وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا وخلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل وضحك وبذل من غير مسألة، على حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنا قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشرك»
8
وهذه القصة إن صحت دلتنا على قدر من الحضارة والترف - عند الغسانيين - غير يسير. •••
وهنا يستوقف نظرنا شيء يظهر لنا غريبا: ذلك أنا نرى اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام عمروا قرونا، وبلغوا من المدنية شأوا بعيدا - إذا قيس بحالة العرب في الجزيرة - وكان منهم من يخالط الفرس والروم ويتكلم بلغتهم، ودينهم كان أرقى على العموم من دين غيرهم من العرب، فهم إما نصارى أو مجوس؛ وهذا كله كان داعيا إلى خصب الذهن وتفتق القريحة بالشعر، وكان من المعقول أن تخرج بلادهم فحولا من الشعراء يفتحون فيه أبوابا جديدة، ومعاني جديدة، مع رشاقة في اللفظ تتناسب مع حياتهم الحضرية، ولكننا - على غير المعقول - لم نظفر منهم بشعر ذي خطر، فهم مثلا يحدثوننا عن عدي بن زيد الحيري، وهو شاعر ضعيف، كان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان فيه: «عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم: يعارضها ولا يجري معها»، وقل أن يحدثونا بعد عن شاعر فحل، وجامع «شعراء النصرانية في الجاهلية» مع تلمسه كل وسيلة لعد الشاعر نصرانيا والإشادة بذكر كل شاعر نصراني ، لم يذكر لنا شيئا عن غسان، ولم يحدثنا عن شاعر واحد غساني، وكل الذي يرويه لنا الأدباء إنما هو رحلة شعراء من الجزيرة - كالنابغة والأعشى وحسان - إلى أمراء الحيرة وغسان، فما السر في هذا؟
قلبنا الأمر على وجوه مختلفة من النظر، فقلنا: لعل السر أن البادية هي منبع الشعر، وهي التي تحرك العربي وتغذي خياله، وتنطق لسانه، يشعر فيها باستقلاله وعظمته، لا ترهقه سلطة، ولا يقيده قانون، تنبسط أمامه رقعة الأرض فينعم بمنظرها، فيجيش صدره، وينطق بالشعر لسانه، فإذا تحضر ذل، وعقلت من لسانه قوانين المدنية وتقاليد الحضارة، وحرم منظر الصحراء الجميل، فحرم الشعر الجميل، لهذا لم يك للعراقي شعر قيم، ولا للغساني شعر ما، ولكن رأينا أن هذا التعليل غير صحيح، فما عهدنا أن الحضارة تميت الشعر، فحضارة الفرس والروم، وحضارة المسلمين في الدولة الأموية والعباسية لم تضيق خيالهم، ولم تعقل من لسانهم، والحضارة اليوم في أوروبا بعثت على الشعر، ولم تقف في وجهه! إنما كل ما يصح أن يقال: إن الحضارة تميت أنواعا من الشعر لا تعيش إلا في البادية، كما تحيا أنواعا من الشعر لا تعيش إلا في نعيم الحضر.
والتعليل الصحيح في نظرنا أن هؤلاء الحيريين والغسانيين كان فيهم شعراء، ولكن كانت لهم أيضا لغة خاصة بهم غير لغة قريش التي سادت الحجاز، ولم تستطع أن تسود الحيرة وغسان لبعد موطنها، ولأن الحيريين والغسانيين أرقى ممن حولهم من العرب، فأنفوا أن يخضعوا للسان غير لسانهم، وقد يستتبع ذلك أن تكون لهم في الشعر أوزان خاصة تتفق مع لغتهم وعقليتهم، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن بلغة قريش أهمل الرواة ما كان خارجا عن هذه اللغة وقواعدها وأوزانها.
ولا يطعن في هذا الرأي ما يروى من شعر لعدي بن زيد، وما يروى لنا من رحلة شعراء الجزيرة إلى الحيرة وغسان وتفاهمهم، فإن عدي بن زيد - كما يحدثنا الرواة - له نسب في عرب الجزيرة، ورحلة الشعراء ليست اعتراضا وجيها؛ لأنا نرى أن لغة الحيرة والغسانيين مع اختلافها عن لغة الحجاز قريبة منها لاتفاق الأصل الذي تفرعت عنه لغات العرب ولهجاتها؛ فليس ببعيد أن يكون للحيريين والغسانيين لغة خاصة وهم مع ذلك يستطيعون أن يفهموا لغة قريش إذا حدثوا بها.
ودليلنا على صحة هذا الرأي أن النسابين - كما ذكرنا - يذهبون إلى أن اللخميين والغسانيين من أصل يمني، وثقات المؤرخين قديما وحديثا يؤكدون أن لغة اليمن كانت غير لغة قريش؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون: «ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته، تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا، خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا، وليس هذا بصحيح؛ ولغة حمير مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها»
9 .
فلو جارينا النسابيين فيما قالوا في أصل لخم وغسان كان الأمر في اختلاف اللغتين واضحا، بل أكبر ظننا أن اللخميين والغسانيين كانوا نبطا لا يمنيين ولا عربا خلصا، وأنه كان لهم شعرهم وآدابهم باللغة النبطية. (3)
Неизвестная страница