظ والخصر بالمعنى الدقيق شجا

وكيف لا يزدهي في وصفها كلمي

ويزدري شدو تشبيبي بها الهزجا

ولفظها وثناياها كدر ثنا

همامنا اليازجي نظما ومبتهجا

عيسى الزمان طبيب المجد قيمه

محيي رفات العلى من بعد ما نهجا

مهدي الفرائد في سمط القراطس أم

ثال الكواكب في لوح العنان دجا

القائل القول لا يلفى معارضه

والفاعل الفعل لا ينفك منتهجا

أوفى وأبلغ من تبغي وأشجع من

تلقى وأرفع من رام العلى ورجا

من عاقد ذمما أو قائل كلما

أو ضارب لمما أو مرتق درجا

ما اهتز للنظم إلا أمطرت دررا

منه أكف تباهي السحب واللججا

أو مال للحرب إلا فر منهزما

أمامه الجحفل الكرار مختلجا

كالليث منقبضا والغيث منسكبا

والبحر منبسطا والبدر مبتهجا

عف المآزر محمود المخابر مم

دوح المآثر مقصود لما مرجا

ترى القلوب إذا تلقاه واجفة

والعين تنظر منه منظرا بهجا

إذا العفاة رأوه استبشروا فرحا

واستغنموا فرجا واسترجعوا سحجا

إن أمحل الأرض فهو الغيث منهمرا

أو أظلم الجو فهو البدر منبلجا

في لفظه درر تشرى القلوب بها

لكنها تنعش الألباب والمهجا

عنه ومنه رواة المجد قد أخذوا

علم المعاني فأضحى نهجها نهجا

ومن غصون يراعات له اقتطفوا

زهر المعاني فأمسى نفحه أرجا

فاق الأماثل حتى لا ترى مثلا

له وحتى علا فوق السهى درجا

سمعا فديتك ممن قدت مهجته

مدحا يلوح عليه الصدق منبهجا

مدحا تميل له الألباب راتعة

منه بوصفك في روض قد ابتهجا

لا زلت موفور حظ ما زها زهر

وما محب بمدح فيك قد لهجا

وكتب إليه عبد الباقي أفندي العمري تقريظا على النبذة الأولى من ديوانه:

باسمك اللهم يا من بفضله

وفقت فوقفت على النبذة التي

بها ناصيف عيلم كل فضل

تطول فاستطال على الجميع

والفلذة التي

دعت أفلاذ أكباد المعاني

مفتتة بأيد من ولوع

والخوذة التي

كست هام الأفاضل تاج عز

ومغفر قمة الشرف الرفيع

والعوذة التي

بها عاذت قرائحنا ولاذت

فأغنتها عن الحرز المنيع

واللذة التي

وجدنا في مذاق الحب منها

حلاوة شهد وصل من قطوع

والجذوة التي

بها قدحت زناد الفكر منه

فخفت من الشرار على ضلوعي

والجلوة التي

أتت مطبوعة لفظا ومعنى

على الإحسان والحسن البديع

فقرظتها بهذا التقريظ:

على نبذة من شعر ناصيف ذي الفضل

وقفت ومني العين في موضع الرجل

وطأطأت إجلالا لها رأس شامخ

لأخمصه هام العلى موطئ النعل

فرحت لدى الإمعان فيها كأنني

وعقلي عني ذاهل من بني ذهل

وشمت سنى فجر المعاني يلوح من

خلال المباني وهي ليلية الشكل

محا ظل وهمي حين أشرق نورها

وكم قد محت شمس الظهيرة من ظل

على الحسن والإحسان مطبوعة أتت

فوافقت الطبع السليم من الغل

وقد رفرفت بالخافقين صحافها

وحطت من المجد الأثيل على أثل

وأوراقها في الكرخ ورقاؤها شدت

فميل أعطاف الرصافة ما تملي

وبثت من السحر الحلال ببابل

لها نفثات أوهنت عقد الحلي

وقد ملئت أقداح أحداقنا طلا

من السحر تمشي في العقول على مهل

فتسكر ألبابا بنقل حديثها

وشارب صرف الراح يحتاج للنقل

وكم دندنت من حول كورة مسمعي

لتبليغ ما أحواه ربي إلى النحل

وذقت بثغر الفكر شهد مجاجها

فساغ شرابا في لهاة فم العقل

قصائد تحكي في الطروس خرائدا

وقد نزلت من سفح لبنان في السهل

تهادى بجلباب من الفضل كم له

فواضل أكمام ترشح بالدل

وتعطو كما تعطو المهاة بجيدها

وترنو كما ترنو بأعينها النجل

مرايا عقول للمصور زيبق

على سطحها ينساب من جودة الصقل

قد اكتحلت منها العيون بنظرة

فسحقا لما في أعين العين من كحل

نرى في سواها الناظرين بأعين

غشاها الغشى كالعاكفين على العجل

هياكل عرفان معاقل حكمة

خمائل إحسان مناهل للفضل

أقلت دمى طالت على شرفاتها

نمت كرما بلت صدى أيما بل

معادن إجلال معاطن سؤدد

مكامن إفضال مواطن للبذل

وعت كل إعظام حوت جل مفخر

زكت مغرس الجدوى طوت شقة البخل

فماشيت من ضخم الكراديس من على

وما رمت من جزل وما اخترت من عبل

وما اشتقت من غيد المعاني رشيقة

تغص لها ساق من اللفظ في حجل

تفوق منها العين عن قوس حاجب

نبالا أراشتها النبالة بالنبل

مخلخلة من أسطر بخلاخل

تكاد على القرطاس ترسف في كبل

تغل على بيض الترائب صحفها

ذوايب من زحف السطور ومن جثل

تدل على طيب الفروع أصولها

وأصل زكاء الفرع من كرم الأصل

لقد فتحت أكمام أسماعنا لها

كما فتحت زهر الربى أنمل الطل

وجادت بوبل بعد طل ربابها

فأحيت موات الفكر بالطل والوبل

سموات علم في ظبى من أهلة

تشق شعار الجهل معطا إلى الذيل

حياض رياض في غياض تدفقت

بما رق من نهل وما راق من عل

بصرصرة البازي أهاجت بلابلي

وهمهمة الضاري وشقشقة الفحل

إذا أنكرت دعواه في الشعر فتية

أقام عليها شاهد العقل والنقل

وإن رام شعري أن يبارز شعره

يقول شعوري إنني عنك في شغل

مساحة قطر الشام من مثله خلت

فدلت على توحيد من جل عن مثل

وكم بكر فكر منه عذراء أنجبت

بنسل وما قد مسها قط من بعل

تحدى بما لو صح لابن كرامة

تصدى لدعواه بمعجزة الرسل

أرى الجزء منه ناب عن كل غيره

فيا من رأى جزءا ينوب عن الكل

صحائفه تحكي الصفاح حروفها

تكاد بلا رجل تدب على النصل

رحى الفكر من هذي الحواري نقحت

دقيق معانيه فما احتاج للنخل

وأقلامه لاقت محابره التي

لأدهمها لاقت مطاردة الخيل

جرى نهر طالوت الندى من مدادها

فأربى على النيل المبارك بالنيل

فأجريت ذا النون اليراع بمدحه

فما انفك حتى منه أصبح ذا كفل

عسى مجمع البحرين بيروت لا نأت

تكون قريبا لي به مجمع الشمل

لأحظى ببحر زاخر بفضائل

وغيث بهتان الفواضل منهل

فقال يجيبه:

أتعلم ما هاجت بقلبي من الشغل

مخدرة تسبي بأهدابها الكحل

غزالة إنس لا غزالة ربرب

رعت حبة للقلب لا عرفج الرمل

أتتني من الزوراء تسحب ذيلها

دلالا فزادت غلة الشوق بالوصل

بذلت لها مهر العروس من الحلى

فعافته إجلالا فأمهرتها عقلي

ربيبة حسن صيرتني ربيبها

ويا حبذا ما نلت من شرف المثل

ظفرنا بها من جود أكرم مرسل

علينا فكانت عندنا أكرم الرسل

هو الجوهر الفرد المعرف شخصه

بنوع السجايا ليس بالجنس والفصل

نتيجة دهر لا يقاس بفضله

صحيح القضايا صادق الوضع والحمل

هو العمري السيد الماجد الذي

له الشرف المحفوظ فرعا عن الأصل

لئن لم يك الفاروق أخلف غيره

من النسل أغنى القوم عن كثرة النسل

تسامى إلى أن صار أعلى من السهى

وفاض إلى أن صار أجرى من الوبل

أشد جلاء في الخطوب من الضحى

وأمضى يدا في المشكلات من النصل

تخر له الأقلام وهي نواكس

فيكسبها فخرا على أنفذ النبل

تصيد المعاني سانحا بعد بارح

كما وقف القناص في ملتقى السبل

له منة طالت علي ونعمة

علت فوق رأسي كالسحوق من النخل

إذا رمت شكر الفضل أنهضت همتي

فأقعدها وقر جديد من الفضل

رمى البعض من شعري الضعيف بطرفه

فأولاه تقريظا فساد على الكل

رأى كل بيت نفسه كقصيدة

فضاق به ما كان يحويه من قبل

بك افتخرت يا كعبة الفخر نبذة

قد انتبذت أقصى مكان من الجهل

تقول كفاني شاهد مثله فإن

جسرت فقل ما ذاك بالشاهد العدل

قضى الله بالبعد الذي حال بيننا

وهل يرتجى من غيره صلة الحبل

أرى بيننا شم الجبال وفوقها

جبال من الأشواق سابغة الظل

تصوغ لنا شكوى النوى بيد الهوى

فأقلامنا تجري وأشواقنا تملي

وورد إليه من الشيخ عبد الحميد الموصلي هذا التخميس لقصيدته المهملة المطبوعة في النبذة الأولى من ديوانه:

