Объяснение вероучения ат-Тахави - Абдул Азиз Аль-Раджхи
شرح العقيدة الطحاوية - عبد العزيز الراجحي
Жанры
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن العلم الذي سندرسه معكم -إن شاء الله- هو في العقائد، وشرح متن العقيدة الطحاوية في كل ليلة -إن شاء الله- من ليالي هذه الدورة المباركة، وستكون المدة (مدة الدرس) في الغالب ساعة قد تزيد أحيانا وقد تنقص أحيانا، في الغالب ستنتهي في الساعة العاشرة -إن شاء الله-.
لكن قد تزيد المدة أحيانا؛ نظرا لكون البحث يحتاج إلى استكمال، وقد تنقص، ثم تكون بعدها الأسئلة -إن شاء الله- وقد مضى على وفاة سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمة الله عليه- نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجمعنا به في دار كرامته، قد مضى على وفاته شهر نسأل الله أن يغفر له، وأن يتغمده برحمته، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وأسأل الله ﷾ وسوف يكون الشرح شرح العقيدة الطحاوية -إن شاء الله- سوف يكون شرحا متوسطا، أسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا العمل نافعا لعباد الله، وأسأله ﷾ أن ينفع به الغائب والحاضر، وأن يجعله من العمل الذي لا ينقطع إنه جواد كريم.
هذا العلم الذي ندرسه وهو علم العقائد ودراسة العقيدة الطحاوية يتعلق بعلم الأصول هو علم الأصول، وعلم الأصول بالنسبة (علم أصول الدين) بالنسبة إلى غيره هو أشرف العلوم، فهو أشرف العلوم، علم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم هو الله ﷾، والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فالعلم يشرف بشرف المعلوم، والمعلوم هو الله سبحانه، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فتبين بهذا أن علم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف العلم إنما يكون بشرف المعلوم، والمعلوم هو الله ﷾، فعلم أصول الدين يتعلق بالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروض؛ ولهذا لما كتب الإمام أبو حنيفة النعمان ﵀ أوراقا جمعها في أصول الدين سماها الفقه الأكبر، وأما فقه فروع الدين فهو الفقه الأصغر، فيكون العلم علمين: علم أصول الدين وهذا هو الفقه الأكبر، وعلم فروع الدين وهذا هو الفقه الأصغر.
علم أصول الدين هو علم العقائد، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله هذا العلم الأكبر، وهذا هو الفقه الأكبر، والثاني فقه الفروض، وهو العلم بالأوامر والنواهي والحلال والحرام.
فيكون العلم علمين: علم أصول الدين وهذا هو الفقه الأكبر، وعلم فروع الدين وهذا هو الفقه الأصغر، وإن كان لشيخ الإسلام -رحمة الله عليه- ابن تيمية، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- له كلام فيه تقسيمه إلى أصول وفروع.
وعلم أصول الدين وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته الحاجة إليه فوق كل حاجة، حاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، وحاجتهم إليه أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجتهم إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الإنسان؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب وفقد النفس مات الجسد، والموت لا بد منه، ولا يضر موت الجسد إذا صلح القلب، أما إذا فقد العلم بالله وأسمائه وصفاته والعلم بشرعه ودينه مات قلبه وروحه.
وبهذا يتبين أن حاجة العباد إلى علم أصول الدين والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ وذلك لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة ولا سعادة إلا بأن تعرف ربها وخالقها، وفاطرها، ومعبودها بأسمائه وصفاته وأفعاله.
ويكون مع ذلك أحب إليها من كل شيء، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
هذا هو نعيم القلوب وروحها وطمأنينتها وسعادتها أن تعرف ربها وخالقها وفاطرها ومعبودها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك أحب إليها من كل شيء، ويكون مع ذلك سعيها وعملها فيما يقربها إليه ﷾.
ولما كانت العقول عقول البشر لا تستقل بمعرفة هذا الأمر وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا تستقل بمعرفة ذلك على التفصيل اقتضت حكمة الله ورحمته بعباده أن أرسل الرسل يعرّفون بالله، ويدعون إلى الله، ويبشرون من أجابهم، وينذرون من عصاهم وخالفهم، وجعل ﷾ مفتاح دعوة الرسل وزبدة رسالتهم معرفة المعبود ﷾ بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها، وعلى هذه المعرفة تبنى مطالب هذه الرسالة كلها من أولها إلى آخرها، على معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها، هذا هو الأصل العظيم أصل الدين، أصل الدين أن تعلم ربك، أن تعلم الله، أن تعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
1 / 1
الأصل الأول: معرفة شريعة الله المتضمنة معرفة الطريق الموصل إلى الله، معرفة الطريق الموصل إلى الله، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه تعرف الطريق الموصل، وذلك بأن تعرف الطريقة الموصلة إلى الله، ما هو الطريق الموصل إلى الله؟ هي شريعة الله المتضمنة لأمره ونهيه.
