فأطرقت هيلين صامتة ولم تستطع أن تقول شيئا؛ لأنها وإن كانت من أشهى الأشياء إليها أن ترى ابنتها بعيدة عن بول في تلك الأيام، وأن تراها آخذة بحظها من تلك السعادة التي تنتظرها هناك، إلا أنها رحمتها وأشفقت عليها فلم تستطع أن تجادلها فيما تقول.
ثم قالت بعد قليل: إنني لا أحب أن أشق عليك يا بنيتي في شأن من شئونك الخاصة بك، فاختاري لنفسك الحياة التي تحبينها وتؤثرينها، غير أني أضرع إليك في أمر أرجو ألا يثقل عليك. قالت: وما هو؟ قالت: أن تكتمي سرك الذي تعالجينه بين جنبيك، فلا تبوحي به لأحد من الناس كائنا من كان حتى لبول نفسه، وأن تجعلي الفضيلة والطهارة والشرف والعفة رائدك في كل ما تقولين وما تفعلين، وأن تأخذي نفسك بالأناة والرفق في جميع خطواتك وتصرفاتك اتقاء العثرة والزلة، وأن تجعلي نصب عينيك دائما أن الرجل لا يحترم إلا المرأة التي تضن بنفسها عليه، ولا يحتقر مثل المرأة التي تبذل نفسها له، أي إنه يحب المرأة الفاضلة أكثر مما يحب المرأة الجميلة، بل لا يعرف للمرأة جمالا غير جمال الأدب والعفة، وإن زعم في نفسه غير ذلك. قالت: ذلك ما أعرفه يا أماه، ولا أعرف شيئا سواه.
وما أتى المساء حتى وفد إلى الكوخ كاهن الجزيرة، وهو رجل من أولئك الدهاة الماكرين الذين تستعين بهم الحكومات الاستعمارية على غزو القلوب الضعيفة وحيازتها بلا سفك دم، ولا إنفاق مال، والذين يكونون دائما في حاشية حكام المستعمرات ليعينوهم على ما هم آخذون بسبيله من الفتح والغزو، وكان هذا الكاهن يختلف إلى هذه الأسرة من حين إلى حين ليرشدها ويباركها، فلما رأوه قادما إليهم ظنوا أنه إنما جاء لزيارتهم كعادته التي اعتادها، فأحسنوا استقباله وتحيته. ورأت هيلين أن تكاشفه بذلك الأمر الذي كان يشغلها، فكاشفته به، فلم يلبث أن قضى فيه قضاء مبرما، وأعلن أن الله يأمر هيلين بالبقاء في الجزيرة ويأمر فرجيني بالسفر إلى فرنسا، وأنهما إن لم تفعلا فقد خالفتا إرادة الله وباءتا بسخطه وغضبه. فذعرت فرجيني ذعرا شديدا، ولم تجد بدا من الخضوع والإذعان، فانصرف الكاهن عائدا إلى قصر الحاكم ليرفع إليه ما تم من الأمر على يده.
وما أصبح الصباح حتى علم سكان الجزيرة أن تلك الأسرة الفقيرة الخاملة التي تسكن ذلك الوادي المقفر الموحش قد أمطرتها السماء فضة وذهبا، فوفد إليه الوافدون من كل مكان ما بين مستمنح يطلب حاجة، ومستعين يطلب معونة، وتاجر يعرض سلعة، فأعطت السائل، وأعانت المسترفد، وابتاعت من الأنسجة والشفوف وصنوف الديباج والخز وأنواع الأثاث والرياش ما يزيد عن حاجتها، وما يضيق به كوخها، وخلع جميع أفرادها أسمالهم القديمة البالية وقمصهم البنغالية الخشنة، وارتدوا ملابس جديدة بديعة الشكل والهندام، ولبست فرجيني ثوبا حريريا أزرق مطرزا بالقصب، واعتصبت بعصابة وردية زاهية، ولصق ثوبها بجسمها فمثله تمثيلا بديعا، ووصفه وصفا دقيقا، وبول يرى كل هذا ولا يفهم منه شيئا؛ لأن أحدا منهم لم يجرؤ أن يكاشفه بالأمر إلا أن يظن ظنا، فعظم حزنه واكتئابه، وساورته الوساوس والهموم، فرحمته أمه مما به، وكانت تمسك في نفسها شيئا من العتب على صديقتها هيلين في رضاها بسفر ابنتها، وتضحيتها بابنها في سبيلها، فدعته إليها وخلت به وقالت له: لم تعلل نفسك يا بني بالآمال الكاذبة، والأماني الضائعة، ولم تتطلع إلى ما تقصر عنه يدك ويضيق به ذرعك؟ ولقد آن أن أكشف لك حقيقة أمرك الذي كتمته عنك زمنا طويلا لتعلم من أنت؟ ولتقدر آمالك على مقدار حقيقتك، لا على مقدار تصورك، فاعلم أن أمك امرأة فلاحة وضيعة لا حسب لها ولا نسب، وأن قدرا من الأقدار الجارية بين الناس قد نزل بها في صباها فحاد بها عن طريق الشرف والاستقامة، فحملت بك من سفاح، أي إنك لا أب لك يعرفه الناس ولا لقب لك غير لقب أمك، فلا تقس نفسك بفرجيني، فهي فتاة شريفة نبيلة من أسرة كريمة مشهورة، ولها عمة مثرية كانت قد أغفلت أمرها حقبة من الزمان لأمر ما ثم ذكرتها اليوم فأرسلت في طلبها لتعيش معها في باريس متمتعة بثروتها الطائلة، حتى إذا ذهبت لسبيلها ورثت عنها هذه الثروة من بعدها، فلا تطمع في أن تتصل بها يوما من الأيام إلا أن تكون فلتة من فلتات الدهر، أو أعجوبة من أعاجيب الأيام، وأرح نفسك من هموم الأماني ومتاعبها، والله أولى بك وبي من كل مخلوق.
واعلم يا بني أنني لم أقترف هذا الجرم الذي ذكرته لك وأنا أعلم أني آثمة أو مذنبة، ولكنه قضاء الله قد جرى بما لا حيلة لي ولا لأحد من الناس في أمره، فاغفر لي خطيئتي إن كنت ترى أنني مخطئة أو أنني الجالبة لك هذا الشقاء الذي تكابده في حياتك.
ثم أسلمت رأسها إلى ركبتيها وبكت بكاء طويلا.
فحنا عليها بول وطوق عنقها بيديه وقال لها: لا تبك يا أماه، فما أنت بائسة ولا شقية ما دمت معك، أما هفوتك التي تتحدثين عنها فما أحسب إلا أن الله قد غفر لك؛ لأنك قد كفرت عنها بدموعك وآلامك وشقائك الذي كابدته زمنا طويلا، وكوني على ثقة من أنك أجل في عيني وأكبر في نفسي من أن أعد عليك أمثال هذه الهفوات والعثرات، وأنني لا يعنيني أكان أبي معلوما أم مجهولا، شريفا أم وضيعا؛ لأنني ما فكرت يوما من الأيام أن أفخر به أو أعتمد في حياتي عليه، أما تلك التي حدثتني عنها فسأحمل نفسي على نسيانها وسلوتها، وأرجو أن يعينني الله على ذلك، ولقد شعرت قبل اليوم بانقباضها عني وتجهمها لي، ولا بد أن تكون قد وقفت من بضعة أشهر على هذا السر الذي أطلعتني عليه اليوم فازدرتني واحتقرتني، ونفضت يدها مني إلى الأبد، والأمر لله وحده.
ثم نهض قائما وقد ظن أنه قد شفي مما به، فتنفس نفس الراحة ومضى لسبيله.
غير أنه لم يبعد إلا قليلا حتى شعر بوخزة في قلبه، فلم يهتم بها، ثم تتابعت الوخزات، فخيل إليه أن قلبه يرفرف بين أضلاعه رفرفة الطائر بأجنحته، وأنه يحاول أن ينبعث من مكانه ويطير في أجواز الفضاء، فصرخ صرخة عظيمة وظل يهتف: آه يا فرجيني! آه يا فرجيني! حتى وصل إلى صخرة عالية على شاطئ البحر فتهافت عليها، وأسلم رأسه إلى ركبتيه، وذهبت به نفسه مذاهب لا يعلمها إلا الله.
وظل على ذلك ساعة حتى انحدر قرص الشمس إلى مغربه وبدأ كوكب الليل يخطر في جو السماء محفوفا بحاشية من سحبه وغيومه، فلا يكاد يلمحه اللامح من خلالها إلا كما يلمح وجه الحسناء من وراء خمارها، ثم أخذ يرسل أشعته الباهتة الخضراء على ما تحته من صخور وهضاب، ورمال وتلال، فأضاءتها وأضاءت فيما أضاءته ذلك الشبح الضئيل الجاثم على تلك الصخرة المنفردة.
Неизвестная страница