فإن هناك فرقا كبيرا بين مذهب فلسفي، وخطرة فلسفية، فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث المنظم ، وهو يتطلب توضيحا للرأي، وبرهنة عليه، ونقضا للمخالفين؛ وهكذا، وهذه منزلة لم تصل إليها العرب في الجاهلية، أما الخطرة الفلسفية فدون ذلك؛ لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون، من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد، وهذه درجة وصل إليها العرب.
الفصل الخامس
مظاهر الحياة العقلية
سنتكلم كلمة عن كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية، وهي اللغة والشعر والمثل والقصص، لا من حيث جماله الفني وأسلوبه البلاغي، فهذا لا علاقة له بموضوعنا، ولكن من حيث دلالته على العقل.
وقبل ذلك يجب أن نقف قليلا لنبين رأينا في حجية هذه الأمور؛ ذلك لأن الشك قد يطوح بكل هذه المظاهر، أليس الشعر الجاهلي قد ظل غير مكتوب نحو قرنين، وظلت تتناقله الرواة شفاها، ونحن نعلم ما في هذا من تعرض للخطأ والتغيير، ثم أليس هناك دواع تحمل رواة الشعر وغيرهم على الانتحال؛ من دينية وسياسية وجنسية، وقد بين النقاد الثقات أن كثيرا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، فكيف يصح بعد أن يعتمد عليه في تعرف الحياة العقلية؛ وقل مثل ذلك في سائر المظاهر.
فنقول: إن أحدا لم ينكر الشعر الجاهلي كله جملة، بل الباحثون فيه منهم من يبالغ في الشك، ومنهم من يبالغ في اليقين، ومنهم من يقتصد، ومذهبنا نحن أن نسلك في الشعر الجاهلي مسلكنا في سائر ما يروى من الحوادث التاريخية، وما يروى من أحاديث، ففي هذه الأشياء نمتحنها من ناحيتين: من ناحية السند - أعني الرواة الذين رووا الحادثة أو الحديث - ومن ناحية المتن - أعني القول المنقول نفسه - فإذا كانت الناحيتان صحيحتين، وجب علينا أن نصدق ما قيل حتى يظهر وجه للنقد جديد، فلنفعل كذلك في الشعر، فإذا كان الراوي كاذبا أو ليس بثقة لم نعتمد على ما روى، وكذلك إذا قام برهان على ضعف المتن: كأن يتشبب الشاعر بموضع ثبت تاريخيا أنه لم يذهب إليه، ولم يكن له به علاقة أو نحو ذلك؛ فإذا لم يكن شيء من هذين صح الاستدلال بالشعر المروي، فالثقات مثلا ضعفوا ما يروي ابن إسحاق من الشعر، وطعنوا في حماد الراوية وخلف الأحمر، فلندع ما يرويه هؤلاء ما لم يشاركهم غيرهم من الثقات في روايته، ولكنهم وثقوا أبا عمرو بن العلاء والأصمعي وأمثالهما، فلنأخذ بما رووا ما لم يقم دليل من ضعف المتن على كذبه، ولعله يسلم لنا - بعد ذلك - جملة صالحة نستطيع أن نتبين منها الحياة العقلية.
على أن هناك وجها آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون مثلا للحياة العقلية الجاهلية متى كان المزيف عالما بفنون الشعر خبيرا بأسالبيه، فمثلا يقول ابن سلام في خلف الأحمر: «أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانا»، ويعني بالفراسة في الشعر العلم به والبصر فيه، فإذا وضع خلف قصيدة فقد كان يلبس فيها على الناس، وينحو نحو الجاهليين ويقلدهم في مهارة وحذق، حتى ليصعب على الناقد أن يفرق بين قوله وقول الجاهلي، فلا علينا بعد إذا استفدنا من علم خلف بأمور الجاهلية، أليس إذا حدثك خلف عن شئون الجاهلية - وهو الخبير بها - كان لقوله قيمة كبرى؟ فهو كذلك إذا وضع شعرا يمثل الحياة الجاهلية. (1) اللغة
تدل اللغة على الحياة العقلية من ناحية أن لغة كل أمة في كل عصر مظهر من مظاهر عقلها، فلم تخلق اللغة دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، إنما يخلق الناس في أول أمرهم ألفاظا على قدر حاجتهم، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظا جديدة، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها، وهكذا اللغة في حياة وموت مستمرين، وكذلك الاشتقاقات والتعبيرات فهي أيضا تنمو وترتقي تبعا لرقي الأمة، هذا ما ليس فيه مجال للشك، وإذا كان هذا أمكننا - إذا حصرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور - أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها، والكلمات المعنوية التي تعرفها والتي لا تعرفها، اللهم إلا إذا كانت المعاجم أثرية، كمعاجم اللغة العربية التي نستعملها نحن اليوم، فإنها لا تدل علينا؛ لأنها ليست معاجمنا، ولم تسر معنا ولم تمثل عصرنا ، ولذلك يخرج عليهم كتابنا وشعراؤنا، وإنما كانت معاجم صحيحة للعصر العباسي أو نحوه؛ أما معاجم كل أمة حية الآن فهي دليل عليها، فإذا أمسكت معجما منذ مائة عام للأمة الفرنسية ولم تجد كلمة للتغراف والتليفون فمعنى ذلك أن الأمة لا تعرفهما، وإذا لم تجد كلمة تدل على معنى من المعاني دلك ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى هذا المعنى؛ وهكذا.
فنستطيع إذا إذا حصرنا الكلمات العربية المستعملة في الجاهلية أن نعرف ماذا كانوا يعرفون عن الماديات، وماذا كانوا يجهلون، وماذا كانوا يعرفون من المعاني والعواطف والملكات النفسية، وماذا كانوا يجهلون، فإذا لم تجد - مثلا - كلمة ملكة أو عاطفة أو شعور في اللغة الجاهلية دل ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى تلك المعاني، فلم يضعوا لها ألفاظا، وهذا وأمثاله يحدد لنا مقدار رقيهم العقلي، ولكن مع الأسف لم يوضع معجم كهذا، وهل نستطيع ذلك؟ إنه يقف في سبيلنا جملة عقبات. (الأولى):
أن أكثر الشعر والنثر الجاهليين قد ضاع، قال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير»، فمن أجل هذا نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي، نستطيع إذا صح عندنا بيت من الشعر الجاهلي أن نقول: إن ألفاظه ومعانيه تعرفها العرب، ولكن لا نستطيع إذا لم نجد أن نقول: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ولا هذا المعنى، وبذلك ينهدم جزء كبير من مظهر الحياة العقلية. (الثانية):
Неизвестная страница