والأصل الثاني: معرفة حال السالكين والسائرين إلى الله ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.
هذه هي الأصول الثلاثة العظيمة، وأصلها وأساسها معرفة الله، والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والثاني: معرفة الطريق الموصل إلى الله وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه، والثالث: معرفة حال الناس وجزائهم في الآخرة، وهذه هي أقسام العلم النافع، هذه الثلاثة هي أقسام العلم النافع، وليس هناك قسم رابع.
أقسام العلم النافع ثلاثة:
القسم الأول: معرفة الله والعلم بالله ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الثاني: معرفة دين الله وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
الثالثة: معرفة جزاء الناس وحالهم بعد الموت، ماذا يكون جزاء المتقين المؤمنين الموحدين؟ الجنة، وجزاء الكفار والعصاة النار، ويتبع ذلك معرفة ما يكون في أمور البرزخ من سؤال منكر ونكير، ومن عذاب القبر ونعيمه.
ومعرفة العلم بأحكام البعث والنشور، والوقوف بين يدي الله ﷿ وتطاير الصحف، ووزن الأعمال والأشخاص والورود على الحوض، والمرور على الصراط، ثم الاستقرار في الجنة أو في النار.
هذه هي أقسام العلم النافع الثلاثة وليس هناك قسم رابع كما قال العلامة ابن القيم ﵀ في الكافية الشافية:
والعلم أقسام ثلاث ما لها *** من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله *** وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه *** وجزاؤه يوم الميعاد الثاني
هذه أقسام العلم ثلاثة:
"علم بأوصاف الإله وفعله" هذا الأول.
"والأمر والنهي الذي هو دينه" هذا الثاني
"وجزاؤه يوم الميعاد الثاني" هذا الثالث.
وأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه، والطريق الموصل إلى الله كما سبق هي شريعته ﷾ المتضمنة لأمره ونهيه.
فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه الذي يمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويعمل بشرع الله ودينه، هذا هو أقوم الناس، وأتبعهم أتبع الناس للصراط المستقيم؛ ولهذا سمى الله ﷾ كتابه المنزل على رسوله ﷺ وهو القرآن العظيم روحا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورا؛ لتوقف الهداية عليه قال سبحانه: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)﴾ .
سماه الله شفاء قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ والله ﷾ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وقد بلغ النبي ﷺ البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستغفرين، ومضى على طريقه ﷺ الصحابة، السلف الصالح الصحابة والتابعون والأئمة من بعدهم، فاهتدوا بهديه ﷺ وترسموا خطاه، وآمنوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقدر خيره وشره، وامتثلوا أوامر الله، واجتنبوا نواهيه، واستناروا بنور الله، فكانوا على الهدى المستقيم.
وهم أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون وتابعوهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين هم أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحق، وهم الطائفة المنصورة، ثم لما بَعُدَ العهد، خلف من بعدهم خلوف، غيروا وبدلوا وتفرقوا في دينهم شيعا وأحزابا، ولكن الله ﷾ حفظ على هذه الأمة أصول دينها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم) وفي لفظ آخر: (لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ﵎ .
فتصدى العلماء والأئمة لإيضاح أصول الدين وفروعه، والرد على أهل البدع بدعهم وإيضاح الحق، فنصر الله بهم الحق وألفوا المؤلفات، وكتبوا الردود، ألفوا المؤلفات في عقائد ... في عقيدة السلف الصالح.
ومن هؤلاء الأئمة الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأسدي الطحاوي نسبة إلى قرية طحا من صعيد مصر المولود سنة تسع وثلاثين ومائتين، والمتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ألف هذه الرسالة في العقيدة المعروفة بالعقيدة الطحاوية مؤلفها أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأسدي الطحاوي.
