وهذه النقوش التي نشاهدها على مقابر «منف» تمثل حياة نحو 500 سنة؛ أي من 3000ق.م إلى 2500ق.م أو بعد ذلك، وهي تؤلف أول مظهر معبر عن حياة الأسرة بقي لنا من العالم القديم. وكان الاعتبار الأول في اهتمامنا بتلك الرسوم حتى الآن أنها آثار فنية، ومصادر نستقي منها معلوماتنا عن حياة المصريين الأقدمين في الزراعة والرعاية والصناعة، ثم إلى حد ما عن الحياة الاجتماعية عندهم. على أن العلاقات الأسرية المرحة المنطوية على الود، التي تنطق بها تلك النقوش تعد كشفا جديدا ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق؛ وذلك لأن هذه الصورة، مضافا إليها النقوش المدونة فوق جدران القبور، مع حكم «بتاح حتب» التي سنرود مجاهلها بعد، تقدم لنا برهانا تاريخيا قاطعا على أن الإدراك الخلقي نبتت جذوره من حياة الأسرة.
ومن ذلك يتضح أنه هنا، في المصادر المصرية التي يرجع عهدها إلى النصف الأول من الألف الثالث لما قبل الميلاد، نجد مجموعة من الأدلة تظهر لنا تاريخيا لأول مرة ما وصل إليه علماء النفس الاجتماعيون المحدثون من ملاحظاتهم عن حياة الإنسان كما نجده في عصرنا الحاضر. وإني أشير بذلك إلى ما وصلوا إليه من «أن الوازع الخلقي في حياة الإنسان نبت من المؤثرات التي تعمل في العلاقات الأسرية.» وفي ذلك يقول مكدوجال:
4 «فمن هذه العاطفة (أي حنان الوالدين)، ومن الدافع الذي يحدو بها إلى الحب والرعاية، ينشأ الكرم والاعتراف بالجميل والحب والشفقة وحب الخير الحقيقي وكل أنواع الخلق المجردة عن الأنانية، ففي تلك العاطفة تنبت الجذور الرئيسية لكل تلك الصفات التي لولا هذه العاطفة ما وجدت قط.» ويشير «مكدوجال» وهو يناقش التطور الذي تمر به مثل تلك العواطف إلى الحقيقة القائلة: «إن كل غلطة ترتكب ضد الطفل الذي يعد موضع حنان والديه يكون من نتائجها المحتومة إثارة الغضب والحقد.» ثم يستمر فيقول: «وهذه الرابطة الوثيقة بين عاطفتي الحنان والغضب تعد من الأهمية بمكان في حياة الإنسان الاجتماعية، ويعد فهمها على حقيقتها أمرا أساسيا لتكوين نظرية صحيحة عن العواطف الخلقية؛ وذلك لأن الغضب الذي يثار بتلك الكيفية هو جرثومة كل سخط خلقي. وعلى السخط الخلقي بنيت بصفة عامة أركان العدالة، والجزء الأكبر من القوانين العامة؛ ولذلك يتضح بالرغم مما قد يظهر من تضارب، أن كلا من الرأفة والعقاب تضرب بوشائجها العريقة في الغريزة الأبوية.»
وعلى ذلك نجد أن كلا من آثار مقابر عصر الأهرام و«حكم بتاح حتب» التي سنأتي على ذكرها، بالرغم من أنهما لا يمثلان إلا مرحلة ثانوية في التطور الخلقي عند الإنسان في العالم القديم، يلقيان بالبديهة ضوءا مفيدا على المرحلة الأولى التي سبقت عصرهما من التقدم الإنساني من تلك الوجوه، وذلك حينما نلاحظ أن تلك المصادر تمثل لنا صورة حقة عن عواطف المحبة في حياة الأسرة من جهة علاقتها الوثيقة بالشعور الأخلاقي، وأن معلوماتنا عن الحياة البشرية البدائية نجدها اليوم لها أهمية عظيمة جدا من هذه الناحية بالذات. وقد لخص «وستر مارك» بدقة ملاحظات علماء الجنس البشري عند فحص ما بقي لنا من الحياة الفطرية في قوله: «توجد حقائق كثيرة جدا يمكن في الواقع اقتباسها للدلالة على أن حنان الوالدين لم يكن نتيجة من نتائج المدنية الحديثة، بل هو ظاهرة طبيعية للعقل البشري المتوحش كما هو معروف لنا.»
5
فمنذ العصور المتوغلة في القدم كانت مثل تلك المشاعر موجودة بلا أقل شك، وذلك وقت أن كان نضوب المياه في هضبة شمال أفريقيا يضطر الصيادين المتوحشين إلى النزول إلى وادي النيل، وكانت تلك المشاعر تنمو في ظلال فترة ذلك التطور التاريخي الذي انتهى بالاتحاد الأول للبلاد الذي لم يتجاوز عمره سنة 4000ق.م. وبعد ذلك التاريخ بخمسمائة سنة؛ أي في القرن الخامس والثلاثين ق.م ظهرت أمامنا أقدم الحقائق المدونة؛ ونعني بذلك المسرحية المنفية، وبعد سنة 3000ق.م كشفت لنا جبانة «منف» وحكمة «بتاح حتب» عن مرحلة أكثر تقدما من سابقتها في حياة الإنسان الخلقية التي كان يتسع مجالها باطراد.
وعلى ذلك فإننا نتناول في مصادر الدولة القديمة أقدم طائفة من البيانات التي تكشف لنا تاريخيا أن آراء الإنسان الخلقية هي من ثمرات معالجته للشئون الاجتماعية، وتكون جزءا من التطور الاجتماعي. وهذا الاستنتاج التاريخي يتفق تمام الاتفاق مع الملاحظات الاجتماعية الحديثة، كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بالنسبة للأسرة. وقد أصاب «جرين»
6
حيث قال: «إنه لا يمكن لإنسان ما أن يكون لنفسه ضميرا، وإنه يحتاج دائما إلى الجماعة لتكونه له.»
فنحن إذن نرقب في هذا العصر العتيق النواحي الراقية لمنهاج في التطور لا يمكن أن نلاحظ مثله في أي عهد آخر قديم من تاريخ حياة الإنسان بأية جهة أخرى، ونتأمل ظهور شعور بالمسئولية الخلقية في الوقت الذي كانت فيه تلك المسئولية قد بدأت تأخذ تدريجا شكل قوة وازعة متزايدة تسيطر على سلوك الإنسان، وهو تطول يسير متجها نحو توطيد مكانة «الضمير» حتى يصير قوة اجتماعية ذات نفوذ في حياة البشر أجمعين.
Неизвестная страница