وكان القسس والرهبان يردون أسواق العرب، ويعظون ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب، والجنة والنار، وقد ورد في القرآن كثير من الآيات تحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم، مما يدل على انتشار هذه التعاليم بينهم.
وكان من هؤلاء النصارى شعراء كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد، وهؤلاء لهم مسحة خاصة في شعرهم، عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليمه، تزهد في الدنيا وشئونها، وتدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه، وهذه الأشعار وإن قلد أكثرها فقد أحكم تقليدها، حتى ليدلنا تقليدها على منهاج أصلها.
كذلك أدخلوا على اللغة العربية ألفاظا وتراكيب لم تكن تعرفها العرب، فهم يذكرون أن أمية بن أبي الصلت علم العرب (باسمك اللهم)، وقس أول من قال: (أما بعد)؛ وكان أمية يستعمل في شعره ألفاظا مجهولة لا تعرفها العرب، كان يأخذها من الكتب القديمة، فمنها قوله: «قمر وساهور يسل ويغمد»، وكان يسمي الله «السلطيط»، وسماه في موضع آخر «التغرور» ... إلخ.
كانت النصرانية - فوق هذا - من قبل دخولها جزيرة العرب تحمل في ثناياها شيئا من الثقافة اليونانية كما هو الشأن في اليهودية، فإنها إحدى الديانات التي ولدت في الشرق، وانتشرت في الإمبراطورية الرومانية - معهد الثقافة اليونانية - وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وفي العصور المسيحية الأولى كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين؛ لأنهم رأوا من الضروري أن يؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، فلجئوا إلى الفلسفة يستمدون منها التعليل والبرهان، فتسربت إلى النصرانية فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وقد امتاز الشرق بأن أنشئت فيه مدارس لاهوتية متأثرة بالفلسفة اليونانية تقليدا للأكاديميات اليونانية، وأشهر ذلك مدرسة الإسكندرية التي كانت في بدء القرن الثالث للميلاد، وأنشأ ملكيون سنة 270م مدرسة في أنطاكية، وأنشئت في نصيبين مدرسة أخرى سنة 297م وهذه كانت تعلم السريانية واليونانية معا.
وكان النساطرة على الأخص أكثر إلماما بعلوم اليونان، وقد ترجموا كثيرا من الكتب اللاهوتية والفلسفية عن اليونانية، كما اشتهروا بالطب والعلوم الطبيعية، وكان من رجال الدين النساطرة أطباء في بلاد فارس، ومنهم كثيرون انتشروا في الحيرة، ولعل هذا هو السبب في أنه بعد ضعف شأن الحيرة وانتشار الإسلام في هذه البقاع كان أول حامل للواء العلم في الإسلام «البصرة والكوفة» لجوارهما الحيرة، وكان أول كتب استخدمت لبث الثقافة اليونانية هي المكتوبة باللغة السريانية والتي خلفتها هذه المدارس النسطورية، وعلى العموم فقد كان هؤلاء النساطرة هم الصلة بين اليونان والعرب. •••
هذه الأمور الثلاثة: التجارة، والإمارات على التخوم، واليهودية والنصرانية؛ كانت وسائل لتسرب المدنيات المجاورة إلى العرب ونفوذ ثقافتها إليهم؛ قال الهمداني في كتابه «الوشي المرقوم»: «لم يصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا من العرب (كذا)؛ وذلك لأن من سكن مكة أحاط بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير وسيرها في البلاد، وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان، ومن وقع بالبحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند وفارس، ومن سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعا؛ لأنه كان في ظل الملوك السيارة»، ولكن لم تكن معرفتهم بذلك معرفة وافرة، إنما كانت تتسرب هذه المدنيات من مجرى ضيق، وقد ينال التحريف ما ينقلون من غيرهم، كالذي نراه في بعض أمثال العرب المنقولة عن أمثال سليمان، وفي بعض القصص المنقولة عن الفرس والروم، فلم يكن العرب يأخذون ممن حولهم علما منظما كما نأخذ نحن من المدنية الغربية ؛ لأن هناك عوائق كانت تحول دون ذلك؛ منها: الحوائل الطبيعية بين العرب وغيرهم من بحار وجبال وصحراوات؛ ومنها: البعد الكبير بين العرب والفرس والروم من حيث الحالة الاجتماعية والدرجة العقلية؛ وأكثر ما يكون اقتباس الحضارة والمدنية إذا تقاربت العقليتان؛ ومنها: انتشار الأمية بين العرب إذ ذاك، حتى ندر أن تجد فيهم القارئ الكاتب، إنما كان المخالطون للفرس والروم ينقلون حكما أو قصصا أو أمثالا أو حوادث تاريخية مما يخف حمله على الناقل، ومما يستطيع البدوي ومن في حكمه أن يهضمه.
ولعله ظهر لك مما ذكرنا أنه قد كانت هناك صلة بين العرب وغيرهم من الأمم أثرت في حياتهم المادية والأدبية، وهو ما أردنا إثباته.
الفصل الثالث
طبيعة العقلية العربية
تختلف الشعوب عقليا ونفسيا اختلافا كبيرا، فعقلية الإنجليزي غير عقلية الفرنسي، وهما غير عقلية المصري؛ وهكذا، وهذه العقليات والنفسيات تختلف تبعا لاختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تحيط بالأمة، فالشعوب تقف في العالم على درجات متسلسلة الرقي، وكل درجة لها مميزاتها العقلية والنفسية.
Неизвестная страница