1 / 2
ألف هذه الرسالة في عقيدة السلف الصالح، وتلقتها الأمة بالقبول، وتلقاها العلماء بالقبول سلفا وخلفا، وفي هذه الرسالة بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وإن كان قد يلاحظ على هذه الرسالة ملحوظات يسيرة قد تتمشى مع معتقد المرجئة، نبه عليها العلماء، وسيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله-، وهناك أيضا عبارات مشتبهة وفيها إيهام، لكن القاعدة في هذا أن العبارات المشتبهة تفسر بالعبارات الواضحة؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أن النصوص المشتبهة من كتاب الله ﷿ تفسر بالنصوص الواضحة المحكمة وترد إليها.
هذه هي طريقة أهل العلم الراسخين في العلم يردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرون النصوص المتشابهة من النصوص المحكمة فيتضح الأمر، وكذلك أيضا النصوص المتشابهة في سنة رسول الله ﷺ تفسر بالنصوص الواضحة المحكمة فيزول الاشتباه، وكذلك أيضا النصوص المشتبهة في كلام أهل العلم تفسر بالنصوص الواضحة من كلامهم، ولا يتعلق بالنصوص المتشابهة لا يتعلق بالنصوص المتشابهة ويترك النصوص المحكمة الواضحة إلا أهل الزيغ والظلام، كما قال الله ﷾ في كتابه العظيم: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)﴾ .
قد ثبت عن عائشة ﵂ أنها قالت: " (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) "، ثم قرأت هذه الآية، فأهل الزيغ يتعلقون بمتشابهه ويتركون المحكم، فمثلا إذا تعلق النصراني بقول الله ﷿ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ وقال: نحن ضمير الجمع، وهذا يدل على أن الآلهة ثلاثة، يقول أهل الحق: أنت من أهل الزيغ هذه من النصوص المشتبهة، الواجب عليك أن تردها إلى النصوص الواضحة المحكمة، كقول الله ﷿ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾ ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ .
عليك أن ترجع هذا النص المشتبه إلى النص المحكم، "نحن" يقولها في لغة العرب يقولها الواحد المعظم لنفسه، وهكذا هذا مثال.
ومثال ذلك أيضا من السنة النبوية قد يتعلق بعض دعاة السفور (سفور النساء) ببعض النصوص المشتبهة ويقولون: إن مثلا حديث الخثعمية في صحيح البخاري في حجة الوداع (جاءت إلى النبي ﷺ تسأله وكان رديفه الفضل، فجعل ينظر إليها، وتنظر إليه فجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الطرف الآخر) .
قالوا: هذا يدل على أن المرأة سافرة كاشفة الوجه، وهذا يدل على أن المرأة يجوز لها كشف الوجه، وأن كشف الوجه ليس بواجب، ويستدلون أيضا بحديث أسماء أنها جاءت إلى النبي ﷺ وعليها ثياب رقاق، فأعرض النبي ﷺ عنها بوجهه، وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) .
قالوا: هذا يدل على أيش؟ يدل على كشف الوجه، نقول لهم: أنتم من أهل الزيغ، أنتم تعلقتم بالنصوص المتشابهة، لماذا تركتم النصوص المحكمة الواضحة تركتم قول الله ﷿ ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ والحجاب ما يحجب المرأة عن الرجل، الحجاب يكون جدارا، ويكون بابا، ويكون غطاء على الوجه ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ .
وكذلك ثبت في صحيح البخاري في قصة الإفك لما سار الجيش، وترك عائشة ﵂ قالت: (جلست في مكان الجيش لعلهم يفقدونها ثم يرجعون، وكان صفوان بن المعطل السلمي قد جاء متأخرا فلما رأى سواد إنسان عرفها، وجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون -استرجع- وكانت نائمة حيث قالت: فاستيقظت باسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب) وهذا في صحيح البخاري قولها: " (فخمرت وجهي بجلبابي) " صريح في تغطية الوجه وكان يعرفني قبل الحجاب" دليل على أن النساء قبل الحجاب يكشفن الوجوه، وأما بعد الحجاب فكن يسترن الوجوه.
