فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية - نظما أو نثرا - من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقا، وقلة ارتباط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، حتى لو عمدت إلى القصيدة - وخاصة في الشعر الجاهلي - فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرا أو أخرت متقدما، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك - وإن كان أديبا - ما لم يكن قد قرأها من قبل.
وهذا النقص تلمحه فيما يكتب في الموضوعات الأدبية، فأنت إذا قارنت بين ما يكتبه الجاحظ أو ابن عبد ربه أو أبو هلال العسكري في الخطابة أو الوصف، وما يكتبه أرسطو في ذلك رأيت الطبيعتين مختلفتين تمام التخالف، فأرسطو يحلل الخطابة مثلا، ويبين منزلتها من البلاغة، وأقسام الخطابة وأجزاء الخطبة؛ وكيف يتكون الخطيب ... إلخ بنظر شامل بحيث تدرك الخطابة صورة كاملة؛ أما كتاب العرب فيكتبون جملا رشيقة ودررا منثورة في الخطابة، لا يتكون منها شكل تام.
ويجب أن تعني - إذا أردت المقارنة الصحيحة - باستبعاد من تأثر طبعه وعقله بالفلسفة اليونانية كالسكاكي وأمثاله.
وهذا النقص أيضا تلمحه في كتب الأدب؛ لأنها تأثرت بطبيعة الأدب نفسه، فإذا نظرت في كتاب كالأغاني أو العقد الفريد أو البيان والتبيين أو الحيوان للجاحظ لا تجد موضوعا واحدا ألقيت عليه نظرة عامة دفعة واحدة، ثم وضع في مكان واحد، ولكن هنا لمحة وهناك لمحة، وتدخل من باب فيسلمك إلى باب آخر لأقل مناسبة، حتى يعيا الباحث إذا أراد أن يقف على كل ما كتب في موضوع معين، مع اعترافنا بما في هذا التنقل من لذة وطلاوة.
وهذا النوع من النظر هو الذي قصر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصا، فذلك أن هذا المنظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غني به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معان كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة، ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرا من حكم الفرس والهند والروم مما سنعرض له في موضع آخر، وعلى الجملة فالعقل اليوناني مثلا إن نظر إلى شيء نظر إليه ككل، يبحثه ويحلله؛ والعقل العربي يطوف حوله فيقع منه على درر مختلفة الأنواع لا ينظمها عقد. •••
والآن وقد علمنا طبيعة نظر العربي ننظر: هل هذا النوع من النظر طور طبيعي تمر به الأمم جميعا أثناء سيرها إلى الكمال، أو هو عقلية خاصة للجنس السامي؟ ذلك أمر جدير بالبحث، وليس لدينا مجال لبسط القول فيه، ولكنا نقول إجمالا: إننا أميل إلى القول بأنه طور طبيعي، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وإن ما يسمى «الوراثة» ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، ولو كانت هناك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذا كان العرب سكان صحاري كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق، ولنشرح لك الآن العوامل التي عملت في نفوس العرب. •••
يعمل في تكوين عقلية الشعوب عاملان قويان: البيئة الطبيعية ، ونعني بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك؛ والبيئة الاجتماعية، ونعني بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية، كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك، وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية، لذلك كان خطأ ما ذهب إليه «هجل» من إنكار ما للبيئة الطبيعية من أثر في العقل اليوناني والثقافة اليونانية، مستدلا بأن الأتراك احتلوا أراضيهم وعاشوا في بلادهم، ولم تكن لهم ثقافتهم وعقليتهم، ووجه الخطأ أن ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذا لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول، وقد حاول علم الاجتماع توضيح ما لهذه العوامل من أثر في الأمم المختلفة، ونحن لا يعنينا هنا إلا تأثيرها في العرب.
فالعرب - كما أسلفنا - كانوا يسكنون بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كلأ مبعثرا هنا وهناك، وأنواعا من الأشجار والنبات مفرقة، استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ والجو الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم - وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور - فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة بيناها قبل.
وشيء آخر لا بد من النظر إليه، وهو تأثير هذه الصحراء في النفوس؛ ذلك أن الحياة في الصحراء قليلة إذا قيست بحياة الخضر، سواء في ذلك حياة النبات أم الحيوان أم الإنسان، قد عريت أرضها - غالبا - من آثار البشر، فلا أبنية ضخمة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة؛ فابن الصحراء يقابل الطبيعة وجها لوجه، لا شيء يحول دون التفاته إليها، تطلع الشمس فلا ظل، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية وادعة فتبهر لبه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسه، وتعصف الرياح العاتية تدمر كل ما أتت عليه! أمام هذه الطبيعة القوية ، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور، إلى حفيظ مقيت، إلى الله! ولعل هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم؛ وهي اليهودية والنصرانية والإسلام، نبعت من صحراء سينا وفلسطين وصحراء العرب.
Неизвестная страница