ويجب علينا أن نعتبر تحذيرات «إبور» وتنبؤات «نفرروهو» وقصة «الفلاح الفصيح» أمثلة رائعة للقيام بمثل تلك الجهود، وأن كتاباتهم هي الأسلحة التي استعملتها أقدم طائفة قامت بالجهاد في سبيل الإصلاح الخلقي والاجتماعي.
والواقع أن منتهى ما كان يرغب في الوصول إليه رجل مثل «إبور» يتمثل في خطاب العرش الذي ألقاه الملك عند تنصيب رئيس وزرائه، فإن الملك الذي في قدرته أن يلقي خطابا كهذا يقرب في سموه من ذلك الملك الأمثل الذي كان يحلم بظهوره «إبور»، ومن الملك الذي اعتقد «نفرروهو» أنه قد عثر عليه، ولدينا ما يحملنا من جهة أخرى على الاعتقاد أن «أميني» الذي كان أميرا لمقاطعة «بني حسن» يمثل تمثيلا صادقا جيل الموظفين الجدد العدول الذين كان يأمل مؤلف قصة «الفلاح الفصيح» أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة في مصر.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مجرد استحسان الأسرة لسلوك الفرد لم يعد بعد كافيا في ذاته؛ فقد أتى عصر التفكير بمثل عليا للسلوك الشخصي يرتبط أمرها بطبقات بأسرها من المجتمع، فصار السلوك عرضة لحكم المجتمع عليه، وهذا الحكم الاجتماعي قد وضع الآن في فم إله الشمس، فقد قال الفلاح الفصيح لمدير البيت العظيم: «أقم العدل لرب العدل.» وكذلك أشار في كلامه إلى «هذه الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه وهي تكلم الصدق وافعل الصدق.» وفيها - كما نذكر - أن «الصدق» معناه كذلك الحق والعدالة «ماعت».
كذلك رأينا في أوامر الملك للوزير الأعظم أن ذلك المنهاج الخاص بالشفقة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية، وهو الذي يفضل فيه الملك الرجل الضعيف ومن لا ناصر له على الرجل القوي المستكبر، كان يرمي بوضوح إلى غرض ديني ينسب إلى الإله، فيقول الملك في ذلك: «إنها لعنة من الإله أن يظهر الإنسان تحيزا.» فنرى من ذلك أن آراء العدالة الاجتماعية عندما وجدت منفذا عمليا لظهورها أولا في الملكية المثلى، ثم بعد ذلك في أخلاق الفرد المكلف بإقامتها، انعكست صورتها على أخلاق إله الشمس ونشاطه، وهو الملك الأمثل؛ أي إن وجوب المحافظة على العدالة الاجتماعية التي أخذ الناس يشعرون به في قرارة أنفسهم قد صار أمرا إلهيا، واعتقدوا في الحال أن مقت أنفسهم للظلم هو نفس مقت الإله للظلم، وبذلك صارت مثلهم العليا في الأخلاق هي كذلك مثل الإله، فاكتسبت بهذا المظهر الجديد قوة مسيطرة جديدة.
وبذلك كان من السهل الاعتقاد - زيادة على ما ذكر - بأن العدالة هي القانون التقليدي لوظيفة الوزير منذ الزمن الذي كان يحكم فيه إله الشمس مصر، وكذلك حكم الفرعون الذي جرى وراثيا مدة ألفي سنة منذ تأسيس الاتحاد الأول، وكان المفروض فيه أنه كان استمرارا لسريان دم «رع» وسلالته، كان كذلك استمرارا لإقامة نظام العدل القديم الذي أقامه إله الشمس على الأرض. وقد ألقى الملك أمره بكل وضوح على الوزير، غير أنه لم يتردد في الوقت نفسه في الالتجاء إلى المحكمة العليا، فكان على الوزير أن يقيم العدل؛ لأن الإله الأعظم الذي يشرف على الدولة يمقت الظلم، وليس ذلك اتباعا لأمر الملك فقط.
