وهذا الخطاب الرئيسي الطويل الذي قام بإلقائه ذلك الحكيم يشغل الجانب الأكبر من المقال، كما أن الاتهام يشغل من الخطاب ما لا يقل عن الثلثين [أي بنسبة نحو عشر صفحات من الأربع عشرة صفحة التي يحتويها الخطاب]، على أنه لم يراع في ذلك الاتهام أي ترتيب منطقي في عناصره، بالرغم مما بذل من الجهد الظاهر في تنسيق أقوال ذلك الحكيم بوضعها على هيئة مقاطع مقفاة، وكل مقطوعة منها تبتدئ بنفس العبارة السابقة لها، على النمط الذي رأيناه في شعر الرجل التعس.
وسنحاول في الفقرات التالية أن نلخص أهم محتويات ذلك الاتهام على أساس المواضيع التي تناولها، كما أننا سنورد بعض العبارات بنصها ليتبين منها نوع الكلام الذي أفضى به ذلك الحكيم. ولما كانت هذه البردية ممزقة، ولغتها عويصة صعبة، فإن ترجمتها ترجمة متصلة من الأمور المستحيلة، حتى ولو توافرت الشروح التي تكفل إزالة هذه الصعوبة.
9
يبدأ ذلك الحكيم بإلقاء نظرة ثاقبة على نظم الحياة لأهالي وادي النيل في ذاك الوقت، فيجد أن كل شيء قد آل إلى الفوضى، فالحكومة قد وقفت حركتها تقريبا، «وقوانين قاعة العدل قد ألقي بها ظهريا، فصارت تدوسها الناس بالأقدام في المحال العامة، والفقراء يفضونها على قارعة الطريق.»
10
ويرجع السبب في سوء النظام هذا إلى حالة الهياج والحروب الدائرة في داخل البلاد: «فالرجل يضرب أخاه من أمه، فما العمل في ذلك؟ ... انظر فإن الرجل يذبح وهو بجانب أخيه، في حين أن أخاه يتركه حتى ينجو هو بنفسه ... والرجل ينظر لابنه نظرته إلى عدوه ... ويذهب الرجل إلى الحرث والزرع وهو مسلح بدرعه ...»
ويضاف إلى سوء النظام وإلى الثورة الداخلية أهوال الغارات الأجنبية على البلاد، فإن أملاك مصر بعد أن صارت فريسة لسوء النظام والفتنة الضاربة أطنابها بالبلاد قد صار رجالها أيضا غير قادرين على صد غزوات الآسيويين عن حدود شرق الدلتا، وحاق الهلاك بالأملاك المصرية ووقف سيل الحركة الاقتصادية: «انظر، فإن كل أصحاب الحرف لا يقومون بأي عمل قط، وأعداء البلاد يفقرونها في حرفها، [انظر، إن الذي يحصد] المحصول لا يعرف عنه شيئا، ومن لم يحرث الأرض [يملأ أهراءه ] ... انظر، إن الماشية قد تركت ضالة في السبيل، ولا يوجد أحد يجمعها ويلم شتاتها، فكل إنسان يأخذ لنفسه منها ما يسمه (يعني بالكي) ... والحروب الداخلية لا تأتي بضريبة ... وما فائدة بيت المال الذي لا دخل له؟»
والتجارة الخارجية تنحط وتختفي في مثل تلك الأحوال التي كانت عليها داخلية البلاد «فأصبح القوم لا يقلعون بسفنهم شمالا إلى «جبيل»،
11
وإذن ماذا نصنع للحصول على خشب الأرز اللازم لمومياتنا، وهو الذي من خراجه تدفن الكهنة، ومن زيته تحنط الأمراء حتى بلاد «كريت»، وقد أصبحت (يعني الأخشاب) لا ترد؟»
Неизвестная страница