عدو المرء أولاد ومال

لواسعهم أساودها صلال

أحاول طولهم وهو المحال

لأهل الدهر آمال طوال

وأطماع ولو طال المطال

وهم همل وهم دود رعاع

لهم دور مطارحها وساع

عموا صموا وما لهم اطلاع

وأهل الدهر عمال أطاعوا

هواه كما رأوه مال مالوا

مرور العمر مرمر كل حال

وأمر الله دمر كل حال

سرورك والهموم دلاء دال

كرور الدهر حول كل حال

هو الدهر الدوام له محال

أعودهم وكلهم ملول

وأرعاهم ودورهم محول

أروح لأهلهم وهم حلول

لعل الصد معه له حوول

أؤمله كما حال الوصال

دموع دم لها سح هطال

وروح راحها سم مدال

أروم ومورد الآمال آل

صلاح الحال والأعمال مال

ومهما ساء مال ساء حال

ألا رد كل ماء عاد مرا

ووادد كل سار راح سرا

وحم حول الدراهم وامس حرا

دع العلماء والحكماء طرا

وسل مالا ألا ساء المآل

وللحكام أهل المال صلهم

وعاودهم وودعهم ودعهم

ورح للراح واعط الروح أسهم

لأهل العلم عصر مر معهم

ومر الحلم معه والكمال

صل الملاك واهمل ما عداها

ورد أمواهها واحلل حماها

رسوم العلم أمحلها هواها

مدارسه كأطلال أراها

دوارس لا سلام ولا سؤال

محا رسم العلوم سموم عدم

وهدم داره معوال هدم

وحمل كل حر حمل هم

علا أهل المكارم أهل لؤم

أداروا كاسهم وسطوا وصالوا

أسال السهد أدمع كل سمح

ومرمر كل حلو مر ملح

حمار الطرح روع كل سرح

معاهد كل هر كل صرح

وأكرم معهد الأسد الدحال

وكم حر له عمر مهال

ومكروه له مكر مرال

وممدوح له مدح محال

وكم ملك لعامله ملال

ومملوك لمالكه دلال

وكل مكرم وله مرام

وكل محكم وله كلام

وما الحكام كلهم إمام

وما كل امرء دمه حرام

ولا كل امرء دمه حلال

أمر الأمر آلام وداء

أحاط وما لحامله دواء

سمومك والرواء له سواء

عداك اللوم ما للعار ماء

لوردك لا ولا للوهم آل

أرحها لا وصول ولا سئول

ولا حصر المرام ولا حصول

ومل عما أهمك لا ملول

أصح الحلم عهدك لا حوول

له وأصح وعدك لا مطال

أدر كاسا لواردها رواء

ورد راحا لمسراها هواء

وأولها وأوسطها سواء

لك الود المؤكد لا مراء

عراه ولا ملام ولا ملال

وسر إما لوعر أو لسهل

ومل إما لماء أو لطلل

ورح للراح واسع لدار أهل

أمامك والوراء سراط عدل

سواء حوله حط الرحال

سعود طوالع أطواد حلم

رءوس عساكر أطواد حكم

رماح معارك وسهام سلم

صدور مكارم وأصول علم

أعددها كما عد الرمال

وأعمال لعاملها مرام

وأسرار لمرسلها سلام

وأمواه لواردها مدام

وآراء لمادحها كلام

وآلاء لحامدها كلال

ملاح سطورها كعروس عرس

أكرر دورها كدوار درس

أكملها لكم لكمال حدس

لكم حمل الرسول سطور طرس

مطالعها كما طلع الهلال

سوارح ما حوارسها سواها

وآرام حواسدها مهاها

صوارمها صداها ما علاها

سطور كالعروس لها حلاها

ولو أهداكها كلم عطال

فكتب إليه بهذه الأبيات:

على مولى الرضى عبد الحميد

تحيتنا المسوقة من بعيد

وهل تطفي التحية نار وجد

تجل مع اللقاء عن الخمود

بكيت على النوى دهرا كأني

تماضر بنت عمرو بن الشريد

وما كذبت بدعوى السهد عيني

فإن الفرقدين من الشهود

تطاول بيننا بين مديد

ومن للنفس بالأجل المديد

فظل الصبر عندي في انتقاص

وظل الشوق عندي في مزيد

هويت رجال بغداد قديما

فدعني من ظبى وادي زرود

هويت ابن الجواد لما أراه

به من كل مكرمة وجود

أديب في العراق له فيوض

جرت فاخضر منها كل عود

لقد أضحى لبيد به بليدا

وصار له عبيد من العبيد

هو البدر الذي يلقي علينا

سناه في الدجى بيض البنود

نرى في قلبه سعد الخبايا

وفوق جبينه سعد السعود

يبادر في القريض بكل معنى

أنيس ضمن قافية شرود

مناط النجم عن كف وأدنى

إلى الأرواح من حبل الوريد

إليك يساق في الفلوات طرس

بعثناه على خيل البريد

رجونا أن تكون له أمينا

وإن يك ليس عندك بالرشيد

وقد ورد الذي استخدمت مما

تقلد باسمكم أطواق جيد

وما أشهرت ذكرك عن خمول

ولكن كان تجديد العهود

وإني عاشق غرر المعاني

ولست بعاشق درر العقود

إذا طرس أتاني منك يوما

فذاك اليوم عندي يوم عيد

وأرسل إليه محمد عاقل أفندي من الإسكندرية هذه الأبيات:

خذ العفو إني للوفاء حليف

وعذري مقبول وأنت نصيف

لئن قصرت يمناي عن بث لوعتي

فسرك يدري كنهها ويشوف

وما غرني إلا وداد مؤكد

لدى مثله لا ينظر التكليف

أبى قدرك العالي سوى العفو والرضى

وحاشاك أن تجفو وأنت رءوف

أييأس عفوا من أناخ مطية

بواد به للآملين كهوف

يسيل بأخدود السماح جميله

فتدنو لآراك الأراء قطوف

سقى الغيث أسباب العتاب فإنها

لأستار أبواب الغرام سجوف

تؤيد آلاء المودة والإخا

بتأييد ود ليس عنه خليف

ولي مدة قد عاقني الدهر والقضا

ولم تسر مني للجناب حروف

على الرغم كانت لا بقصد ونية

وبي خجل منه الفؤاد كلوف

دهانا بوادي النيل كالسيل حادث

له تذهل الألباب حين يحيف

دعوه بريح أصفر شاع ذكره

وما هو إلا هيضة ونزيف

به احتارت الأفكار والعقل والنهى

وكل طبيب شأنه موصوف

فلم يبق دارا لم يزرها ولم يذر

جنانا به ركب السرور يطوف

ثكلنا رجالا للزمان نعدهم

طروسا وهم للمعضلات سيوف

تراهم ليوم اليأس والبأس عدة

وجاههم للقاصدين منيف

وكم فيهم من أهل ذوق وفطنة

وفيهم لطيف ألمعي وظريف

لقد أقشبت أقطار مصر لفقدهم

وكان بهم دوح الكمال قطيف

نأوا وأقاموا بارح الحزن في الحشى

فبيس بديلا تالد وطريف

فشيعهم عقلي وفكري وفطنتي

ولم يبق من لبي لدي طفيف

وناقص أمثالي صحيح مضاعف

ومهموز حزني أجوف ولفيف

ذهلت فلم أحسن قريضا ولم يطع

جناني بكل الجهد منه أنوف

أليس وأن الشعر كالسيل عزمه

إذا طف لا يجري لديه ضفوف

وإن أقلعت عنه السماء فعامه

وإن ألت جهدا إنه لعسيف

فإن نفرت مهر القريض وأجمحت

فدعها ولا تتعب فسوف تلوف

رعى الله من يسدي على الخل إن غفا

ذيول المعالي إنه لعطوف

حنانيك إني في ودادك صادق

وفي وشأني في الخلوص شريف

أألوي عنانا عن هواك ولم يزل

لأذني بذكرك للهنا تشنيف

فجد لي بما في الناس لا زلت أهله

فما لك مثلي في الوجود أليف

لعمرك ما قصرت إلا لعائق

وعذري مقبول وأنت نصيف

فقال يجيبه:

تقلص ظل للشباب وريف

وأقبل من ضاحي المشيب رديف

وأي صباح لا تليه عشية

وأي ربيع لا يليه خريف

على مثل هذا قد مضى الدهر وانقضى

كذلك يمضي تالد وطريف

سواد الليالي في بياض نهارها

أساطير لا تقرا لهن حروف

خليلي ما للناس يضحك واحد

وتبكي مئات حوله وألوف

لقد شن هذا الدهر غارة جاهل

تساوى خسيس عنده وشريف

بلاء على وجه البسيطة غامر

كطوفان نوح حين كان يطوف

له بين أكباد الرجال مخالب

نشبن وفي الأعناق منه سيوف

كم اعتل في الدنيا صحيح وكم وكم

تفرق في عرض البلاد لفيف

وكم صدعت للفاتكين مفارق

وكم رغمت للمالكين أنوف

هو البين لا تدري طريقا لوفده

فتنجو ولا تنجيك منه كهوف

ويدخل باب الحصن وهو موصد

ويبصر في الديجور وهو كثيف

وأعجب كيف الناس ضلوا عن الهدى

كما ضل عن ضوء النهار كفيف

إذا ما رأى الميت الفتى قال ما أنا

وذاك فلي داعي المنون حليف

عليك سلام يا محمد مرسل

لطيف يؤديه إليك لطيف

أحاشيك من جهل فإنك عاقل

خبير بأحكام الزمان حصيف

شكوت الذي تشكوه من هول بأسه

ولكن صبري في البلاء ضعيف

وإن الحصى عند الجزوع ثقيلة

وضخم الصفا عند الصبور خفيف

وكتب إليه السيد شهاب الدين العلوي من بغداد بهذه الأبيات (تقريظا على مقاماته مجمع البحرين):

هذا المصنف فوق الفضل قد رفعت

فضلا مقاماته والفضل قد جمعت

ففي البلاد إذا دارت فلا عجب

لكل طالب علم إنها وسعت

والمشتري نسخة منها يطالعها

شموسه في سماء السعد قد طلعت

تسنمت غارب الإغراب فانخفضت

عنها القواعد في الإعراب فارتفعت

أبواب تصريفها الفتاح يسرها

فادخل بها عالما من قبلما قرعت

أشعارها الأصمعي لو كان ينشدها

بمثلها قال أذن الدهر ما سمعت

ثم الحريري أحرى لو يقاومها

بأن يقول مقاماتي قد اتضعت

حديقة أثمرت أوراقها حكما

لنا شماريخها امتدت وقد ينعت

فمن يشأ يتفكه في مناقبها

ومن يشأ يتفقه بالذي شرعت

طالع تقابلك مرآة الزمان بها

وانظر إلى صورة الدنيا وقد نصعت

كم أودعت نبذا للسمع قد عذبت

وردا ومن قلب ذاك الصدر قد نبعت

محاضرات بها الحضار راغبة

غابت عن الراغب المفضال وامتنعت

صحت بها علل في الطب نافعة

جرب تجدها لدفع الداء قد نفعت

يتيمة رب متعنا بوالدها

عن غيرها فطم الألباب ما رضعت

تمت كمالا وقد جاءت منزهة

عنها النقائص تهذيبا قد انخزعت

على الكمالات طبع اللطف أرخها

لطفا مقامات ناصيف التي طبعت

سنة 1855

فقال يجيبه بهذه الأبيات:

سل ابنة القوم هل تدري بما صنعت

ألحاظها بفواد فيه قد رتعت

مليحة قطعت من مهجتي طرفا

وليتها حاسبتني بالذي قطعت

صبح إذا سفرت غصن إذا خطرت

ظبي إذا نفرت مسك إذا سطعت

أجفانها خلعت سقما علي ولا

لوم عليها فمن أثوابها خلعت

لئن تكن عن سواد العين غائبة

فإنها في سواد القلب قد طلعت

وإن أتى من شهاب الدين مقتبسا

كتاب أنس وقد غابت فلا رجعت

حيى الحيا أرض زوراء العراق ضحى

فتلك أرض لأهل الفضل قد جمعت

لئن مضت دولة الملك القديم بها

فدولة العلم منها قط ما انقطعت

فيها الرجال المشاهير الذين بهم

منارة العلم فوق النجم قد رفعت

من كل أبلج واري الزند في يده

أقلام صدق بأمر الله قد صدعت

كل البلاد وإن جلت محاسنها

عقد فريدته بغداد قد وضعت

تسعى إليها القوافي السائرات كما

تسعى إلى الكعبة الحجاج حين سعت

أرض تشوق إلى مرأى محاسنها

عيني لكثرة ما أذني بها سمعت

حسبتها فلكا إذ قيل إن بها

ذاك الشهاب الذي أنواره لمعت

ماذا أقرظ من ذاك المقام على

تقريظه لمقاماتي التي طبعت

ليس الشهادة من ضعفي بنافعة

لكن شهادته تلك التي نفعت

وأرسل إليه أسعد أفندي طراد هذه الأبيات:

إلى كم فؤادي يطلب العشق والحبا

ولم أر إلا الوجد والوعد والعتبا

عرفت بأن لا يعرف الود والوفا

لديك ولا يدري المحب له ذنبا

غزالة إنس بات قلبي لها حمى

عليه عيوني قد غدت تمطر السحبا

تصيد ولكن لا تصاد على المدى

وتسبي قلوب العاشقين ولا تسبى

تقول اصطبر فالصبر للقلب واجب

ولم تبق لي للصبر يوم النوى قلبا

أأطمع منها بالوصال ولم أكن

سمعت بخود في الهوى رحمت صبا

لقد سلبتني ثم بانت وطالما

لإيجابها مذ قد نأت أطلب السلبا

وقد خاف نومي أن يبيت بمدمعي

غريقا فقد عاف التواصل والقربا

وقد جزمت عن ناظري اليوم وجهها

وحلت فؤادي ترغب السلب والنهبا

نصبت لها قلبي لترفع جزمها

فقد علمتني الرفع والجزم والنصبا

قد انتسبت للعرب من أبدعوا الوفا

سأشكو جفاها للذي ورث العربا

إلى اليازجي اليوم تسعى ركابنا

كأهل الظما من بحره نطلب الشربا

لئن دثرت كتب الأولى قد تقدموا

من العرب هذا صدره جمع الكتبا

يريك يراعا في يديه إذا التقى

مع الرمح يوم الحرب علمه الحربا

وأصعب شيء عنده منع فضله

وأهون شيء أن يحل لك الصعبا

عجبنا له إذ حل في الأرض مثلنا

ومن أفقها قد ظل يبدي لنا الشهبا

على أي شيء نحوه جئت سائلا

فقبل سؤال منك تنظره لبى

إلى الشرق يأتي البدر حتى ينيره

فلما يراه فيه يطلب الغربا

يعلم سحبان الزكا وابن مقلة

سطورا بلا مثل وجالينس الطبا

ومن مثلنا فوق الثرى وهو بيننا

وما مثله ما بين أهل الثرى يربى

كفى أرضنا فخرا على أرض غيرنا

نسيم عليها من لطائفه هبا

ألا يا ابن عبد الله إنك في الزكا

وفي اللفظ والمعنى نراك لنا ربا

خف الله يا ناصيف إنك شاعر

معانيه لم تبقي لأهل الحجى لبا

لقد حسدت بغداد فيك بلادنا

وقد حسدتها مصر مع حلب الشهبا

ولم يغب عنا فضلك اليوم في الورى

ولكن حق المدح عن فكرنا يغبى

نظيرك والعنقاء والغول والذي

يعدد ما تحواه قد أصبحوا حزبا

فقال يجيبه:

أتتني بلا وعد وقد نضت الحجبا

فهاتيك أحلى زورة تنعش الصبا

بذلت لها قلبي وعيني كرامة

فصارت لها عينا وصارت له قلبا

مضمخة بالمسك معسولة اللمى

منعمة الخدين تصبي ولا تصبى

أقول لها عند الزيارة مرحبا

ويا حبذا لو صادفت منزلا رحبا

حبانا بها عذراء مترفة الصبا

فتى نال حلم الشيخ من قبل أن شبا

أتتنا بمدح لم تكن صدقت به

وتغضب إن قلنا لقد نطقت كذبا

لقد سبق القوم الطرادي أسعد

إلى قصب السبق الذي حازه غصبا

تلقف فن الشعر من قبل درسه

وخاض المعاني قبل أن يقرأ الكتبا

يطارحني الشعر الذي فر من يدي

وقد سل شيبي فوق مفرقه عضبا

إذا شاب رأس المرء فالشيب لاحق

بهمته حتى يوسدها التربا

رعى الله أيام الصباء فإنها

من العيش غصن كان معتدلا رطبا

وما كل ذي روح بحي حقيقة

فمن عاش في نحب كمن قد قضى نحبا

سقى ابن أبي الخير السحاب فإنه

هو الخير نستسقي بطلعته السحبا

إذا ما تأملنا جمال صفاته

نرى عجبا فيه وليس نرى عجبا

لقد كثرت في الناس حساد فضله

ولكن لعمري ما حسبنا لهم ذنبا

على مثل ما قد ناله يحسد الفتى

وماذا يضر الحاسدون فلا عتبا

إذا أوجب الله الكريم لعبده

عطاء فمن ذا يستطيع له سلبا

وتوفي الشيخ عبد الحميد الموصلي فرثاه بهذه الأبيات:

لا عين تثبت في الدنا ولا أثر

ما دام يطلع فيها الشمس والقمر

يبقي لنا الخبر فيها بعده خبرا

إلى زمان فيمضي ذلك الخبر

يا طالما طال حرص الناس في حذر

على الحياة فضاع الحرص والحذر

قد غرهم زخرف الدنيا وبهجتها

نعم الغصون ولكن بئسما الثمر

معشوقة في هواها بات كل فتى

يهيم والشيخ عنها ليس يزدجر

هيهات لا ينتهي عن جهله أبدا

من لم يكن قد نهاه الشيب والكبر

مضى الزمان على هذا الغرور فلم

يفطن له بشر مذ قامت البشر

ما زال يدفن هذا الحي ميته

ويدفن الذكر معه حيث يحتقر

الناس في جنح ليل يخبطون به

جهلا ويا ويلهم إذ يطلع السحر

لا تنقضي ساعة حتى تقول لهم

يا أيها القوم هبوا قد دنا السفر

ماذا نرجي من الدنيا التي طبعت

على الدمار فلا تبقي ولا تذر

تبدي لنا كل يوم في الورى عبرا

لكن بلا يقظة لا تنفع العبر

هيهات لا صاحب في الدهر وا أسفا

يبقى ولا عاشق يقضى له وطر

قد مات عبد الحميد اليوم منقطعا

عنا كما شاء حكم الله والقدر

مضى الشقيق لروحي فهي موحشة

وبان شطر فؤادي فهو منفطر

قد كنت أنتظر البشرى برؤيته

فجاءني غير ما قد كنت أنتظر

إن كان قد فات شهد الوصل منه فقد

رضيت بالصبر لكن كيف أصطبر

أحب شيء لعيني حين أذكره

دمع وأطيب شيء عندها السهر

هذا الصديق الذي كانت مودته

كالكوثر العذب لا يغتالها الكدر

صافي السريرة محض الود لا ملق

في لفظه لا ولا في قلبه وضر

عف الإزار حصيف زاهد ورع

لا تزدهيه بدور الأفق والبدر

يغشى المساجد في الأسحار معتكفا

وقد طوت ليله الأوراد والسور

هو الكريم الجواد ابن الجواد له

بالفضل يشهد بدو الأرض والحضر

يبكيه نظم القوافي والصحائف وال

أقلام والخطب الغراء والسمر

لا غرو إن أحزن الزوراء مصرعه

فحزنه فوق لبنان له قدر

وإن يكن فاته نهر السلام ففي

دار السلام له الأنهار تنفجر

مضى إلى الله حيى الله طلعته

بالمكرمات وحيى تربه المطر

لئن سلاه فؤادي ما بقيت فقد

ركبت في الحب ذنبا ليس يغتفر

لا أفلح البين ما أمضى مضاربه

كالبرق يخطف من إيماضه البصر

نسعى ونجمع ما نجني فيسلبه

منا جزافا ويمضي وهو مفتقر

إن الحياة كظل مال منتقلا

إلى حيوة بدار الخلد تنتظر

هي الطريق التي تفضي إلى خطر

وحبذا السير لولا ذلك الخطر

نمسي ونصبح في خوف يطول بها

فلا يطيب لنا ورد ولا صدر

إذا انجلت غمرة قامت صواحبها

فليس تنفك عن تاريخها الغمر

سنة 1271

ولما وصلت هذه المرثية إلى بغداد قال السيد شهاب الدين العلوي مقرظا لها:

وافت فعزت بتأساء وتعزية

عليهما يحسد الأحياء من قبروا

مرثية والحكيم الحبر صورها

من المعاني التي قامت بها الصور

بمثل تعديدها يا من يناوحها

أستغفر الله ذنب الموت يغتفر

في كل قلب أقامت مأتما وعزا

وأودعت أسفا للحشر يدكر

فلو وعى البحر يوما ما به ندبت

لجف والنار في أحشاه تستعر

نوح النواح على عبد الحميد غدا

غريق أدمعه تجري به الفكر

لم ينج لولاك يا لبنان من غرق

فأنت جوديه والدمع ينهمر

موحدا كان في أترابه أدبا

واليوم قد ثلثته الترب والحجر

إن رمت يا علم الأعلام معرفتي

خذها فليس على تعريفها نكر

إني امرؤ خادم الدار التي عمرت

فيها المعالي لمولى جده عمر

معلم هدي أبناه الأولى صغروا

سنا وفي المجد والعلياء قد كبروا

يا من إذا ما رثى ميتا يكاد بما

رثاه يحييه لولا الله والقدر

وفيت والناس فضلا عن وفائهم

من غير ما خلل بالخل قد غدروا

وعندك العلم بالدنيا وغايتها

وعنك من مبتداها يرفع الخبر

مودتي يا نصيف الروح صافية

وبحر شعري كدهري كله كدر

أسديت سلوة محزون مؤرخة

أسدى رثاء به السلوان والعبر

سنة 1271

وورد منه مع هذا التقريظ تشطير لقصيدته التي مدح بها ملكة الدولة الإنكليزية. وهو هذا:

إن قلت ويحك فافعل أيها الرجل

فكم رجال لنا قالوا وما فعلوا

فاعمل تصدق بقول أنت قائله

لا يصدق القول حتى يشهد العمل

تقول أسلو الهوى والعين دامية

دموعها بالجوى تجري وتنهمل

وأحسب العشق نارا قد ورت وخبت

وأترك الشوق والأنفاس تشتعل

ما زلت تهوى الطلى حتى أقام على

غرامك الحجة البيضا بها الشغل

ورحت بالبيض مشغوف الفؤاد وفي

فوديك من لونها ما ليس يرتحل

إذا كساك بياض الشيب رائعة

كسيت ما حاك من معشوقة ملل

وإن تضاحك فوق الرأس أبيضه

تضاحكت من هواك الأعين النجل

هيهات ليس لأيام الصبا عوض

ولا يباع بما يغلو فيبتذل

نفيس عمرك لا تلقى به بدلا

حتى يكون له من نفسه بدل

هي الحياة التي أبقت لنا طرفا

يضيق عن وسعنا لو يقصر الأمل

أبقت لنا أثرا لا عين تنظره

كالدار يبقى لنا من بعدها طلل

لكل كأس شراب يستحب لها

كما لكل نديم عندهم نقل

وكل قطر له من يرتضى ملك

وكل عصر له من أهله دول

اليوم قامت فتاة الملك بارزة

فللخوارج منها الخزي والخزل

قد أقعدتهم على الأعجاز سطوتها

وقام من قبلها أسلافها الأول

فرع الأصول التي مرت وبهجتها ال

تي بها ابتهج الأبكار والأصل

غصن زكا عن جراثيم العلى ثمرا

إن الثمار من الأغصان تبتذل

يستحسن الملك فيها والخضوع لها

كما بدولتها يستحسن الجذل

ويحسن الجود فيها مع شجاعتها

وليس يحسن فيها الجبن والبخل

باهى الرجال نساء الدهر وافتخروا

دهرا عليهن في الدنيا وقد فضلوا

ثم ادعى الكل منهم ما يليق به

حتى أتت فأصاب المدعي الخجل

إذا صفا لك نور الشمس في فلك

صاف بصفحته لا يعهد الخلل

وجاوزت في المعالي كل منزلة

فما الذي تفرق الجوزاء والحمل

بقية من ملوك الدهر قد ذخرت

نعم الذخيرة أبقاها لنا الأزل

وللمعالي خباها وهي قد فضلت

وأفضل الشيء ما يخبى فيعتزل

في قلبها خاتم التقوى وفي يدها

سوار حكم به المعوج يعتدل

مليكة طيع الفخر الأثيل لها

من خاتم الملك ما يجري به المثل

تدبر الأمر في أقطار مملكة

منها المساحة بالسدين تتصل

قصيها يسبق الداني لطاعتها

كأن أطرافها القصوى لها حلل

في كل نجد لها غور تمهده

وكل حزب بهم من حربها وجل

وكل صعب لها لانت شكيمته

وكل سهل به من خوفها جبل

قد أدبت كل نفس في جوانبها

بالسيف من جهلوا واللطف من عقلوا

فلم تدع من بليد في البلاد بها

حتى تأدب فيها الصقر والوعل

تلوي الرياح مثاني الرمل عاصفة

عصفا تكاد به تصدع القلل

ويغتدي الكون مغبر الجهات بها

حتى تصيب أراضيها فتعتدل

في ظلها للورى من كل طارقة

حماية ولها من عزها ظلل

وعندها لامرء من دهره وجل

أمن وفي قلبها من ربها وجل

إذا انثنى صولجان الملك في يدها

دانت له كرة الدنيا فتنفتل

ومحجن السعد إن أبداه ساعدها

تحطمت منه بيض الهند والأسل

تصمي بأهدافها الرامي ولو رشقت

بنظرة فلها يستهدف الجلل

وإن تشأ أوترت قوس السما ورمت

بأسهم الشهب عن قوس الهوى ثعل

لها من الرأي جيش تحت رايته

قر الصواب وفر الزيغ والزلل

قوية الجأش قد قاد الجيوش لها

جيش به تأمر الدنيا فتمتثل

يظل في البحر من أطباقه لجج

على المجرة منها الذيل ينسدل

جيش بإطلاقه للبحر رجفته

تعلو وفي البر من أخفاقه زجل

إذا سقى القوم كاسا من وقائعه

فالقرم منهم صريع بالردى ثمل

وقبل إذ لم تدر يوما مكررة

كفاهم النهل أن يستأنف العلل

أفدي التي لبست من مجد دولتها

ما عنه سابور عار مجده عطل

ومن حبتها المعالي ما يليق بها

تاجا فهان عليها الحلي والحلل

صان القريض عن الدعوى تفردها

لو لم تكن ثنيت بالشمس يا رجل

ومل منتحلا مثنى توحدها

بين الكرائم حتى ليس ينتحل

قد هاج إلا عليها الخلف غارقة

ببحره اليوم أهل العصر والأول

وأغرقت وهو مواج ومضطرب

فيه الملوك ولم يلحق بها بلل

كالشمس بين بدور لا يلم بها

خسف ولا كلف كلا ولا ضأل

وليس يعتادها وهي التي كملت

نقص البدور ولا يغتالها الطفل

قريرة العين ترعى الملك ساهرة

تسامر الفكر وقادا فيشتعل

تستيقظ الهمة الكبرى لها حذرا

على العباد فنامت حولها المقل

لمشكل الرأي في أجفانها قمر

قد استنارت به من حله السبل

مستعبد ومن العينين نيره

يدنو ولو أنه في بعده زحل

يا من دعاني إلى صوغ الثناء لها

إن الثناء به عن مدحها كلل

ولست أول داع للثناء دعا

من صيتها قد دعتني قبلك الرسل

لا يمنع البعد جدواها وشهرتها

جودا وجاها على الآفاق تشتمل

فلم أقل بعدت عنا عنايتها

إن الدراري إلينا ضوؤها يصل

فكتب إليه بهذه الأبيات:

لهذا الفرق دان الفرقدان

على خجل فليس الفرق دان

وهذا القد تحسده العوالي

على طعن يشق بلا سنان

بروحي وجنة لاحت وفاحت

فكانت وردة مثل الدهان

عليها الخال قام كتاج ملك

فكان لها العذار كصولجان

عذار خط بالريحان سطرا

يشق على لسان الترجمان

كساها سندسا خضرا فألقى

علي الدمع ثوب الأرجوان

أقول لعاذلي مهلا فإني

أرى الإحسان في حب الحسان

فلست نظير صاحبكم أويس

ولست لصاحبي العلوي ثان

شهاب الدين في الدنيا غني

بحب العلم عن حب الغواني

شهاب الدين في الزوراء نور

يضيء على أقاصي المغربان

ثوى أرض العراق فكان غيثا

به تروى الأباعد والأداني

فغنت ورق لبنان ابتهاجا

وقد بسمت ثغور الأقحوان

أتاني منه تقريظ بديع

تفنن في المعاني والبيان

حكى عقد الجمان وليس كل

يليق بجيده عقد الجمان

على بلد السلام وساكنيها

سلام الله من غرف الجنان

أشوق على السماع إلى حماها

كما اشتاق المحب على العيان

ترى عيني ترى من لا أراه

كما حكم القضاء ولا يراني

لئن صح الزمان لنا بيوم

فذاك اليوم يوم المهرجان

وكتب إليه خليل أفندي الخوري بهذه الأبيات:

بكى وهاجت به الأشواق فانتحبا

صب لمعنى جمال الغانيات صبا

يهوى الحسان التي تحيا النفوس بها

لذاك خاطر لا يخشى له عطبا

فاكفف ملامك عني إنني دنف

لي العذاب بأسقام الهوى عذبا

لي مهجة تلفت في الحب سالكة

سبل الهوى وفؤاد بالنوى التهبا

وأهيف إذ لي في حبه تلفي

قد غادر القلب بالأشجان مكتئبا

ظبي أطال جفاه بالهوى غضبا

روحي فدى ذلك الظبي الذي غضبا

حراب مقلته للحرب مرسلة

أصابت القلب عن عمد فوا حربا

نبي حسن له في الوجه معجزة

إذ قد أرى الناس فيه الماء واللببا

رقت لطائفه طابت ظرائفه

دقت معاطفه مالت بسكر صبا

له مقامات عز عز جانبها

نشر الخزام إلى أرواحها انتسبا

وخده كسهيل والعذار به

يبدو كسطر بنثر اليازجي كتبا

الشاعر الناثر المبدي لنا عجبا

والعالم العامل المحيي لنا الأدبا

ذاك الذي عمت الأقطار شهرته

وفضله عن جميع الخلق ما احتجبا

رب الفنون الذي سحر البيان له

شمس العلوم التي قد أخفت الشهبا

بحزمه ومعانيه وهمته

وحلمه وذكاه قد علا رتبا

إذا ذكرت اسمه في الناس مفتخرا

يعصر الكون منه طيب نشر كبا

رقيق لفظ دقيق الفهم ذو غرر

رقيق شعر بألباب الورى لعبا

جميل خلق له الفعل الجميل وقد

حل المصاعب لا يدري بها تعبا

له خرائد أفكار لبهجتها

تهتز يا صاح في إنشادها طربا

يا كوكبا في بلاد الشرق قد لمعت

أنواره وغدا بالسعد مصطحبا

بفضلك اليوم قد جر الفخار على

من عد في كل عصر زينة الأدبا

من قال إنك يا ناصيف ذو فطن

تدري بها غامض الأسرار ما كذبا

أوصافك الغر أعيت فكر مادحها

فليس يبلغ منها العشر من كتبا

فأجابه بقوله:

أخذت نحوي سبيلا

فسقتني سلسبيلا

بنت فكر من خليل

قد شفت مني غليلا

ذقت منها من لفظ

كان بالسلوى كفيلا

ومعان كنسيم الر

وض إذ هبت أصيلا

هيجت عندي شجونا

سكنت دهرا طويلا

وبنت للشوق عندي

أربعا كانت طلولا

ما أنا والشعر أصبو

والصبا جد الرحيلا

كلما أنشدت بيتا

شمت لي منه عذولا

ضاع هذا العمر ويحي

ومضى إلا قليلا

إن قتلت الدهر خبرا

فلكم ألقى قتيلا

إنما نحن نبات

ينقضي جيلا فجيلا

كلما جف نضير

أطلع الروض بديلا

يا هلالا قد أرانا

في الدجى وجها جميلا

سوف نلقى منك بدرا

كاملا يدعى خليلا

وكتب إليه محمد عاقل أفندي من الإسكندرية:

وحقك إني للوداد أليق

وكل حسيب بالوفاء حقيق

شرطت على نفسي الوفاء فهل ترى

وفيت بشرطي أم علي حقوق

أألوي عناني عن هواك وإن لي

جواد رهان في الثبات طليق

إذا لم أفي بالوعد لست ابن كاشف

ولا جده بين الورى الفاروق

لئن كنت في بيروت والبحر دوننا

فقلبي له فوق البحور طريق

يسير به ركب الضمائر راكدا

فيسبق كر الدهر حين يروق

كأن قلوب العاشقين إذا رنت

تلغراف ولي أمرها المعشوق

وسل من نصيف الود منك فإنه

يترجم عما للضمير أسوق

ولكن لتحرير المراسيل منزل

يحن له عاني الهوى ويشوق

يكاد به يطفي لهيب فراقه

وعندي كتابك للوصال شقيق

بودك لا تنسى وفائي ولا تدع

فؤادي به نار السهاد تفوق

وطائر قلبي فوق غصن غرامه

له عندما هب النسيم خفوق

فعاقل لا تنساه إذ قال صادقا

وحقك إني للوداد أليق

فكتب إليه بهذه الأبيات:

هذه رسالة صب دائم القلق

إلى حبيب جميل الخلق والخلق

تضمنت نار شوق بين أضلعه

فاعجب له كيف يهدي النار في الورق

عليلة اللفظ والمعنى مجردة

صحيحة العزم في الأسفار والطرق

راحت تخوض إليه البحر خائفة

من نقده إذ يراها لا من الغرق

هذا الصديق الذي تبقى مودته

للدهر خالصة من شبهة الملق

تمضي الليالي ولا تلقي بها أثرا

إلا كما أثر الصمصام في الدرق

محمد العاقل المشهور تسمية

بالحمد والعقل طبق الذات في النسق

يتلو لنا سورة الإخلاص منطقه

ووجهه ظل يتلو سورة الفلق

لئن تكن عين تلك الشمس غائبة

فقد أقامت علينا راية الشفق

رسالة كبياض العين رقعتها

وذلك الخط فيها أسود الحدق

تجارة بيننا والله قد ربحت

ممن أرى فضله كالطوق في عنقي

يهدي اللآلي ويهدى بعدها خرزا

منا فلا زال رب الفضل والسبق

وأرسل إليه الشيخ إبراهيم الأحدب من طرابلس هذه الأبيات:

خذوا بثاري من قدود الحسان

فهن أثخن جراح الجنان

وبالجفا أفقرن عاني الهوى

وا فقري البادي لوصل الغوان

من كل بيضاء إذا ما بدت

أرتني البدر على خيزران

شقائق النعمان في خدها

أمست حمى أسود طرف زيان

تلومني إن همت في شادن

في حبه دمعي له أي شان

لاح لعيني البدر من وجهه

لما انثنى عني كغصن وبان

ران على الأحشاء جفن له

رنا فمن غوثي والجفن ران

أبدى يمانيا على صبه

ناظره الفتان لما غزان

جنون قيس فيه أبدى الشجي

فمن لقيسي الهوى من يمان

فيه أماني أمان الجفا

ويا عنا من رام منه الأمان

أبدى الحريري على خده

مقامة تنسي بديع الزمان

وعلق الحسن حروفا به

حقق رقي شكلها بالبيان

قلبي في نار ومن خده

يرتع طرفي في رياض الجنان

خد له معنى رقيق حلا

أفديه من خد رقيق المعان

يحبه القلب لديناره

قد حرر الحسن حلاه وزان

دان له شوقا شقيق الربى

كما له الورد بمجناه دان

ذو قامة كالرمح قد أصبحت

للخط يعزى حسنها بالسنان

حاول سلواني لاح به

لم يدر معنى العشق لما لحان

هل يألف السلوى محب له

من ثغره المن بغير امتنان

وبي غزالان لسكناهما

جعلت وقفا مهجتي والجنان

فجازيا نحوي هذا الورى

لذاك أن يلتقي الساكنان

كما أفاد الحكم في ذا لنا

نحوي هذا العصر فرد الزمان

شاعر قطر الشام من أصبحت

له أياد ببيان المعان

ندب شرعت المدح فرضا له

حيث لنا قد سن سحر البيان

صرفي فضل ما نحي نحوه

له بنقد الشعر أمسى يدان

أقلامه في الطرس تبدي لنا

أغصان روض أو فروع القيان

ترفع بالإبهام أشكال ما

أشكل معناه على كل عان

كم ألف خصت لنا همزها

ورقاء قد قامت على غصن بان

أين عيون البيض من سودها

إذا جرت في كفه والبنان

أخرج من كنز المعاني لنا

جواهرا أزرت عقود الجمان

أبكار أفكار له أصبحت

تزف بالشعر جمال الحسان

من كل عذراء بأفضاله

لسان معناها غدا ترجمان

ورا معانيه يصلي الورى

إذا جرى الفرسان يوم الرهان

صرح بأن الفضل أمسى له

ودع أحاديث فل أو فلان

كم أنطقت ألفاظه ألكنا

إذ كان مبديها إمام اللسان

يسحب سحبان على وجهه

إذ انبرى في النثر طلق العنان

فقل علاه مبتدا في الورى

من غير أخبار ودع ذكر كان

والفرق دان إنه في العلى

يقصر عن إدراكه الفرقدان

فيا فتى العصر دعاني الوفا

لنشر فضل منك حلو المجان

جعلته حليا على غادة

عذراء قد عوذتها بالمثان

فلا تعب مدحي بديعا بها

فذاك شرع من قديم الزمان

وما نرى شينا بمدح الفتى

لنفسه إن لم يكن فيه مان

وبعد ذا حسبي إلهي علا

فإنه جل علاه كفان

فقال يجيبه:

لاحت فقلنا كوكب الصبح بان

قالت نعم لكن على غصن بان

جميلة الطلعة وضاحة

صارت بها السبع الدراري ثمان

هيفاء في وجنتها وردة

يا من رأى الورد على الخيزران

قد تلفت في يدها مهجتي

عمدا ولم يثبت عليها الضمان

ما بين عينيها وأكبادنا

داهية بكر وحرب عوان

إذا شكونا ما لقينا بها

تقول قد قدر هذا فكان

في خدها نار المجوس التي

قام لديها الخال كالموبذان

أو نار إبراهيم مشبوبة

في مهج الحساد ذات الدخان

هذا خليل الله والناس في الد

ين وفي الدنيا فنعم القران

أشم ماضي العزم ماضي اليد ال

بيضاء ماضي الرأي ماضي اللسان

الشاعر الواري الزناد الذي

تحكي قوافيه عقود الجمان

يصدع من أقلامه عامل

للحق فيه والهدى ترجمان

يستبق المعنى إلى قلبه

واللفظ كالفرسان يوم الرهان

في كل فن من بلاغاته

يجلو بيان السحر سحر البيان

مهذب الأخلاق ميمونها

ريان طلق الوجه طلق البنان

ثناؤه لم يخل منه فم

وذكره لم يخل منه مكان

رقت معانيه ودقت كما

رقت نسيمات الصبا في الجنان

ينسي جريرا نظم أبياته

ونثره ينسي بديع الزمان

رب القوافي المطربات التي

سكري بها لا بسلاف الدنان

تقيد القلب بأسبابها

إذا التقاها الطرف طلق العنان

ورب حسناء المحيي انجلت

مثل اللآلي في نحور الحسان

ألبسها ثوب سواد به

تاهت فعافت حلة الأرجوان

يا أنس يوم قد أتتني ضحى

أشهى من النيروز والمهرجان

وهبتها عيني وأذني فلم

ترض لها إلا صميم الجنان

يا خير من صام وصلى ومن

قام خطيبا وارتدى الطيلسان

إليك عذراء سعت نحوكم

بقدم الصب وقلب الجبان

خافت من الذنب بتقصيرها

فأقبلت تطلب منك الأمان

وقال في رسالة إلى المعلم مارون النقاش وهو يومئذ في ترسيس:

ماذا الوقوف على رسوم المنزل

هيهات لا يجدي وقوفك فارحل

تلك الأثافي في العراص تخلفت

أظننت قلبك بينها فتأمل

دار عفتها الذاريات فأبرزت

فيها خطوطا مثل رقم الجمل

ومتى سألت ربوعها عن أهلها

صدر الجواب عن الصبا والشمأل

هيهات ما دار الحياة بمنزل

يرجى ولا ماء الحيوة بمنهل

ولطالما سرت فساءت فانقضت

فكأن ذلك كله لم يحصل

يا أيها النحرير جهبذ عصره

ما لي أبثك علم ما لم تجهل

إن المقدم للحكيم إفادة

كمقدم للشمس ضوء المشعل

بعد المزار على مشوق لم يكن

يشفى على قرب المزار الأول

يدني إليه الوهم دار حبيبه

حتى يكاد يمسها بالأنمل

للناس أيام تمر كأنها

خيل البريد مغيرة في الهوجل

إن كنت تأمن جانب الماضي بها

فالخوف بين الحال والمستقبل

ذهبت بما ذهبت فما تركت سوى

ذكرى الحبيب ويوم دارت جلجل

والذكر قد يؤذي الفؤاد وإن حلا

كالمسك يصدع مفرق المستعمل

زاد المودع نظرة فإذا انقضت

وقف الرجاء على الحديث المرسل

إن كان قد بعد اللقاء لعلة

فابعث إلي بلهفة المتعلل

فأجابه بهذه الأبيات:

وردت إلي من المقام الأفضل

غرثى الوشاح من الطراز الأول

عجبا لها وهي العروس رأيتها

برزت بجلباب السواد المسدل

تلك الرسول تعد أفضل مرسل

إذ قد أتت من جود أفضل مرسل

شاهدت منها المعجزات فإنها

أحيت قريضا كان عندي قد بلي

طفحت على قلبي الهموم فلم يعد

في جانبيه لغيرها من منزل

حتى غزت تلك السطور جيوشها

فسطت عليها كالرماح الذبل

بيني وبين البحر بحر مثله

سعة ولكن طعمه لم يعدل

والبحر يغرق خائضيه وبحرنا

ينجي الغريق وثوبه لم يبلل

يا من إذا سمح الزمان بنعمة

أبقاك نورا في الظلام لينجلي

كل الرجال إذا مضوا يرجى لهم

بدل سواك فلست بالمستبدل

جاريتني فقصرت دونك همة

حتى عجزت فكان حق العذر لي

إن الضعيف مقيدا بلسانه

مثل الأسير مقيدا بالأرجل

وورد إليه رسالة من الشيخ حسن ابن الشيخ علي اللقاني مفتي السادة الحنفية بالإسكندرية يقول فيها:

أيها الطالع الأسعد، الراقي بسلم المجد إلى ذروة كل سؤدد، العارج بحسن آدابه إلى كل ذروة شمسية، الساري ذكره في المنازل سير المطالع الفلكية. ما من فضيلة آداب إلا ولك فيها أطول باع، وإن كانت مقاصير معانيها ذات حسن وإبداع، فالأدب من فكرك تستخرج عرائسه، بعدما تزهو في برود السحر ملابسه. يا من أخذت منه البلاغة زخرفها وتزينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها فنكصت بهم على الأعقاب وأحجمت. ويا من قيد أوابد عروضه بمبتكرات ابن أحمد، وضرب أوتاد بلاغته في الأنام وقواها بأسباب منه تحمد؛ ماذا عسى يقول الواصف في نصيف فضله، أو الناظم والناثر في عقده وحله، بعدما ملك بمطبوعه رقاب الآداب، وحرر رق معانيه وهي ذات دل وإعجاب؟! وقد حركت ألباب الورى لوده بعد السكون؛ فقامت تلتمس في نشر فضله أنواع الفنون، كيف لا وهي نسيم الصبا التي تهتز لها أغصان العقول، ونفحة الطيب التي ترتاح لها أنفس أرباب العقول! وكنا ممن أثنى الود له عنانه، فجاء مع عدم المكافأة خاطبا باذلا أوزانه. وهذه ثلاث رقيمات تنطق بالحق، تتهادى في وشي العجم إلا أنها عربية النطق، فإن فازت بالقبول فأهلا أتت وسهلا، وإلا فهي مشكورة على ما بثت من الأشواق فضلا.