1 / 3
وفي سنن أبي داود عن عائشة ﵂ أنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله ﷺ محرمات، فإذا حازونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) فنقول لهم: كيف تتعلق بحديث أسماء وحديث الخثعمية وتتركون هذه النصوص المحكمة، عليك أن تفسر حديث الخثعمية بما يتناسب مع هذه النصوص، ثم حديث أسماء هذا ضعيف، وفيه علل كثيرة؛ فهو منقطع؛ لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة، وخالد بن دريك لم يسمع عن عائشة، ثم هو منكر.. المتن منكر لا يمكن أن تكون أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة وامرأة الزبير وامرأة عاقلة دينة تدخل على النبي ﷺ في ثياب رقاق، هذا لا يمكن تصف البشرة فهو فيه علل متعددة كثيرة.
ومن رواية أيضا سعيد بن بشير وهو ضعيف أيضا، ولو صح جدلا لكان محمولا على ما قبل الحجاب، فالمقصود من هذا أن أهل الزيغ يتعلقون بالنصوص المتشابهة، ويتركون النصوص المحكمة، وأما الراسخون في العلم فإنهم يأخذون بالنصوص المحكمة، ويرجعون إليها النصوص المتشابهة.
ومن ذلك أيضا في القرآن الكريم؛ لأهمية هذا المثال أن نصوص العلو محكمة يأتي أهل الزيغ، ويتعلقون بنصوص المعية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ﴿لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا﴾ ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦)﴾ .
يأتي أهل البدع وأهل الزيغ ونفاة الصفات فيقولوا: هذا دليل على أن الله مختلط بالمخلوقات، وأن الله معهم، نقول لهم: أنتم أهل الزيغ لماذا تركتم النصوص المحكمة نصوص العلو والمعية ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ في سبعة مواضع ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ ﴿إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ .
حتى إن نصوص العلو تزيد على ثلاث آلاف أفراد، وعلى ثلاث آلاف دليل كلها صريحة في أن الله فوق السماوات، فوق عرشه، مستو على عرشه، بائن من خلقه، ثم تتعلق بنصوص المعية، المعية لا تفيد الاختلاط في لغة العرب أقول: لا تزال العرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، هذا معروف في لغة العرب، والقمر فوقك، وتقول: فلان معه كذا، وقد يكون فوق رأسه.
فالمقصود أن طريقة أهل الزيغ يتعلقون بالنصوص المتشابهة، ويتركون النصوص المحكمة، أما طريقة الراسخين في العلم فإنهم يفسرون يأخذون بالنصوص المحكمة ويرجعون إليها النصوص المتشابهة ويفسرونها بها، فيزول الإشكال، وهكذا كلام أهل العلم فإذا رأيت كلاما لعالم اشتبه عليك مشتبه ترجع إلى كلامه الواضح تفسر به كما سيأتي في بعض كلام أبي جعفر الطحاوي، وهذه العقيدة الطحاوية كما سبق تلقاها العلماء بالقبول، وشرحت بشروح متعددة، لكن هذه الشروح لا تتمشى مع معتقد أهل السنة والجماعة.
وأحسن شروح لها هو شرح العقيدة المعروفة الآن التي منتشر المطبوع الذي ألفه علي بن علي بن أبي العز الحنفي المولود سنة سبعمائة وواحد وثلاثين، والمتوفى سنة سبعمائة واثنين وتسعين، هذا أفضل الشروح وأحسنها، قد ذكر ﵀ في مقدمتها: أن العقيدة الطحاوية شرحت شروحا متعددة إلا أنها لا تتمشى مع معتقد أهل السنة والجماعة، فأراد أن يشرحها شرحا يتمشى مع معتقد أهل السنة والجماعة.
وطريقتنا -إن شاء الله- أننا لا نقرأ الشرح، وإنما نشرح المتن شرحا يكون متوسطا، أو أقل من المتوسط يحصل به الفائدة، والمقصود -إن شاء الله- وإلا لو أراد الإنسان أن يتوسع يحتاج إلى وقت طويل، لكن سيكون -إن شاء الله- الشرح شرحًا مناسبا، يكون فيه بيان معتقد أهل السنة والجماعة، وبيان ما يخالفه من أهل البدع، ليس طويلا فيمل وليس قصيرا مخلا، وإنما يكون -إن شاء الله- متوسطا، ونقرأ جملة جملة، ثم نشرح.
1 / 4
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- ﵀: هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
_________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بين ﵀ في هذه المقدمة أنه يريد أن يبين عقيدة السلف الصالح على ما يعتقده الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، والصاحب وصاحبه الأكبر أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، والصاحب الثاني أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، وما يعتقدونه في أصول الدين، ويدينون به رب العالمين، بين ﵀ أن هذه العقيدة تتمشى مع معتقد أهل السنة والجماعة.
