وظن الشاب أنه ولد من جديد؛ ليستقبل عهدا جديدا. وأشعل الدور الصغير الذي قام به في الفيلم طموحه إلى أقصى حد، وتوقع الخير مع طلعة كل شمس. وكلما شعر بمرارة الانتظار قال: إن الله لم يخلقني في هذه الصورة إلا لحكمة بالغة.
ولكنه اختفى بلا سبب ظاهر. لم يعد أحد يراه في أي من مظانه. اختفى تماما، بل يبدو أنه اختفى إلى الأبد.
حوار
في جلبابه الأبيض الفضفاض، جلس على أريكة تتوسط حجرة المعيشة، وتحت طاقيته البيضاء بدا وجهه متجهما. أما هي فلم تكن تستقر على حال، يتحرك جسمها الرشيق في فستان البيت الوردي بين مقعد وآخر، أو تنظر حينا من النافذة المطلة على الطريق الصاخب. قالت بجدية: انتهيت إلى قرار أن أقيم مع خالتي.
فلوح بيده محتجا وهتف: تهجرين أخاك لتعيشي مع خالتنا! هذا لن يكون، لن تتركي هذا البيت إلا إلى بيت الزوجية. - ولكن الحياة أصبحت نقارا مستمرا. - كل شيء له سببه. - الخلاف بيننا لا يهدأ وهو يستفحل يوما بعد يوم. - إن ما أقترحه هو عين العقل. - هذا رأيك، أما رأيي فشيء آخر. - أنا أخوك وأخبر منك بالدنيا. - لماذا؟ كلانا متعلم وله عمله، وأنا أكبرك بعامين. - ولكني رجل، وهذه ميزة لا حيلة لنا فيها. - لا تردد ذلك من فضلك. لعل انتقالي إلى بيت خالتي.
قاطعها بحدة: لا، من فضلك، افترقنا ونحن على هذا الخلاف يهدد كلينا بكارثة. - ما العمل ما دمنا لا نتفق في شيء؟ - رأي واضح مثل 1 + 1 = 2.
فدارت ابتسامة طارئة، وهي تقول: الواضح عندي أن 1 + 1 = 1. - ما أعذبك لو ألنت صلابة رأيك. - عندي كل شيء طيب. - ما أطالبك به يقره الناس والمنطق وطبائع الأشياء. - أستطيع أن أقول نفس الوصف لما أطالب به، ولكنك تقسو على نفسك، حتى الموسيقى الحلوة تعرض عنها. - يا لك من ظالمة، أليس لي أوقات فراغي أيضا؟ - ولكنك طيلة الوقت مشغول بالهموم اليومية. - هي الحياة، لولا ذلك ما بقي لأسرتنا ما تعتز به. - فضلك مشكور. ولكن الحياة أوسع من ذلك كله. - لو طاوعتك لرمينا بالجنون. - دعني أصارحك بأن من الجنون ما يعجبني. - هكذا أنت، لا تفكرين أبدا في العواقب.
فحدجته بنظرة متحدية من عينيها السوداوين الشهلاوين، وقالت: غاية الحكمة ألا نفكر في العواقب. - الله .. الله .. خطوة واحدة تبقى، ثم يدركني اليأس من ناحيتك. - ما صبرت عليك إلا لإيماني بحسن نواياك. - تذكري عمتك، والعاقل من اتعظ بغيره. - عمتي! .. ما أروعها!
فكبح غيظه، ولكن وجهه ازداد تجهما، وهتف: مناقشة لا تعد بنتيجة طيبة. - هكذا خلقت فدعني وشأني. - لا .. لا .. علينا أن نتدبر أمرنا طويلا. - ما الفائدة؟ - المزيد من التفكير لا يضر. - إلا إذا جر وراءه مزيدا من التردد والخوف. - لعلك تهربين من المسئولية. - ليس في حياتي هروب، إنها سلسلة من المغامرات، وكل مغامرة تحمل في طياتها مسئولية هامة. - والخسائر ألا يدور لها في تقديرك حساب؟ - ما تظنه خسارة أعتبره ربحا. - أتمنى ألا تترامى خواطرك إلى الناس! - الناس .. الناس .. الناس. - إنهم خطر مدمر. - إنهم خطر على من يهتم بأمرهم.
فقال بنبرة مرتفعة: معي المنطق ووصية أبينا رحمه الله.
Неизвестная страница