الرقيمة الأولى لحضرة العلامة الأستاذ الفهامة الشيخ إبراهيم سراج الدين الشافعي، وهي:

بين السهاد وجفني صلح مغلوب

وا حيرتي بين مكروه ومحبوب

وا رحمتاه لشاك جور عادلة

تيها وذلك وعد غير مكذوب

لها حواري لحظ عارف فطن

بالسحر يقلب مردا أنفس الشيب

وصارم ما تصدى للغبي بها

إلا تعلم مشهور التجاريب

ومائس من غصون البان نحسبه

لو لم يفد نصب حال غير منصوب

وأسهم في قسي ما لها غرض

إلا النهى حبذا مطلوب مطلوب

يا روضة أنست كل الملاح بها

هذا البلاء وما لي صبر أيوب

يا للهوى من رأى في الغيد آنسة

هي الجآذر في زي الأعاريب

لله دمية حسن در منطقها

ما لابن بسامها عن مسند الطيب

ودرة إن يسم باسم اليتيم سما

بابن الفرات نظيما غير مثقوب

ولم أشم قبله كاسا تهيج ظما

وكلما كررت جاءت بمرغوب

حتى رأيت نصيفا صاغها كلما

هي القتاني فما عاودت تعجيبي

من منطق نحوه لولا تمكنه

في زيده لم يكن عمرو بمضروب

أذلها بالمعاني ذل شامسها

واستأسرت فهو صيد غير متعوب

سل ربة الخال عن طرس يشيه تقل

سيني وواوي ونوني ذا ومحجوبي

دع اليراعة تحبو فضل ربقتها

فإنني أشتهي عصر الأنابيبي

يا أهل بيروت ما أغنى نصيفكم

بسحره كيف ملتم للرعابيب

وما عجبت لتذليل الصعاب له

وإنما عجبي من عدو مغضوب

ماض على رأسه المشدوخ مبتدرا

أغراضه عاريا مع أنه نوبي

ما للنصارى تخطوا ذا الخضم وما

كالوه حقا بمكحول ومخضوب

أما لهم بنقود الفضل معرفة

ولو دروا استغفروه زلة الحوب

فإن يكن فاتني من وجهه نظر

فتلك آدابه مجلوة الكوب

وإن تناءى ففي الإسكندرية من

مطبوعه ما يرينا خير مصحوب

والمرء يعشق للأشياء يحسنها

على السماع فذو فرض وتعصيب

وخير شيء أفاد الود ذا أدب

أخلاق انسجمت من أفق تأديب

تثني عليه القوافي وهي صامتة

كالروض أثنى على غر الأساكيب

كانت تباع بلا وزن فسعرها

حتى غدت في النواصي والتلابيب

ليس الشآم بأدرى حين ينشدها

من العراق بترقيص وتشبيب

كالشمس نم عليها ضوؤها فبدت

في برقع الغيم بيضاء الجلابيب

نباهة قذف الفضل المكين بها

إلى العلى فأنارت عقل مسلوب

كأنما كان مخبوءا ليشهدنا

شخص الفضائل ردا للأكاذيب

جاءتك نفثة مصدور بها خجل

ما حليت بمعار لا ومغضوب

تبدي إليك وجوها في القصور فإن

لم تحسن المدح وفت عذر محبوب

الرقيمة الثانية لحضرة أستاذ الأدب ومعدن الفضل والحسب مولانا الشيخ محمود نوار أحد، الطلبة بمدرسة الإسكندرية. وهي:

خذ الحذر من فتك العيون الطلائع

ولذ بالحمى بين البدور الطوالع

فوقعة بدر بالقليب أدلنها

علينا حروبا في خلال الأضالع

كواعب أتراب تهادى مع الهوى

بكل قوام سمهري الشوارع

بدور أرتنا في الغصون مطالعا

وبرق ابتسام في سحاب البراقع

كوانس خدر في خباء بزينها

عوانس لم تطمث بوري المطامع

يقربن لي عهد العقيق وبارق

ويذكرنني عند العذيب ودائعي

يمسن دلالا في مروط تبختر

ويهزأن عجبا بالغصون الأيانع

يصلن بألحاظ سهام قسيها

حواجبها فوق السيوف اللوامع

تصيب ولا تخطي الحشى بيد أنها

نواعس ترمي من جعاب هواجع

فليس لنا غير الخيال وجسمنا

صريع غوان في الديار البلاقع

وغير عجيب أن ترينا لآلئا

بشعر نصيف في ثنايا سواطع

سراج ذكاء ما خبا منذ حينه

إلى الآن حتى في زمان المراضع

فمن بيت شعر قد شعرنا بفضله

على بعده منا ونزح المواضع

فكيف به في قربه من ديارنا

عشية نغشاه ببعض المجامع

فشعر جرير في كليب نطحنه

بأشعاره في كل كبش ممانع

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

تفاعيل يجليها بذوب البدائع

قلائد عقيان عوابث بالنهى

عرائض يجلوها لكفء المسامع

هي السحر لكن لم تحرم على امرئ

ولكن حساد الفتى لم تصانع

سماء علوم قد مطرنا بنوئها

بيان معان كالغوادي اللوامع

فأصبح منها كل فكر رواؤه

يجود بعقد أو فرائد ساجع

همام أريب ما سمعنا بمثله

أديب وفي أشباله لم نمانع

شمائله بالشام لكن نسيمها

فتيق بمصر بين شار وبائع

أديوانه عد لي حديثك واسقني

حمياك شعرا من بطون المناصع

وقل لي نضار أنت أم سمط جوهر

أم التبر مسبوكا على غير صانع

نجاذب أطراف الأحاديث بيننا

فيأخذنا فيك الهوى بالتتابع

فما في الأغاني من بقايا جمعتها

ضروب قواف في نقوش الأصابع

صرفت رشادي كي أرى لي صاحبا

سواك فلم أظفر بغير الموانع

لك الله يا منشيه أنت قرنته

بروح ابن معنى من كبير ويافع

كأن به ليلى فعاقل حينا

كقيس لها في عرض درب وشارع

وحررته لكن ملكت ثناءه

بمشرقه والغرب من كل بارع

مسكت زماما للفصاحة قائدا

وأرسلتها في كل دان وشاسع

متى تثنها تثنى وإن هي نكرت

تعرفها بالبينات القواطع

فراحت بك الأيام تعرف قدرها

وتمت سرورا لا تراع برائع

الرقيمة الثالثة للفقير خاطب ودكم، وهي هذه:

سرى في ظلام الليل والبدر طالع

غزال وبرق الأفق كالثغر لامع

وأسفر عن وجه أرى الشمس دونه

ضياء فما هذي البدور السواطع

وجرد من غمد اللواحظ مرهفا

إذا ما جلاه الهدب فالحد قاطع

يساحر بالألفاظ من كان ساحرا

وتلك له في مقلتيه صنائع

إذا رام أمرا قدم الجفن قاضيا

فيدنو ولو أن المدى فيه شاسع

يرى التيه فرضا أن يصل نصل جفنه

علينا وسن الهدب بالفتك قارع

يجور ولكن جوره عين عدله

هو السحر لا ما فيه هاروت شارع

ويجرح أحشاء الورى سيف لحظه

وما جردته من جفون أصابع

له الله ما أوفاه بالفتك ذمة

وأخلف وعدا حين تدنو المواضع

يلومون عذالي علي وما دروا

حلاه وما ضمت عليه الأضالع

وما علموا أني أموت بحبه

غراما وفي عشقي عليه أنازع

تلا اللوم تاليه فلم أدر ما تلا

علي وما صمت وحاشا المسامع

يساحرني باللحظ طورا وتارة

ينال به فوق الذي هو طالع

وتغزل لي ثوب السقام جفونه

فتنسج صبري في هواه المدامع

لقد حرس الخدين عقرب صدغه

كما حرس الثغر الشهي وهو هاجع

يصون عن الكحل الجفون لأنها

مكحلة بالطبع فهي وشائع

إذا علني من بارد الريق ثغره

يقوم على خديه خال يمانع

صرفت رشادي رغبة في وصاله

فما تم إلا منعه والتقاطع

وملكته رقي فحرر قتلتي

وما لي على تدبيره القتل شافع

يرق ويقسو كالزمان وإنه

إذا مر يحلو وهو كالغصن يافع

يزينه إن حل حلي دلاله

كما زينت ناصيف فينا البدائع

بدائع ما فيها سوى السحر منطق

حلال وفي أجناسها لا أدافع

إذا جر فوق الطرس سمر يراعة

تصافحه الآداب وهي رواكع

وإن راح ينشي أو يكاتب صحبه

فغر معانيه الحسان تسارع

كأن صرير السمر في روض طرسه

غناء حمام وهو بالشعر ساجع

تآليفه قد نصحت كل أعجم

بليد وكم ولى بليغ وبارع

لآلئ من زهر الربيع تناثرت

علينا وفي منظومها السر ذائع

كأن معانيها بديوان شعره

نجوم لها في أفق مصر مطالع

تولد منها كل لفظ تخاله

من اللطف شخصا وهو للحسن جامع

لئن فاح في أرض الشآم ثناؤه

ففي مصرنا منه شذا الذكر ضائع

إذا ما كبت في حلبة الشعر فكرة

ففكرته تصفو لديها المشارع

له الله ما أورى لدى الحزم زنده

وأزكاه فهما وهو للخطب قامع

خطبت على بعد الديار وداده

كما خطب المرء العلى وهو يافع

فهل ديمة يسخو بها أفق فكره

لتخصب من روض الوداد المزارع

فإن شهود الفكر أجرت قضاتها

تسلسل در الشعر وهي رواتع

فخذها كئوسا ذات حسن فإنها

عليها حباب الود أبيض ناصع

طفيلية راقت وفي طي حبها

نتائج فكر قدمتها المطامع

لها في ذرى علياك مأوى ومسرح

وفضل بمبناه تشاد البلاقع

إذا كنت بالآداب في الشام مفردا

فما تم إلا فضل علياك شائع

وإلى هنا انكسرت رءوس الأقلام، وفاح مسك الختام، من عند خاطب ودكم حسن اللقاني ابن حضرة مفتي السادة الحنفية الشيخ علي اللقاني بثغر الإسكندرية - عفي عنه.