وخص هؤلاء الثلاثة؛ لأن أبا حنيفة هو إمام الأحناف، المذهب الحنفي، أو أئمة المذهب الحنفي، وهو ﵀ الطحاوي وكذلك السالف كل منهم أحناف في المذهب في الفروع، يتمذهبون بمذهب أبي حنيفة، وهذه العقيدة في أصول الدين ليست خاصة بالأحناف، بل هي عامة، الأحناف والمالكية والشافعية، التمذهب إنما هو في الفروع، في فروع الدين، في أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج يتمذهب في مذهب أبي حنيفة، أما العقيدة والتوحيد فهذه العقيدة واحدة ليس فيها اختلاف.
والعقيدة هي مأخوذة من العقد وهو الربط، وسميت عقيدة؛ لأن الإنسان يجزم ويعتقد في نفسه، مأخوذة من عقد البيع ونحوه، ثم استعملت في التصميم والاعتقاد الجازم، وتطلق العقيدة على ما يدين به الإنسان ربه، ويعتقده من أمور الدين، إن كان ما يعتقده الإنسان إن كان مطابقا للواقع فهي عقيدة صحيحة، وإن كان مخالفا للواقع فهي عقيدة فاسدة.
إذن العقيدة هي ما يجزم به الإنسان، ويعتقده ويتيقنه في قرارة نفسه يسمى عقيدة، لكن إن كان هذا الاعتقاد موافقا للحق، إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهي عقيدة صحيحة، وإن كان مخالفا للواقع فهي عقيدة فاسدة، فمثلا الجهمية والمعتزلة والشيعة والرافضة كلهم لهم عقيدة، ويجزمون بها، لكنها عقائد فاسدة باطلة؛ لمخالفتها للحق، وأهل السنة والجماعة عقيدتهم موافقة للحق فهي عقيدة صحيحة، والعقيدة هي الأساس هي أساس بناء المجتمعات، هي الأساس الذي يبنى عليه المجتمع، فإن كان المجتمع عقيدة أفراده سليمة صار مجتمعًا قويا متماسكا، وإن كانت عقيدة أفراده منحرفة صار مجتمعا متفككا منهارا.
قد دلت التجارب أن صلاح سلوك الفرد يتناسب مع مدى صلاح عقيدة أفراده، وأن انحراف الإنسان، انحراف سلوكه يتناسب مع مدى تضاؤل عقيدته وانحرافه، والعقيدة السليمة الصحيحة تعصم الدم والمال، وتصحح جميع الأعمال، والعقيدة الفاسدة تهدر الدم والمال وتفسد جميع الأعمال، قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)﴾ وقال ﵊: (من بدل دينه فاقتلوه) وقال ﵊: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) .
ودل هذا على أن العقيدة السليمة تعصم الدم والمال، لا يحل دمه ولا ماله ما دام اعتقاده صحيحا إلا إذا ارتكب واحدة من ثلاث: الزاني بعد الإحصان، والقاتل عمدا، والثاني المرتد الذي فارق دينه (من بدل دينه فاقتلوه) .
فالعقيدة الصحيحة تعصم الدم والمال، والعقيدة الفاسدة تهدر الدم والمال، والعقيدة الصحيحة تصحح جميع الأعمال، لو صحت العقيدة صحت الأعمال كلها، إذا كانت العقيدة سليمة صحت الصلاة، وصح الصوم، وصحت الزكاة، وصح الحج، وجميع العبادات صارت صحيحة.
أما إذا فسدت العقيدة فسدت جميع الأعمال، إذا دعا الإنسان غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله؛ تقربا لذلك الغير، أو فعل ناقضا من نواقض الإسلام، اعتقد عدم وجوب الصلاة، أو عدم وجوب الزكاة، أو عدم وجوب الحج، أو اعتقد حل الزنا، أو حل الخمر، أو حل الربا، أو حل عقوق الوالدين فسدت العقيدة، وبطلت الأعمال كلها، لا تصح الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، فكلها تكون باطلة.
1 / 5
كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)﴾ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾ ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾ فالعقيدة الصحيحة السليمة تصحح جميع الأعمال، وتعصم الدم والمال، والعقيدة الفاسدة المنحرفة تهدر الدم والمال، وتفسد جميع الأعمال.
