اللهم إلا أبياتا قليلة مبعثرة تشعر فيها بمعنى جديد، وترى فيها أثر الابتكار واضحا، وإلا شعراء نادرين كانت لهم مناح خاصة وشخصية واضحة، وتسمع لقولهم نغمة جديدة، كالذي تراه في زهير، فقد عني بأخلاقية قومه، وعبر عنها تعبيرا صادقا.
وكذلك تشعر حين تقرأ الشعر الجاهلي - غالبا - أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص؛ وإنك لتتبين هذا بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم؛ وقل أن تعثر على شعر ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، وأظهر فيه أنه يحسن لنفسه بوجود مستقل عن قبيلته.
ولما انتشرت اليهودية والنصرانية بين العرب ظهرت نغمة دينية جديدة، تراها في مثل شعر عدي بن زيد في الحيرة، ثم في أمية بن أبي الصلت في الطائف.
وخلاصة القول أن الشعر الجاهلي لا يدلنا على خيال واسع متنوع، ولا على غزارة في وصف الشاعر والوجدان بقدر ما يدلنا على مهارة في التعبير وحسن بيان في القول. (3) الأمثال
يقول علماء اللغة العربية: إن كلمة المثل مأخوذة من قولك هذا مثل الشيء ومثله كما تقول: شبهه وشبهه؛ لأن الأصل فيه التشبيه، ثم جعلت كل حكمة سائرة مثلا، ويرى غيرهم أن الكلمة مأخوذة من العبرية، ففيها كلمة «مشل» تدل على هذا المعنى أوسع منه، فهم يطلقونها على الحكمة السائرة، وعلى الحكاية القصيرة ذات المغزى، وعلى الأساطير.
وعلى كل حال فسنبحث في الأمثال - فقط - من ناحية دلالتها العقلية، فمن أمثال الأمة نستطيع أن نتفهم الدرجة التي وصلت إليها، ونستطيع أن نعرف كثيرا من أخلاقها وعاداتها.
وللأمثال من هذه الناحية ميزة على الشعر، ذلك أن الشعر تعبير طبقة من الناس يعدون في مستوى أرقى من مستوى العامة، فالشعراء يعبرون عن شئون القبيلة التي ارتسمت في أذهانهم الراقية - نوعا من الرقي - وهم يعبرون بألفاظ مصقولة صقلا يستوجبه الشعر، أما الأمثال فكثيرا ما تنبع من أفراد الشعب نفسه، وتعبر عن عقلية العامة، ولذلك تجد كثيرا منها غير مصقول، أعني أنه لم يتخير لها ألفاظ الأدباء ولا العقلاء الراقين، مثل قولهم: «أول ما أطلع ضب ذنبه»، وقولهم: «أم قبيس وأبو قبيس، كلاهما يخلط خلط الحيس»، وربما كان هذا هو السبب في أن بعض الأمثال العربية يفهم معناها إجمالا لا تفصيلا، قال أبو هلال العسكري في كتابه جمهرة الأمثال في شرح «بعين ما أرينك»: «إن معناه (أعجل)، وهو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعا من غير أن يدل عليه لفظه، وهذا يدل على أن لغة العرب لم ترد علينا بكمالها، وأن فيها أشياء لم تعرفها العلماء» اه.
وأنا أرى أنه يدلنا أيضا على أن ما وصل إلينا من الشعر والخطابة ونحو ذلك هو لغة الأدباء المصقولة، لا لغة الشعب والعامة، ولم يصل إلينا من لغة العامة إلا بعض الأمثال.
ولست أعني أن كل الأمثال ساقطة التعبير غير مصقولة الألفاظ، ولكن أعني أنها تمثل الشعب بأجمعه، فقد ينبع المثل من طبقة راقية فيكون راقيا مصقولا، وقد ينبع من العامة فلا يكون كذلك، أما الشعر فلا ينبع إلا من طبقة الشعراء، وهم عادة أرقى من الشعب، وهم إن فات بعضهم رقي المعنى فلن يفوته صقل اللفظ، ومن أجل هذا عبر بعضهم عن المثل بأنه «صوت الشعب»، ومن أجل هذا أيضا كانت دلالة الأمثال على لغة الشعب أصدق من دلالة الشعر.
رأى الباحثون في الأمثال أن هناك نوعا منها يكاد يكون شائعا بين الشعوب كلها، ونوعا آخر تختلف فيه الأمة عن الأخرى، فالنوع الأول موضوع البحث: كيف اتفقت الأمم في هذه الأمثال، وخصوصا في اللغات ذات الأصل الواحد كاللغات السامية ففيها أمثلة متقاربة، وفي بعض الأمثال العربية مشابهة قريبة لأمثال سليمان، لا تختلف عنها إلا في صوغها في القالب العربي، وتحويرها تحويرا طفيفا لتتفق والذوق العربي، والنوع الثاني موضع البحث: لم كان كذلك في هذه الأمة وكان غير ذلك في الأمة الأخرى؟ فالأمة الزراعية لها أمثال مشتقة من زراعتها، والتجارية لها أمثال مشتقة من تجارتها؛ وهكذا، وإنك لتستطيع أن تطبق ذلك على العرب باستعراضك أمثالهم، فقد أكثروا من الأمثال المتعلقة بالإبل وشئونها، فقالوا: «استنوق الجمل»، و«إنما يجزي الفتى ليس الجمل»، و«أغدة كغدة البعير؟»، وهكذا أمثالهم في اللبن والجزور، وإن أنت استعرضت أمثال قريش رأيت فيها ما يدل على أنهم قبيلة تجارية، كقولهم: «لا في العير ولا في النفير» ونحو ذلك.
Неизвестная страница