وتوجد هذه المتون منقوشة في خمسة من أهرام سقارة التي كانت تعد جبانة «منف» القديمة،
1
وقد قام بوضعها هنالك طائفة من الفراعنة وهم: الملك الأخير في الأسرة الخامسة، ثم الملوك الأربعة الأول الذين خلفوه في الأسرة السادسة. وقد حكموا حسب ترتيبهم المذكور مدة تقرب من قرن ونصف قرن تبتدئ حوالي 2625ق.م وتنتهي حوالي سنة 2475ق.م؛ أي إنهم حكموا طوال القرن السادس والعشرين، وعلى الأرجح ربع قرن قبل هذا التاريخ أيضا، وربع قرن آخر بعده.
غير أنه يظهر لنا أن محتويات هذه المتون تشتمل على مادة أقدم من عصر النسخ التي وصلت إلينا، وتشير النسخ الخمس التي بأيدينا إلى مادة كانت موجودة فيما مضى، ثم اختفت بعد، فإنك تقرأ فيها عن «فصل أولئك الذين يصعدون» و«الفصل الخاص بأولئك الذين يرفعون أنفسهم». وذلك يدل على أن هذين الفصلين كانا مستعملين قديما في مناسبات لحوادث مختلفة في أساطير ذلك العهد القومية، وبذلك يعتبر هذان الفصلان أقدم عهدا من متون الأهرام التي بأيدينا.
وكذلك توجد في هذه المتون إشارات إلى الخصومات التي كانت قائمة بين ملوك الشمال [الوجه البحري] وملوك الجنوب [الوجه القبلي] مما يدل على أنها كتبت قبل عهد الاتحاد الثاني؛ أي قبل القرن الرابع والثلاثين ق.م. هذا إلى فقرات أخرى يرجع تاريخ عهدها إلى باكورة عهد الاتحاد الثاني؛ أي في الوقت الذي كانت فيه تلك الخصومات ما زالت مستمرة، وكان فيه ملوك الجنوب بالرغم من تلك الخصومات قابضين على زمام الحكم في الشمال ومحافظين على وحدة الدولة، وقد كتبت كل هذه الفقرات بوجهة نظر أهل الجنوب.
على أننا نرى من ناحية أخرى أن بعض متون الأهرام قد ألفت في زمان متأخر معاصر لنفس الدولة القديمة، مثل الصيغ التي وضعت لحماية الهرم، والتي لم تكن بطبيعة الحال أقدم من ظهور الشكل الهرمي في القرن الثلاثين ق.م. وظهر كذلك في خلال مدة القرن ونصف القرن المذكورة التي كتبت في أزمنتها نسخ متون الأهرام الخمسة اختلاف بين بعض النسخ وبعضها الآخر؛ فإن لدينا حججا قاطعة تدل على إدخال تنقيح ظاهر على النسخ المتأخرة العهد منها ليس له نظير في النسخ القديمة، وذلك يدل أيضا على أن مراحل التفكير ونمو العادة والاعتقادات التي أخرجت هذه المتون إلى حيز الوجود كانت لا تزال مستمرة في تطورها حتى ظهرت النسخة الأخيرة منها في باكورة القرن الخامس والعشرين ق.م. لذلك تمثل لنا هذه المتون حال عصر لا يقل عن ألف سنة ، ولا يعزب عن الذهن أن ألف السنة هذه كانت قد انتهت بالنسبة إلينا من نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة. والواقع أن مثل هذا القدر العظيم من الوثائق الباقية لنا عن العالم القديم ليس له مثيل في أي مكان آخر من العالم، وهذه المتون تؤلف خزانة من التجاريب التي كانت تدور في حياة الإنسان القديم، ومعظمها مما لا يزال ينتظر دوره تحت محك الدرس والبحث.
ولقد كانت الغاية المطلوبة من متون الأهرام على وجه عام هي ضمان السعادة للملك في الحياة الآخرة، لكنها مع ذلك تصور لنا دائما جزر الحياة المحيطة بها ومدها، شأنها في ذلك شأن كل أدب قومي، فإنها تنطق بعبارات تدل على خبرة القوم الذين أخرجوها، وهذه العبارات تتناول الحياة القومية في القصور والطرق والأسواق، وبعضها عبارات أنشأتها العزلة والعكوف في المعابد المقدسة. وإن صاحب الخيال السريع ليجد في هذه العبارات صورا كثيرة عن ذلك العالم الذي تقادمت عليه الدهور وبقيت هي مرآته.
ومع أن هذه الصور تهتم بوجه خاص بذكر أحوال «الملك» فإنها لم توصد في وجوهنا باب العالم المحيط بها؛ فمثلا عندما تعبر عن سعادة الملك في الحياة الآخرة تقول: «هذا الذي سمعته في البيوت وتعلمته في الطرقات في هذا اليوم الذي طلب فيه الملك بيبي للحياة.» ومنها نلتقط لمحات عاجلة عن تلك الحياة في البيوت وفي الطرقات التي مضى عليها خمسة آلاف سنة: «فالخطاطيف تشقشق على الجدار، والراعي يعبر الترعة خائضا في الماء حتى الحزام حاملا عبر الماء رضيع قطيعه الضعيف، والأم تدلل رضيعها عند الغسق، ويشاهد الصقر عند الغروب مخترقا السماء، وتشاهد البطة البرية مخلصة قدميها فارة من يد الصياد الذي فشل في اقتناصها في المستنقع، وعابر الماء واقف عند زورق العبور ولا مال معه يقدمه للنوتي مقابل مقعد في الزورق المزدحم بالمسافرين، ولكن يسمح له أخيرا بالنزول إلى الزورق على أن يعمل مقابل نقله في نزح الماء من الزورق المثقوب، ويشاهد الشريف جالسا عند حافة بركته في حديقته تحت ظلال الخميلة المصنوعة من سيقان الغاب.»
وهذه الصور وكثير غيرها هي مما تزخر به الحياة الدنيوية لغمار سكان وادي النيل، أما الحياة في القصور فقد انعكست صورتها في تلك المتون بشكل أتم وأبهج من حياة العالم الخارجية عنها وعما يحيط بها، فإن الملك يشاهد في بعض الأوقات مثقلا بأعباء مهام الدولة، وبجانبه أمين سره يحمل محبرة وقلمين أحدهما للمداد الأسود والآخر للمداد الأحمر لكتابة العناوين، وكذلك نراه في أوقات فراغه متكئا بدون كلفة على كتف صديقه الحميم أو مستشاره، أو يشاهدان وهما يستحمان معا في بركة القصر والحاجب الملكي يقترب حتى يجفف جسميهما. وكثيرا ما يشاهد على رأس موكب باهر مخترقا طرق مدينته يتقدمه السعاة والمقدمون مفسحين أمامه الطريق، وعندما يعبر إلى الشاطئ الثاني وينزل من الزورق الملكي الوهاج يشاهد عامة الشعب ملقين أحذيتهم وملابسهم راقصين أمامه رافعين أصواتهم بتهليلات الفرح عند رؤيتهم طلعته، أو يرى عند باب قصره وقد أحاطت به فخامة البلاط وبهاؤه، أو يشاهد مرتقيا عرشه العظيم المزين برءوس الأسود وحوافر الثيران، وفي ذلك تقول المتون:
يشاهد الملك في قاعة قصره وهو جالس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده ليقفوا أمام هذا الملك، ثم ينزل يده مشيرا نحوهم فيجلسون ثانية.
Неизвестная страница