ومن ثم اتجهت جهود الأنبياء والمصلحين إلى إصلاح عقائد المجتمعات قبل كل شيء، كل نبي أرسله الله يدعو قومه إلى إصلاح العقيدة ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ كما أخبر الله عن نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم، ونبينا محمد ﷺ مكث في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلى إصلاح العقيدة ويقول لقومه: (قولوا لا إله إلا الله) ولم يصنع شيئا، ولم يجد شيئا من التشريعات إلا الصلاة؛ لعظم شأنها فإنها فرضت قبل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث، كل هذه المدة يدعو قومه إلى إصلاح العقيدة، ويقول: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) .
ثم لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، وثبتت العقيدة نزلت بقية التشريعات، شرع الأذان، شرعت صلاة الجماعة، فرض الزكاة، فرض الصوم، فرض الحج، فرض الجهاد، شرع الله إقامة الحدود، حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر... وهكذا.
وتبين بهذا أن العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الأعمال، وهي التي تعصم الدم والمال، والعقيدة الصحيحة تصحح جميع الأعمال نعم.
1 / 6
نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ.
_________
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له، هذه أول جملة في هذه العقيدة قال: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، "نقول في توحيد الله" التوحيد مصدر وحّد يوحّد توحيدا، وهو الإفراد أي انفرد، والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، "نقول في توحيد الله" يعني في جعل الله واحدا لا شريك له، نقول في توحيد الله معتقدين يعني عن عقيدة وعن شيء نجزم به، ونتيقن به، ولكن بتوفيق الله ليس بحول منا ولا قوة، ولكن الله هو الذي وفقنا لهذا الاعتقاد السليم.
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله، يعني بتوفيق الله وإعانته لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا، ولا أن يعتقد شيئا، ولا أن يقول شيئا، ولا أن يفعل إلا بتوفيق الله وإعانته؛ ولهذا قال المصنف ﵀: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، أن الله واحد لا شريك له، واحد لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا في ألوهيته وعبادته.
ويدخل في هذه الجملة "نقول في توحيد الله" في قوله "أن الله واحد لا شريك له " يدخل في ذلك التوحيد بأنواعه الثلاثة: التوحيد توحيد الله، واعتقاد أن الله واحد لا شريك له يشمل توحيد الله، واعتقاد أنه واحد لا شريك له في ذاته، وفي ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي ألوهيته وعبادته.
والتوحيد توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: هي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع أو هذا التقسيم ليس مأخوذا من الرأي والعقل، ما أخذه العلماء من عند أنفسهم، وإنما أخذوه من النصوص، دليلهم الاستقراء والتتبع، استقراء النصوص وتتبع النصوص دلت على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، وتوحيد الله في ألوهيته وعبادته.
إذن دليل هذا التقسيم الاستقراء والتتبع للنصوص، وكل قسم عليه دليل، وإذا كان كل قسم عليه دليل ما يكون مبتدعا كما يزعم بعض الناس يقول: هذا التقسيم مبتدع، وقال بعضهم: قال إن هذا التقسيم للتوحيد مثل تقسيم مثل التثليث عند النصارى، والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.
هذه الأقسام مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كما سيأتي، كل نوع وكل قسم عليه دليل، وهو أيضا حال الناس الموحدين لله لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة، قد يكون الإنسان موحدا في ربوبية الله، وقد يكون موحدا في أسمائه وصفاته، وقد يكون موحدا في ألوهيته وعبادته، وقد يكون موحدا لله في ربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، وقد يكون موحدا لله في ربوبيته ولم يكن موحدا لله في ألوهيته، فأحوال الناس تختلف.
وهذا التقسيم إنما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ استقرأ العلماء النصوص وتتبعوها فوجدوا أن هذا التوحيد أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو إثبات حقيقة ذات الرب وأفعاله، إثبات حقيقة ذات الرب وأفعاله، بأن تعتقد أن الله واجب الوجود لذاته ﷾، وأنه هو القائم بنفسه المقيم لغيره، وأنه هو الرب مربي عباده، وأنه هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو المدبر، فلا بد من هذه الأمور، لا بد في توحيد الله في ربوبيته من هذه الأمور:
الأمر الأول: إثبات حقيقة ذات الرب، بأن تعتقد أن الله واجب الوجود لذاته، لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم ﷾، فهو واجب الوجود لذاته، بخلاف المخلوق فإن وجوده ليس واجبا ولا ممتنعا؛ لأنه لو كان واجبا لما سبقه العدم، كون العدم سبق وجود المخلوق دليل على أن وجوده ليس واجبًا بل جائز، وليس ممتنعا؛ لأن الله خلقه وأوجده، فالممتنع لا يوجد فدل على أن وجوده (وجود المخلوق) وجود جائز، سبقه العدم ويلحقه العدم ويلحق حياته الضعف والنقص، أما وجود الله فهو وجود واجب لذاته لم يسبقه عدم ﷾، ولا يلحقه عدم ولا يلحق حياته نقص ولا ضعف ولا تغير ولا فساد ولا سنة ولا نوم.