ثم إنه بعد انقضاء حوالي اثني عشر أو ثلاثة عشر قرنا من الزمان على ذلك العصر نجد أن أنبياء بني إسرائيل يعلنون بقوة سيادة «يهوه» الخلقية على سيادة الملك عندهم. ولكن كم كان عدد الأجيال التي لا بد أنهم سلخوها في خدمة الدين بغير فائدة ظاهرة قبل أن يتغلب صراع الأنبياء هذا ويحرز النصر حتى عبر عن روح الحكومة العبرانية، وإن كان ذلك التعبير فيها أقل بكثير عما عبر به الملوك في العصر الإقطاعي عند قدماء المصريين، مع أننا لم نعتد ربط مثل تلك المبادئ الحكومية بالشرق القديم، بل ولا بالشرق الحديث.
ويرجع تأثير تلك المثل العالية للعدالة الاجتماعية التي وجدت سبيلها إلى الحكومة بدرجة عظيمة، إلى الشكل الذي انتشرت به بين كل طبقات الشعب؛ فإن مثل تلك العقائد لو كانت أعلنت بين القوم في شكل مبادئ مجردة لما لفتت إليها الأفكار ولما أحدثت إلا تأثيرا قليلا، بل ربما لم تحدث أي تأثير مطلقا، فإن المصري كان يفكر دائما في الأشياء المعينة والصور المجسمة؛ فهو مثلا لا يفكر في السرقة بل يفكر في السارق نفسه، ولا يفكر في الحب بل في المحب، ولا يفكر في الفقر بل في الرجل الفقير وهلم جرا؛ ولذلك لم ير الفساد الاجتماعي بل شاهد المجتمع الفاسد. ولهذا كان الوزير «بتاح حتب»، وهو رجل يقوم بأعباء الوظيفة بإيمان سليم في قيمة السلوك الحق والإدارة الحقة ليخلق بذلك السعادة، وسلم إرث تلك التجربة إلى ابنه، وكذلك «الرجل التعس» كان رجلا حل به الظلم الاجتماعي فعبر عنه في صورة روح يائسة تعبر عن يأسه وأسبابه، وكذلك أيضا كان «إبور» رجلا تسكن في نفسه الرؤية التي أدركت كلا من الفساد الفتاك بالمجتمع والحلم الذهبي بظهور الملك الأمثل الذي يصلح كل شيء، وكذلك أيضا كان «الفلاح الفصيح» رجلا يتألم من اضطهاد الموظفين له ويصرخ بأعلى صوته مستغيثا من ذلك، وكذلك أيضا كانت أوامر «أمنمحات» صيغت في قالب ملك يتألم من الخيانة المخزية التي حدثت له وجعلته يفقد كل ثقة بالناس؛ فألقى تجاريبه تلك إلى ابنه.
فكانت النتيجة اللازمة لذلك أن تلك العقائد التي تعزى إلى أولئك المفكرين الاجتماعيين قد وضعت في شكل تمثيلي، وأن العقائد نفسها قد عبر عنها في هيئة محاورات نشأت عن تجارب وحوادث مثلت كأنها حقائق واقعية.
وإننا نكرر هنا أن مثل تلك التعاليم كانت بلا شك تلاقي في الشرق، بل ما زالت تلاقي في كل بقاع العالم، أعظم الإقبال والانتشار بوضعها في تلك الصور، وهي الصور التي صورت بها بكل بساطة مشكلة الألم الإنساني التي مثلت لنا بشكل بارز في قصة «أيوب» - عليه السلام؛ كما أن قصة «إحقار» التي كشف حديثا عن أصلها الآرامي القديم تعد بلا شك مقالا معبرا عن غباوة جحود الجميل ونكرانه، وقد صيغت في نفس ذلك الطراز، في حين أن أمثال «عيسى» - عليه السلام - وهي أجمل تلك القصص جميعا، تتبع في تصويرها نفس الطريقة والصورة اللتين كانتا شائعتين في الشرق مدة أزمان مضت. و«أفلاطون» عندما أراد أن يتحدث عن خلود الروح اتخذ من موت «سقراط» موضوعا مسرحيا عبر فيه عن العقائد التي أراد أن يضعها أمام الناس في تضاعيف محادثة جرت بين «سقراط» وصحبه .
5
Неизвестная страница