فقال في جواب الأول:

هل للذي في حشاه حزن يعقوب

من حسن يوسف يرجى صبر أيوب

وكيف صبر بلا قلب يقوم به

فقلب كل محب عند محبوب

مضى الزمان على أهل الهوى عبثا

فلم يكفوا ولا فازوا بمطلوب

تطيب أنفسهم تحت الظلام على

وعد الخيال وتنسى وعد عرقوب

كل الملاح فدى خود ظفرت بها

تخلو عذوبتها من كل تعذيب

يزينها الحبر فوق الطرس لا حبر

تحت الحلي وطراز في الجلابيب

محجوبة تحت أستار تغيب بها

ونورها كالدراري غير محجوب

علمت أن عروسا ضمن هودجها

لما تنسمت منه نفحة الطيب

هدية جاد مهديها علي كما

تهدي عطاش الربى قطر الشآبيب

جاءت على غير ميعاد لزورتها

وأعذب الوفد وفد غير محسوب

كريمة من كريم عز جانبه

يا حبذا كاتب منه كمكتوب

أثنى علي بما لا أستطيع له

شكرا فأبسط عنه عذر مغلوب

حيى الصبا أرض مصر والذين بها

وجادها الغيث أسكوبا بأسكوب

في أرضها غابة العلم التي سمحت

لغيرها بالشظايا والأنابيب

على الخليل سلام الله تقرؤه

ملائك العرش من أعلى المحاريب

ومن لنا بسلام نلتقيه به

وبرد شوق كتلك النار مشبوب

هو الأديب الذي رقت شمائله

وصانه الله من لوم وتثريب

منزه عن فضول القول منطقه

في النظم والنثر مقبول الأساليب

وأحسن الشعر ما راقت موارده

مستوفيا حق تهذيب وتأديب

ومن أقام على ألفاظه حرسا

مثل الشكائم للجرد السراحيب

ومن إذا عرضت في الناس تجربة

أغنته عن شق نفس في التجاريب

إليك يا ابن سراج الدين قد وفدت

تبغي الضياء فتاة للأعاريب

خطارة في سخيف البرد عاطلة

مدت إليك بنانا غير مخضوب

رفعت قدري بمدح قد خفضت له

رأسي فناظره سمعي بمنصوب

علي شكرك مفروض أقوم به

يا من عليه مديحي غير مندوب

وقال في جواب الثاني:

على رسم هاتيك الديار البلاقع

بقايا سلام من بقايا الأضالع

بلين وأبلانا الزمان فكلنا

رهين البلى حتى شئون المدامع

نزلنا لربات البراقع معهدا

وأجفاننا من دمعها في براقع

تنوح حمام الأيك عند بكائنا

وتبكي على نوح الحمام السواجع

نهار تغشاه ظلام تشقه

لنا زفرات بالبروق اللوامع

ولم يكشف الظلماء من وحشة سوى

شهاب من الإسكندرية طالع

كتاب دعوناه شهابا لأنه

تجلى بنور لابن نوار ساطع

أتاني على بعد فأدى ودائعا

إلي وكان الشوق إحدى الودائع

أجل رجال الحب في مذهب الهوى

محب على بعد الديار الشواسع

وخير كريم من يكافي صنيعة

وأكرم منه من بدا بالصنائع

تحملت من محمود أكبر منة

عجزت بها عن حمده المتتابع

تصفح مطبوعا فأثنى بطبعه

جميلا فأنشا صبوة للمطابع

حباني على بعد المدى برسالة

تناولتها بالقلب لا بالأصابع

منعت انصراف العين عنها تصببا

كما حال دون الصرف بعض الموانع

أتت تنجلي بين اثنتين وليس لي

سوى مهد قلب من صغار المضاجع

ضعيف يباري قوة من جماعة

فوهن على وهن إلى الوهن راجع

تفضل بالمدح الذي هو أهله

جميل ثناء للمدائح جامع

فكان له فضلان فضل على الثنا

وفضل على خلق الرضى المتواضع

ألا يا بعيد الدار قلبك قد دنا

إلينا بملء العين ملء المسامع

إذا لم يكن بين القلوب تقرب

فإن اقتراب الدار ليس بنافع

وقال في جواب الثالث:

سرى جنح ليل والعيون هواجع

خيال كذوب عنده العهد ضائع

خيال التي لو أنذرت بمسيره

أقامت عليه ألف باب يمانع

فتاة حكت بدر الدجى غير أنها

تبيت وراء الحجب والبدر طالع

قد استودعت قلبي فضاع ويا ترى

متى حفظت عند الحسان الودائع

وأين ترى الحسنى من الحسن الذي

بطلعته الإحسان للحسن شافع

هو الصادق الخل الوفي الذي له

أياد جسام عندنا وصنائع

له من قوافي الشعر جيش عرمرم

أتتنا إلى بيروت منه طلائع

قواف قفاها أنسه تابعا لها

كما تبعت ما قبلهن التوابع

هي الزهر لكن الطروس كمائم

هي الزهر لكن السطور مطالع

لها منظر في العين أسود حالك

ولكنه في القلب أبيض ناصع

حبانا بها طلق البنان مهذب

كريم هداياه اللآلي السواطع

أديب بآيات البلاغة مفرد

لبيب لأشتات الفضائل جامع

أخو الحزم ماضي الرأي في كل أمره

فليس له في فعله من يضارع

يظل إليه مسندا كل طالب

وذاك له بين البرية رافع

جزى الله ماء النيل خيرا فإنه

شراب من الفردوس للناس نابع

شراب لأهل الله يروى به الظما

ويروى بما يرويه دان وشاسع

كفى الله مصرا عن منافع غيرها

وفي غيرها تنبث منها المنافع

محط رحال العلم في كل حقبة

هي الأم والأقطار منها رواضع

أشوق إلى تلك الديار ومن بها

وهيهات ما لي في اللقاء مطامع

إذا قيل إن المستحيل ثلاثة

فهذا لهاتيك الثلاثة رابع

وكتب إليه محمد عاقل أفندي من الإسكندرية:

يذكرني القمري بالليل إذ غنى

أنين وداعي للرباب متى بنا

تشيعني بالطرف خيفة أهلها

وتلمحني سرا فتمنحني وهنا

تكفكف عينا بالدموع ترغرغت

وهل تتقي همع الجفون يد المضنى

تبين فيدنو للفؤاد خيالها

فتسهر لي الأجفان أجفانها الوسنى

وما كان للأشواق قبلي مساكن

ولا بديار الأنس من بعدها سكنى

أرى أن بختي شد للبين بختها

فشطت وكنا قاب قوسين أو أدنى

فآها على صبري لقد هد ركنه

وجاد بسري الدمع من بعد أن ضنا

ولولا اعتقادي أن ما بي بعينه

لديها لهد البين من عمري الركنا

وما راعني في الدهر إلا فراقها

لها العذر قد سارت لما يحسن الطعنا

لقد قصدت بيروت دار أعزة

لهم تنتمي الآلاء في اللفظ والمعنى

نزيلهم قد شك في أصل داره

وصار يقين الأمر في علمه ظنا

مدينة ظرف ما بها غير فاضل

بسيم وسيم قد حوى الحسن والحسنى

تشد له الألباب كل مطية

مجرية الإسعاف في كل ما عنا

صغيرهم في المجد سيد غيرهم

على أن ذاك الغير قدوة من أثنى

وما منهم إلا وقد شب طوقه

ينادي نصيف اليازجي وقد أقنى

مجيد المعاني وهو للقول حجة

لأهل النهى كم قد أجاد لنا فنا

سقاني هني الود وهو أبو الهنا

وعودني مجدا فصيرني قنا

قصائده عندي تمائم مهجتي

أكررها وردا إذا الليل قد جنا

أينصفني دهري وفي العمر هل أرى

بعيني نصيف الشام أو أقرع السنا

فما أسفي إلا مقامي ببلدة

كساد الهنا فيها به الكون قد رنا

أشوق له ما هبت الريح غدوة

وأذكره ما أن صب وما حنا

وها بنت فكري سار بالشوق ركبها

إليه لتقضي في المودة ما سنا

فلا زال محفوفا بألطاف ربه

ولا زلت مذكورا بمجلسه الأسنى

فأجابه يقول:

أتتني بلا وعد من المنزل الأسنى

ربيبة خدر تجمع الحسن والحسنى

فرشت لها بيض القصور مطارفا

فلم ترض إلا أسود القلب للسكنى

رقيقة معنى صيرتني رقيقها

لما أبرزت من رقة اللفظ والمعنى

دنت فتدلت دانيات قطوفها

علي فكانت قاب قوسين أو أدنى

أتتنا تخوض البحر جاهدة السرى

من البحر لكن صادفت عندنا حزنا

وفاتت مياه النيل تطلب قفرة

تعيض الصدى عن ذلك المورد الأهنى

مخدرة لمياء عرنى الوشاح لو

رأى قيس لبنى حسنها صد عن لبنى

لقد ألبست ثوب البياض وختمت

عقيقا به عن ظرف أخلاقها يكنى

عقيلة قوم زفها اليوم عاقل

كريم يشوق القلب والعين والأذنا

أتتني على بعد المزار تعودني

وقد علمت أني لوجدي به مضنى

كريم الثنا أثنى علي بوصفه

ومن لي بأن أثني عليه كما أثنى

أنا الآل لكن لا أقول غررته

ولكن عين الحب قد تخلق الحسنا

وجدنا به الخل الوفي فلم تكن

عن الغول والعنقاء أطماعنا تثنى

يزيد على طول الزمان وداده

فينمو نمو الغرس في الروضة الغنا

أديب لبيب شاعر ناثر له

جواهر أبيات القريض بها تبنى

لطائف معناه أرق من الصبا

وأطرب من صوت الهزار إذا غنى

أصابت يداه اليمن واليسر في الورى

فأيمنت اليسرى وأيسرت اليمنى

تباهت به الإسكندرية عظمة

فكدنا لذي القرنين نحسبها قرنا

هو العمري الطاهر النسب الذي

تمتع بالألطاف من من من منا

ضمنت له حفظ المودة طائعا

وأودعت ذاك القلب في يده رهنا

وكتب إليه الشيخ محمد المؤقت من طرابلس:

لم أقض يوم البين ذمة واجب

إن لم أمت بلواحظ وحواجب

ما الموت إلا في ظبا لحظ الظبى

لا تحت نقع عجاجة وكتائب

لا خير في حب امرء ما لم يمت

وجدا بهن فذاك أكذب كاذب

ما لي وللبيض الحسان جزمن في

خفضي وهن على الغرام نواصبي

هلا رفعن لظى الغرام بضمة

من لين عامل قدهن لطالب

الله أكبر كم فعلن بمهجتي

ما ليس يفعل بالحسام القاضب

أرسلن خيل الدمع طلقا في الهوى

فجرين لكن كالسحاب الساكب

ورمين عن مثل الهلال تقوسا

فأصبنني في كل سهم صائب

حتى غدون وقد حلفن ألية

أن لا يفين بوعدهن لصاحب

فإذا وصلن فوصلهن قطيعتي

وإذا وعدن فوعدهن تجانبي

أوما علمن وما سمعن بأنني

عبد لهن وإن عتبن عواتبي

فإلى متى يفتكن في وعائدي

موصول حيي في نصيف الكاتب

المفعم البحر الخضم جواهرا

من لفظه إذ كان بحر مواهب

والناظم المعنى الدقيق برقة الل

فظ الرقيق وحسن فكر ثاقب

مولى له في كل فن منطق

في صرف مشكلة ونحو أعارب

وله اليد العليا على هام العلا

بأنامل تهمي بخمس سحائب

إن حال يوما في البديع بيانه

ألقى البديع له معاني الصاحب

أو ماس في أرض الطروس يراعه

خلنا سماء زينت بكواكب

لله هاتيك الصفات فإنها

جمعت ثناء مشارق ومغارب

هيهات من طلب المعالي دونه

يرقى وإن كانت أقل مراتب

أتظن كل مهند في غمده

ماض وكل غضنفر بمحارب

لا يخدعنك بالمحال فإنه

ما كل من سل الحسام بضارب

هذا هو الروض الذي أزهاره

عطرن كل تنوفة وسباسب

هذا هو الماء الزلال وغيره

ملح أجاج لا يلذ لشارب

هذا هو الدنيا إذا هي أقبلت

يوما لشخص بعد سبق نوائب

هذا هو الفخر الذي شرفت به

أبناء دوحته لبعد تناسب

هذا هو الرجل الذي تعريفه

وضع العمامة عند كشف غرائب

ولقد سمت وما رأيت وهل ترى

يخفى سناء البدر تحت غياهب

والحر يعشق بالسماع وربما

وفى صديق لم تلده أقاربي

لا غرو أن سمحت يداه بأحرف

هي في الحقيقة من أجل مآربي

كي ما أتيه بها على كل الورى

وأقول يا بشراي صار مكاتبي

أقسمت لو عندي كفاية ليلة

لشددت نحو حمى علاه ركائبي

لكن على قرب الديار وبعدها

وبأي حال فهو خير حبائبي

فأجابه يقول:

من كان كاتب نون هذا الحاجب

هيهات ليست من صناعة كاتب

ومن الذي خضب الخدود بحمرة

يا مي أم ليست بصبغة خاضب

بأبي التي من آل بدر وجهها

ولحاظها من رهط آل محارب

تغزو كما تغزو الكماة وإنما

تدع العدى وتريد غزو الصاحب

قل للتي نهبت فؤاد محبها

بئس الغنيمة نهب قلب دائب

نهبت خلاصة ما لها من بيتها

نفسي فداك فأين ربح الناهب

كم بين من يجفو الخليط وبين من

يصبو إلى حب البعيد الغائب

من كان يهوى فليكن كمحمد

يهوى ويهوى بالخليق الواجب

ذاك الذي منه المحبة نحونا

قطعت سباسب أردفت بسباسب

كل الصحاب نريد تجربة لهم

وهو الغني عن امتحان تجارب

أهدت إلي رسالة آمنت عن

ثقة بها لما أتت بعجائب

حملت على ضعف بها من صبوة

ما ليس تحمله متون نجائب

عربية جاءت بلطف حواضر

من رقة المعنى ولفظ أعارب

نقشت سوادا في البياض كأنه

نقش الغوالي في وجوه كواعب

يا من دعا فأجاب قلبي طائعا

لبيك من داع عزيز الجانب

ذاك ابتداء ما له من ناسخ

وله ارتفاع ما له من ناصب

أنت الوفي الصادق الحب الذي

يبقى على طول الزمان الكاذب

ولقد توازنت المحبة بيننا

كتوازن الأجزاء في المتقارب

حملتني من فضل جودك منة

عظمت ولكن ليس تثقل غاربي

منن الكرام على الرجال خفيفة

إذ ليس من عيب لهن لعائب

وأرسل إليه المعلم مارون النقاش من ترسيس أبياتا لم نقف عليها، فكتب إليه بهذه الأبيات:

نزع القريض إلى حمى نقاشه

كالطير مبتدرا إلى أعشاشه

حملته أجنحة الصبابة فاستوى

متمتعا منها بلين فراشه

يا حبذا ذاك المزار فإنه

ورد به يروى غليل عطاشه

خلع الحبيب عليه بهجة أنسه

وعلى منازلنا دجى إيحاشه

يا دار من أهواه حياك الصبا

وسقاك مزن الصبح صفو رشاشه

إن كان قد سكنت عليك رحاله

فالقلب لم تسكن بلابل جاشه

طبع الزمان على تقلب حاله

وعلى تلون وجهه ورياشه

ما زال ينصحنا بنكبة غيرنا

ويظنه المنصوح من غشاشه

لا يذكر الإنسان أمر معاده

إذ كان مشتغلا بأمر معاشه

يستأمن الجزار وهو يرى المدى

يخطفن حول نعاجه وكباشه

يا مسعفا دهري علي بهجره

لا تسعف البازي على خفاشه

أنعم بترداد الرسائل منعشا

من أنت مقتدر على إنعاشه

وكتب إليه محمد عاقل أفندي من الإسكندرية بقصيدة لم نجدها، فأجابه بقوله:

لما رأيتك ترعى ذمة العرب

علمت أنك منها خالص النسب

وكيف تنكر في الأعراب نسبته

فتى له عمر الفاروق خير أب

يا حافظ العهد في سر وفي علن

وحافظ الود عن بعد وعن كثب

أرى رسائلك البيضاء لو عصرت

منها المودة سالت بالندى الرطب

بيني وبينك عهد لا يغيره

بعد الديار وهول الحرب والحرب

إن لم يكن بيننا في قومنا نسب

قدما فقد جمعتنا نسبة الأدب

ما لي وللدار إن شطت فمغرسنا

طي الترائب لا مطوية الترب

إذا ظفرت بقلب غير مبتعد

فما أبالي بربع غير مقترب

لا أوحش الله ممن ظل يؤنسني

طول المدى بورود الرسل والكتب

لو كنت أدري له شخصا أمثله

لكان في الوهم عن عيني لم يغب

يا عاقلا عقلت قلبي مودته

لا أطلق الله هذا الأسر في الحقب

ملكتني ببديع اللطف منك فإن

بغى سواك اقتناصي كنت كالسلب

يا حبذا أرض مصر والذين بها

وحبذا نهلة من نيلها العذب

وحبذا نسمات طاب عنصرها

وإن يكن عنصر الأيام لم يطب

صبرا على نكد الدنيا التي طبعت

على معاقبة الأحداث والنوب

والصبر أنفع ما داوى الجريح به

جرح الفؤاد وأهدى الطرق للأرب

ما ليس تقطعه الأسياف يقطعه

مر الزمان كقطع النار للحطب

هذا ما استطعنا جمعه من هذه المراسلات، وقد بقيت عدة قصائد واردة من الجهات لم نجدها، فلم نتعرض لطبع أجوبتها المدرجة في النبذتين المطبوعتين من ديوانه. ومما فاتنا أيضا الرسائل النثرية المرسلة منه إلى الشعراء خطابا أو جوابا؛ إذ ليس لها صور ولا سبيل إلى استجلابها من حيث هي؛ ولذلك خلا منها هذا المجموع.

وقد قرظه حضرة الشاعر المجيد أسعد أفندي طراد بهذه الأبيات:

كذا فليكن من خاض في حلبة الشعر

ومن جال في بحبوحة النظم والنثر

تهاديه أعلام البلاد رسائلا

من الشرق حتى الغرب في البر والبحر

لعمرك هل من شاعر قد تزاحمت

على بابه الأشعار من عمد العصر

يعد لهم فضل بذلك ومنة

نعم وله حظ جليل من الفخر

مطارحة أحلى من الشهد عندنا

وأبهج من زهر الحدائق والزهر

تصافحت الأنفاس فيها فأبرزت

نسائمها عرفا ألذ من العطر

لكل جديد لذة وحديثها

يظل جديدا بين زيد إلى عمر

فليس لقاريها ملاك ولو قرا

بها في نهار ما سيقراه في شهر

فقل لذوي الألباب هبوا وبادروا

إلى كنز علم لا إلى البيض والصفر

فذلك يعطي الحي مجدا ورفعة

ويعطيه بعد الموت ذكرا إلى الحشر

وقد قرظه حضرة الشاعر المطبوع عبد الله أفندي فريج؛ قال:

وفاكهة في روضها بالبها بهت

فما شامها الولهان إلا وقد بهت

رياض بها الآداب كالزهر بهجة

فمنها نفوس الناس فازت بما اشتهت

عرائس أفكار تجلت لنا فكم

محاسنها في الخلق عن غيرها نهت

وأبكار خدر مع بنات قريحة

على صبها أرخت دلالا وتيهت

فكم من معنى قد سبت بجمالها

وكم من محب تيمته وولهت

إليها بدور التم باتت حواسدا

فمن دهشة ترنو إليها وقد سهت

وودت شموس الحسن من غيرة لها

بأفق العلا يوما بها لو تشبهت

درار بها أهل النهى قد تفاكهت

فحثت على فضل عقولا ونبهت

تحرى عزيز القوم جمعا لشملها

فلا بدع أن حاكته لطفا وأشبهت

وإذ أدركت حد الكمال بطبعها

لصحب تواريخ التهاني بها شدت

ظفرتم أهيل الجاه والجود بالمنى

ففاكهة الندمان في أهلها زهت [ظفرتم = 1620، أهيل = 46، الجاه = 40، والجود = 50، بالمنى = 133]. [ففاكهة = 586، الندمان = 176، في = 90، أهلها = 42، زهت = 412]. [ظفرتم أهيل الجاه والجود بالمنى = 1889 ، ففاكهة الندمان في أهلها زهت = 1306]. •••

وقال أيضا:

اليوم الفضل علا وسما

فصفات المجد لنا وسما

بمجاني فاكهة نتجت

عن سامي أفكار العلما

غيد ماست بمعاطفها

فهواها في القلب ارتسما

لعبت بعقول في عرب

وسبت بمحاسنها عجما

تاهت ببديع في عجب

قد خلت الدر به انتظما

وصفت بمعان رائقة

كسلاف يجري منسجما

بعزيز عزت فاشتهرت

إذ أضحى مفردها علما

فلذاك الصب بها دنف

يصبو منها لرحيق لمى

واليوم شدا منه طربا

تاريخ يزهو مبتسما

أذهان القوم أخا شجن

سحرتها فاكهة الندما [أذهان = 757، القوم = 177، أخا = 3 6، شجن = 353]. [سحرتها = 674، فاكهة = 506، الندما = 126]. [أذهان القوم أخا شجن = 1889 ، سحرتها فاكهة الندما = 1306]. •••

وقال الفقير إليه - تعالى - عزيز زند (جامع هذا الكتاب):

مراسلات الأدبا قد بدت

فاكهة من فاكهات الجنان

كأنها في حسن تنظيمها

عقود در في نحور حسان

لا بدع أن جلت فنظامها

قد نصبوا عكاظ هذا الزمان

ترى المعاني مقبلات إلى

أقلامهم منقادة بعنان

فتنفث السحر وتتلو لنا

ذي حكمة الشعر وسحر البيان

ترشف كاسات المداد بها

سورة سكر من كئوس الدنان

لكن خمر الشعر قد حل فاج

رع أيها القاري عليك الأمان

منهم ناصيف الذي شعره

له اللوا العالي بكل مكان

روج سوق الشعر ديوانه

وأرخص الدر الثمين المصان

مصر وسوريا ونجد وما

بين العراقين وشحر عمان

قد قابلت بالمدح أشعاره

لما بدت مستعذبات المجان

Неизвестная страница