ولم يتفرع من شيء، ولا يتفرع منه شيء، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (٤)﴾ فلا بد من إثبات حقيقة ذات الرب، واعتقاد أن الله و(٣) الوجود لذاته، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ﷾.
1 / 7
ثانيا: الإيمان بربوبية الله واعتقاد أن الله هو الرب وغيره مربوب، فهو الرب هو رب العباد وغيره مربوب كما قال سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾ هو رب العالمين، وكل ما سوى الله عالم، والله تعالى رب هؤلاء العالم، وغيره مربوب.
ثالثا: إثبات أن الله هو الخالق وغيره مخلوق، كما قال سبحانه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)﴾ .
رابعا: اعتقاد أو إثبات أن الله هو المالك وغيره مملوك، فهو مالك كل شيء وغيره مملوك.
خامسا: اعتقاد وإثبات أن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، فهو مدبر الخلق وهو المحيي وهو المميت وهو الرازق وهو الرزاق، وهو منزل المطر، مسبب الأسباب، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، فهو مدبر سبحانه وغيره مدبَّر.
بهذا يكون الإنسان وحد الله في ربوبيته، أثبت وجود الله واعتقد أن الله واجب الوجود لذاته، وأثبت ربوبية الله واعتقد أنه هو الرب وغيره مربوب، وأثبت أن الله هو الخالق وغيره المخلوق، وأثبت أن الله هو المالك وغيره المملوك، وأثبت أن الله هو المدبِّر وغيره المدبر، ومع ذلك لا يكفي هذا التوحيد في الإيمان والنجاة من النار، ولا يكون الإنسان مسلما بهذا التوحيد.
هذا النوع من التوحيد أقر به الكفار، مشركو قريش. قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ يقول سبحانه: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥)﴾ ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧)﴾ ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)﴾ ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١)﴾ .
إذن هذا النوع من التوحيد أقر به كفار قريش، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام، بل قاتلهم رسول الله ﷺ واستحل دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يأتوا بلازمه وهو توحيد الألوهية والعبادة.
الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الإيمان والإقرار بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا التي ثبتت بالكتاب والسنة، والإيمان بها وإثباتها لله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
والأسماء والصفات توقيفية ليس لأحد أن يخترع لله أسماء وصفات من عند نفسه، بل الأسماء والصفات توقيفية، ما ثبت بالكتاب والسنة أنه اسم لله أو وصف أثبتناه له، وما لم يثبت بالكتاب والسنة نتوقف لا نثبته، فلا بد من الإيمان والإقرار والعلم بما لله من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله ﷿ من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.
وهذا النوع أيضا من التوحيد أقر به كفار قريش، كانوا يقرون، كان المشركون يقرون بجنس هذا النوع، ولم يوجد عندهم منهم إنكار لشيء من الأسماء والصفات إلا في اسم الرحمن خاصة، فأنزل الله ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ .
ولما أمر النبي ﷺ أن يكتب الكتاب في صلح الحديبية وقال للكاتب: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل الذي صالح النبي ﷺ بالمشركين: اكتب باسمك اللهم، فإننا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم) .
قال الحافظ ابن كثير ﵀: والظاهر أن إنكارهم لاسم الرحمن إنما هو من باب التعنت والعناد، وإلا فقد وجد في أشعار الجاهلية ما يثبت اسم الرحمن لله ﷿ كما قال الشاعر:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
فإنكارهم للرحمن من باب التعنت والعناد، ولم يعرف عنهم إنكار شيء منها من الأسماء إلا في اسم الرحمن خاصة، وهذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات لا يكفي بالإيمان والإسلام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام حتى يقر بلازمه، وهو توحيد الألوهية والعبادة.
