شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
Жанры
قول المصنف ﵀ (وإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى) إلى قوله (بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء) . هذه الجملة من كلامه من التوحيد، وذلك أنَّهُ قال في أول الكلام - يعني في أول هذه العقيدة- (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ اللهَ واحدٌ لا شريكَ لَهُ) ثم مضى في ذلك وأتى إلى مقام الرسالة والكلام على النبوة فقال (وإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى)، فهي معطوفة على قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) . و(إِنَّ) هنا مكسورة لأنها معمول القول، ومن المعلوم في النحو أنّ (إِنَّ) تُكْسَرْ إذا كانت تُقَدَّرُ مع ما بعدها بجملة؛ يعني أنَّ (إِنَّ) مع ما دخلت عليه تُقَدَّرُ بجملة. فلذلك تُكسر إذا كانت بعد كلام يُقَدَّرْ ما بعده بجملة. ومعلوم أنَّ القول له مَقُولْ، ومَقُولُ القول جُمَلْ وليس بمفردات، وهذا بخلاف فتح الهمزة في (أَنَّ) فإن القاعدة فيها أنها تفتح إذا كانت في تقدير المفرد أو المصدر، كما هو مقرر في النحو كما هو معلوم لكم جميعا. المقصود أنَّ قوله (وإِنَّ مُحَمَّدًا) هذا بكسر همزةِ (إِنَّ)؛ لأنها مقول القول في أول الرسالة وهو قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله) . وبحث الرسالة والنبوة هو من توحيد الله ﷿، ووجه ذلك: ١ - الوجه الأول: أنَّ توحيد الله ﷿ يُطْلَقْ ويُعْنَى به العقيدة بعامة، فكل العقيدة بأركان الإيمان تدخل في توحيد الله، فتوحيد الله ﷿ هو الإيمان، وهو المشتمل على أركان الإيمان الستة، والكلام على نبوة محمد ﷺ من ضمن ذلك. ٢ - الوجه الثاني: أنّ نبوة محمد ﷺ هي طريق التوحيد؛ لأنَّ توحيد الله ﷿ لم يُعْلَمْ إلا عن طريق الرسل، وفي ذلك تقريرُ أنَّ العقول لا تستقل في معرفة توحيد الله ﷿ وما يتضمنه ذلك وما يستلزمه ذلك؛ بل إنّه لا بد من بعثة رسلٍ وأنبياء للبيان ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥] . وبَعْثَةُ الرسل بها عُلِمَ حق الله ﷿ وتوحيده؛ توحيد الإلهية، وبها عُلِمَ نعت الله ﷿ وأسماؤه وصفاته الكاملة الجليلة. فإذًا بعثة محمد ﷺ وبعثة الرسل جميعا هي طريق توحيد الله ﷿ ولهذا قال هنا (نقُولُ في تَوحيدِ الله [مُعتَقدينَ بتوفيق الله]: إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) واستمر ومرّ حتى قال (وإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى) يعني (ونقُولُ في تَوحيدِ الله: إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) . وهذه الجملة من كلامه ﵀ فيها تقرير عقيدة عظيمة، وهي أنَّ ﷺ جُمِعَتْ له أوصاف ونعوت ومراتب: - فمنها أنه عبد. - ومنها أنه نبي. - ومنها أنه رسول. - ومنها أنه خاتَم الأنبياء والمرسلين. - ومنها أنه حبيب رب العالمين وخليله. - ومنها أنّ بعثته عامة للجن والإنس، وكافة الورى. وسيأتي بيان هذه الجمل والصفات في شرح كل جملة بما تقتضيه. نخصُّ الآن من هذه الجمل المتعلقة بالنبوة قولَه (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) ذكر ثلاث مقامات لمحمد بن عبد الله ﷺ. وقوله (إِنَّ مُحَمَّدًا) بدون أوصاف زائدة كسيدنا محمد ونحو ذلك فيه إتّباع لما جاء في الأحاديث الكثيرة من ذكر التعبد باسم النبي ﷺ مجردًا عن وصف السيادة وغير ذلك، وهذا هو المسنون والمشروع كما في دعاء المصلي في التحيات إذا جلس للتشهد وأشباه ذلك، وكما في قول المؤذن، وكما في الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة وفي غيرها. فالسنة التي جاءت بها الأحاديث الكثيرة وعَمَلْ السلف أنّ مقام المصطفي ﷺ أرفع ما يوصف به أنْ يوصف بمقام العبودية والنبوة والرسالة، وذلك لأنَّ الله ﷿ وصف نبيه بذلك في أعلا المقامات وفي أَجَلِّهَا، فقال سبحانه ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا﴾ [الإسراء:١]، فوصفه في هذا المقام العظيم وهو مقام الإسراء وما تبعه من المعراج إلى رب العالمين بأنه أسرى بعبده، وقال سبحانه في وصف نبوة محمد ﷺ وتذلله ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن:١٩] فقال سبحانه في المعراج وقُرْبِ محمد ﷺ من رب العالمين قال ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم:١٠] . وهذا الوصف -وصف العبودية الخاصة- هو أعلا المقامات التي يوصف بها الإنسان، فإذا زاد عليه وصف النبوة ووصف الرسالة كان ذلك أعلا الكمال. ولهذا يَعْظُم العبد بتحقيق كمال العبودية لله ﷿. وتحقيق كمال العبودية إنما هو في الأنبياء والمرسلين. فإذًا وصف محمد ﷺ بأنه (عَبْدُهُ المصطَفى) هذا فيه رفعٌ له وإكرام للنبي ﷺ؛ لأنّ الله ﷿ هو الذي رضي له هذا الوصف وهذا النعت وهذا المقام. وهذا هو الذي ينبغي على من يكتب ويصنف أو يخطب أو يحاضر أن يتَّبِع السنة في الألفاظ، فنقول (وإن محمدا عبده المصطفى) دون زيادة لسيدنا وأشباه ذلك وإن كان هو ﷺ سيد المرسلين كما ذكر، هنا وهو سيد ولد آدم ﷺ. قال (إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المصطَفى) والاصطفاء هو الاختيار، ومحمد ﷺ اُصْطُفِيَ للرسالة. وهذا اللفظ مأخوذ من قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:٧٥] . فكل مُرْسَلٍ مُصْطَفَى لأن الله اصطفاه يعني اختاره وقرَّبَهُ لمقام الرسالة ولمقام العبودية الخاصة. قال (ونبيُّه المجْتَبى) والاجتباء هو الاختصاص. اجتباهم ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [الأنعام:٨٧]، هذا معناه الاختصاص؛ يعني جعله نبيًا فاجتباه، جعله حبيبًا له وخليلًا ومختارًا ومختصًا بالمقامات العالية. والوصف الثالث قال (ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) وهذا مأخوذ من قوله تعالى ﴿إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجن:٢٧-٢٨] . هذا البيان لمعاني تلك الكلمات نُتبِعُهُ بأنَّ هذا الكلام، هذه الجمل من المصنف فيها تقريرٌ لعقيدة عامة وهي أنّ محمد بن عبد الله ﷺ عبدٌ ونبي ورسول، وأنّه خاتم الأنبياء، وأنّ كل دعوة للنبوة فغيٌّ وهوى. وهذا من جملة ما يدخل في أركان الإيمان، فلا يصح إيمان عبد حتى يعتقد بأنّ محمدا ﷺ عبدٌ نبيٌ رسول، وأنه خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين، وأنه لا تصح دعوى للنبوة بعده، وكل دعوة للنبوة بعده فكذب وضلال وغيٌّ وهوى، إلى آخر ما سيأتي في بيان تلك الجمل. وهذه الجملة فيها تقرير لـ: أنَّ النبوة مختلفة عن الرسالة، وأنَّ النبوة تسبق الرسالة كما قال (ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ [المُرْتَضَى]) . وهذا هو المعروف عندكم فيما هو مقرر من أنَّ محمد ﷺ نُبِأَ (بإقرأ) وأُرْسِلَ (بالمدثر) . فالنبوة مرتبة دون مرتبة الرسالة، كما سيأتي. وجَعْلْ العطف متغايرًا أولى من جَعْلِهِ -يعني متغايرًا في الذات- أولى من جَعْلِهِ متغايرًا لفظي؛ يعني أنَّ المصنف الطحاوي يرى أنَّ النبوة غير الرسالة وأنَّ النبي غير الرسول، وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه. هذه الجملة فيها تقرير ما ذكرت من العقيدة العامة المعروفة، ويدخل تحتها مسائل:
1 / 77