شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
Жанры
المجتهد
المجتهد: هو من استكمل رتبة الفقيه العالية - وهي الثانية- أي: أنه يملك القدرة على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذاهب الفقهاء، مع امتيازه -وهذا هو الفرق بينه وبين الفقيه- بملكةٍ فقه بها مفصل مقاصد الشريعة.
فهو لم يقتصر على مجرد القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء، بل ويعرف أيضًا جمهور أقوال الفقهاء، وكذلك يمتاز بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة؛ لأن أخص امتياز في الاجتهاد هو فقه مفصل مقاصد الشريعة، وليس فقط معرفة مجمل القواعد، مثل: اليقين لا يزول بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، فإن هذه -كمعلومات- جمل تحفظ في مجلس.
وهذا الفقه بمفصل مقاصد الشريعة يتحصل من سعة المجموع العلمي عنده، ومن نظره في سائر العلوم، ويتحصل بدرجة أخص من طبيعته التي خلقه الله عليها، فإن بعض الناس لا توجد عنده ملكة على فهم المقاصد، إنما هو حامل فقه، وليس بفقيه فيه، والفقيه في لسان الشارع هو صاحب الاجتهاد، قال ﵊: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)، فالفقيه هنا من يحمل الفقه، لكن إذا كان فقيهًا فيه سمي في الاصطلاح: مجتهدًا.
إذًا: المجتهد من استكمل رتبة الفقيه الثانية -العالية- مع امتيازه بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، وهذه الملكة تتحصل بالمجموع العلمي، وبالطبع الذي خلقه الله عليه من القدرة.
ومن المعلوم أن الصحابة تفاضلوا في فقههم وهم صحابة، فـ معاذ بن جبل كان فقيهًا في الحلال والحرام، وقد جاء عن النبي ﷺ ما يدل على امتياز معاذ في هذا الباب، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه حافظًا، لكنه لم يشتهر كاشتهار معاذ في الفقه، وابن مسعود ﵁ كان فقيهًا في القرآن، وقد كان ﵁ يقول -كما في الصحيح-: (لو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله أو قال: أفقه مني في كتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)، وهذا من الثقة التي وصل إليها ابن مسعود في إدراكه لفقه القرآن وسعة علمه بذلك ..
وهكذا غيرهم من الصحابة ﵃.
ومن هنا يتبين أن الاجتهاد ليس كلأً مباحًا، كل من تعلم شيئًا من العلم وأراد أن يكون مجتهدًا، أو دفعه الجمهور إلى الاجتهاد تحول إلى مجتهد، وهذه هي المشكلة الواقعة اليوم في الأمة، ليس في مصر معين فقط؛ بل في عامة الأمصار، وفي أبواب أيضًا مختلفة، وهذا أمر ينبغي أن يتفطن له طلبة العلم، فلا يتقدم طالب العلم أكثر من المرحلة التي وصل إليها.
فمثلًا: الناظر ليس هو الفقيه، والفقيه: هو الذي ينتصب للناس ليفتي في الحلال والحرام، والناظر ليس من حقه أن يفتي الناس ويجيب عن أسئلتهم وقضاياهم الدينية؛ لأن الإفتاء هو من اختصاص الفقيه، لكن ليس بالضرورة أنه هو الذي يفصل في النوازل، إنما يُسأل عن مسائل فقهية، فإن كان على مذهب معين أجاب بما قال فقهاء المذهب، وإن كان عالمًا بجميع المذاهب أجاب بما يراه، وهذا يسمى فقيهًا برتبتيه، أما الناظر فهو الذي ينظر في مسائل معينة، وقد يعطي حكمًا جيدًا فيها، كما يحصل من بعض الباحثين الذين لديهم تحصيل علمي متميز في بحث معين، فهذا يسمى ناظرًا، وله قدر من الاعتبار والاختصاص والامتياز كما هو الواقع اليوم.
إذًا: الاجتهاد ليس كلأً مباحًا لكل من رأى من نفسه القدرة العلمية، أو رأى ذلك له غيره، وبالمقابل فليس الاجتهاد نظرية مثالية متعالية، فأهل السنة والجماعة بل وجمهور المسلمين ليس عندهم مثاليات مطلقة تحت شروط شبه غائبة، أو شروط مثالية متعذرة التطبيق؛ لأن الأمة لا بد لها من إمام مجتهد على الأقل، فمن استكمل رتبة الفقيه الثانية، فكان عنده قدرة علمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع علمه بجمهور الأقوال في المذاهب، وآتاه الله ملكة بمجموع علمي طلبه، وبطبع خلقه الله عليه من الفقه، فهذا هو المجتهد.
وهل من شروط المجتهد أن يكون ممن يمكنه الاجتهاد في كل المسائل؟
الجواب: من قال من الأصوليين: إن من شرطه أن يكون قديرًا على الاجتهاد في كل المسائل، فهذا واهم؛ لأنه لم يوجد أحد في التاريخ كذلك، فكل إمام قد توقف في بعض المسائل، حتى أبو بكر وعمر ﵄ قد توقفا في بعض المسائل، فليس هذا -إذًا- من شروط المجتهد، فإنه من المعلوم أنه إذا جاء المجتهد إلى المسألة التي يجتهد فيها فقد يتلكأ عن الاجتهاد فيها لسبب؛ إما لنقص في تصور المسألة، أو لأسباب أخرى.
أيضًا: المسألة التي يريد المجتهد الاجتهاد فيها لا شك أن من شرط اجتهاده فيها: أن يكون محيطًا بعلم هذه المسألة في الجملة، أما الإحاطة المطلقة فلا تشترط هنا، فمثلًا: إذا أراد أن يجتهد في مسألة في الحج فلابد أن يكون فقيهًا في أدلة الحج وأحاديثه وأحكامه؛ لأنه سيجتهد في بابه، فالمسألة التي يجتهد فيها لا بد أن يكون عالمًا في الجملة بمفصل أدلتها، وهذا الشرط إنما يشترط في المسألة التي يراد أن يجتهد فيها، أما مسألة قد كفاه الفقهاء أمرها من قبل، وليست من النوازل ولا من عوارض الاجتهاد، فهذه مسألة يدرج فيها على طريقة من سبقه.
5 / 6