العربي عصبي المزاج، سريع الغضب يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته، وإذا اهتاج أسرع إلى السيف واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف، وحياتهم اليومية المعتادة.
والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل: إن لسانه أمهر من عقله.
خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرا من عيشته، وحياة خيرا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف «المثل الأعلى »؛ لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته كلمة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يسقي منه معنى جديدا، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب.
أما ناحيتهم الخلقية فميل إلى حرية قل أن يحدها حد، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تاريخهم في الجاهلية - حتى وفي الإسلام - سلسلة حروب داخلية، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي؛ لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه رضي الله عنه منح فهما عميقا ممتازا لنفسية العرب.
والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب، وفقر وغنى، وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود، هذا وصف موجز تجد تفصيله في الفصل الآتي.
من هذا الذي ذكرنا مما للعرب من عقلية طبيعية، ومن ذلك الذي شرحنا من اتصال العرب بغيرهم من الأمم المتحضرة، نبع ما لهم من حياة عقلية مظهرها اللغة والشعر والمثل والقصص.
الفصل الرابع
الحياة العقلية للعرب في الجاهلية
أشرنا فيما تقدم إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوا، وأن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم أثناء سيرها إلى الحضارة، وتزيد الآن أن هذا الطور الطبيعي له مظاهر عقلية طبيعية.
ففي مثل هذا الطور الذي كانت تمر به العرب في الجاهلية يتجلى ضعف التعليل، أعني عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجا، فيفهم نوعا ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره؛ لهذا لا يرى عقله بأسا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي الكلب، أو أن سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى، إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله؛ لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول.
Неизвестная страница