وكذلك (دهم) من لم يكن لديهم شيء من ذلك.
ومن ثم حذر الرجل الغني بما يأتي:
اذكر أنت اليوم
حينما تجر (في الزحافة الجنازية)
إلى أرض ...
فاتبع رغباتك كلها
فلا يوجد إنسان يعود ثانية.
فالمغني الذي يرتل هذه الأنشودة الثانية لا يجد أملا في التفكير في الموت ومصيره. غير أنه يرى من الخير أن يترك الإنسان وراءه سمعة حسنة دائمة، لا لأن ذلك ينفعه حتما في عالم الآخرة، بل لكي تبقى ذكراه في الدنيا على الألسنة وفي أذهان من يأتون بعده. والواقع أن واجب الإنسان من جهة الحياة الخلقية التي فرضها الإله العظيم الذي ستأتي محاسبته للبشر فيما بعد، وكذلك الفوائد التي يجنيها الفرد من دنيا الأموات، وهي التي تأتي بطبيعة الحال بنتيجة للقيام بهذا الواجب، لم يرد لها ذكر في هذه الأغنية التي تتمثل فيها عقيدة التشكك؛ فهي تتجاهل الآلهة بوجه عام، والإله الواحد الذي تذكره هو إله الشمس «رع» أو «آتوم»، وهو الذي يظهر حتى في مناسبة ذكر المومية حيث كنا ننتظر في ذلك ذكر الإله «أوزير». وعلى ذلك يمكن تلخيص تعليم طائفة المتشككين هؤلاء الذين ألقوا تعاليم آبائهم ظهريا في أنها إشباع الرغبات النفسية وحسن الأحدوثة بعد الموت.
ولا نزاع في أن بداية التفكير الأخلاقي يرجع تاريخها إلى عهد المسرحية المنفية، غير أن المصريين الأقدمين لم يصلوا إلى الاستقلال النفسي الذي مكنهم لأول مرة من تصور المجتمع البشري في كليته، حتى صار بذلك في أنظارهم مملكة يمكن تأملها بإنعام وتدبر، إلا بعد عصر تاريخ تلك المسرحية بنحو 1500 سنة ق.م؛ أي في العهد الإقطاعي، وبخاصة بعد سنة 2000ق.م. وقد كانت نتيجة مثل هذا التأمل عند بعض الناس أنهم وقعوا في حالة تشاؤم فظيع. ألم تكن أخلاق المجتمع قد بلغت من الظلم درجة أصبحت معها الرغبة في «السمعة الحسنة» أقل مما تصوره مغني أنشودة الضارب على العود؟ وماذا يجني الإنسان من ذلك لو أن سمعته الحسنة ضاعت ظلما من غير جرم جناه؟ أو لو أن فرص تمتعه بالملاذ قد قطعت بالمرض أو سوء الحظ؟ والحقيقة أن هذا الموقف بذاته هو الذي مثل أمامنا في ورقة محفوظة الآن بمتحف برلين، ربما كانت أهم وثيقة وصلت إلينا من ذلك العهد السحيق. ويمكننا أن نسميها «محاورة بين إنسان يائس سئم الحياة وبين روحه»؛ لأن عنوانها القديم مفقود. وموضوع هذه المحاورة العام هو اليأس المستحكم الذي نتج من مثل الحالة السالفة الذكر، فأفضى الشعور به إلى أن الموت هو الخلاص الوحيد من الحياة. وغني عن البيان أن اختيار مثل هذا الموضوع في مثل ذلك العهد السحيق هو أمر من أعجب الأمور؛ إذ هو في الواقع موضوع يصف الحالة العقلية والتجارب الباطنة لنفس معذبة تتألم مما حاق بها من الظلم وسوء الطالع، وبذلك يعد هذا الموضوع أقدم قطعة أدبية تناول موضوعها الخبرة الروحية، وهي في نظرنا تعد أقدم مقال يمثل لنا صورة مما ورد في سفر نبي الله «أيوب» - عليه السلام. وقد كتب المقال طبعا قبل أن تظهر التجربة المماثلة الحاوية لمثل هذا الشعور في شعر مماثل بين العبرانيين بنحو ألف وخمسمائة سنة.
ومن المؤسف أن المقدمة التي تقص علينا الأحوال التي دعت إلى ذلك الاضطراب الروحاني قد فقدت، ومع أنه بذلك تنقصنا مقدمة الكتاب فإن بعض الحقائق التي كانت تحتويها تلك المقدمة حتما، وتضع أمامنا الأسباب التي أدت إلى تلك المحاورات التي يقدمها ذلك الكتاب، يمكن استنباطها من تلك المحاورات ذاتها. والبائس الذي نحن بصدده (لأننا لم نعرف له اسما) كان رجلا لطيف الروح، ولكنه بالرغم من ذلك قد دهمه الحظ العاثر من كل ناحية، فما كاد يصيبه المرض حتى ابتعد عنه أصدقاؤه حتى إخوته الذين كان من الواجب عليهم القيام بمواساته في مرضه، وبالجملة لم يجد خلا وفيا، وفي وسط تلك المصائب سرق جيرانه متاعه أيضا، وما عمله من صالح بالأمس قد نسي. وبالرغم من أنه كان صاحب حكمة فإنه كان يصد كلما أراد أن يدافع عن حقه، وقد حكم عليه ظلما، واسمه الذي كان يجب أن يكون محل احترام صار نتنا في أنوف الناس.
Неизвестная страница