يعني هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات كالنوع السابق كتوحيد الربوبية لا يكفي في كون الإنسان مسلما مؤمنا موحدا، ولكن في نجاته من النار ودخول الجنة حتى يوحد الله في ألوهيته.
النوع الثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعال العباد.
1 / 8
النوع الأول: وهو توحيد الربوبية توحيد الله بأفعال الرب، الخلق والرزق والإماتة والإحياء هذه أفعال الله، فأنت توحد الله بأفعاله هو، توحيد الله بأفعاله، توحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله.
أما توحيد الألوهية فهو توحيد الله بأفعال العباد بأفعالك أنت أيها الإنسان من صلاة وزكاة وصوم وحج وبر للوالدين وصلة للرحم، هذه أفعالك أنت وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكف نفسك عن المحرمات تتقرب بها إلى الله، توحد الله بها بأن تتقرب إلى الله، وتخلصها لله، وتريد بها وجه الله والدار الآخرة، هذا هو توحيد العبادة.
وتوحيد العبادة هو أول دعوة الرسل وآخرها، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله، وهو أول دعوة الرسل وآخرها كما أخبر الله تعالى عن الأنبياء.
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾ .
هذا التوحيد توحيد الألوهية هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وأول دعوة الرسل وآخرها، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله، وأول ما يدخل به المسلم في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) .
وهذا التوحيد لأجله خلق الله الخليقة، ولأجله أرسل الله الرسل، ولأجله أنزل الله الكتب، ولأجله قام سوق الجهاد، ولأجله حقت الحاقة، ولأجله وقعت الواقعة، ولأجله انقسم الناس إلى شقي وسعيد، إلى كفار ومؤمنين، وهذا التوحيد هو الغاية المحبوبة لله والمرضية له، هو الغاية المحبوبة لله، والغاية التي ترضي الله ﷿ هذا التوحيد.
وهذا التوحيد هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل في قديم الدهر وحديثه، الأنبياء والرسل إنما نازعهم وخاصمهم مخاصمة منهم في هذا التوحيد، بخلاف توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات فهما توحيدان فطريان قد أقر بهما جميع الخلق إلا من شذ، إلا بعض الطوائف التي شذت وانتكست فطرتها، وعميت بصيرتها.
وإلا فجميع الخلائق يقرون بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والنزاع والخصومة بين الأنبياء والرسل في هذا التوحيد، وهو توحيد الألوهية والعبادة، والتوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هما الوسيلة والغاية تفيد العبادة والألوهية توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أن تعرف ربك، وتعلم ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله فإذا عرفت ربك عبدته، وتقربت إليه، وأخلصت العبادة له، فتوحيد الربوبية والأسماء والصفات أن تعلم ربك بأسمائه، وتعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، تعرف معبودك ثم تعبده وتخلص له العبادة.
ومن العلماء من قسم التوحيد إلى قسمين، كشيخ الإسلام وابن القيم قالوا: التوحيد ينقسم إلى قسمين، وهذا التقسيم بالنسبة إلى الخبر والإنشاء، بالنسبة إلى الخبر والإنشاء قالوا: ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: توحيد في المعرفة والإثبات.
والقسم الثاني: توحيد في الطلب والقصد، توحيد في المعرفة والإثبات وهذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، يقال له توحيد في المعرفة والإثبات، ويقال له التوحيد القولي، ويقال له التوحيد الاعتقادي، ويقال له التوحيد العلمي الخبري.
والثاني: توحيد الإرادة والطلب وهو توحيد العبادة.
قال العلماء: إن التوحيد الأول وهو التوحيد في المعرفة والإثبات كما ذكر العلامة ابن القيم ﵀ وغيره هو إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة الم تنزيل السجدة، وسورة الإخلاص بكمالها.
وكما في قوله ﷾: ﴿قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)﴾ .
1 / 9
أول سورة الحديد فيها: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)﴾ أول سورة طه فيها: ﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)﴾ .
أول سورة الم تنزيل السجدة كذلك: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وهكذا سورة الإخلاص بكمالها.
والنوع الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي مثل ما تضمنت سورة قل يا أيها الكافرون ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ ومثل ما تضمنته الآية الكريمة آية آل عمران: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)﴾ .
وكذلك أيضا ما تضمنت سورة يونس أولها وأوسطها وآخرها ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ .
في آخرها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)﴾ .
جملة سورة الأنعام أنكر الله تعالى على المشركين شركهم: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذرأ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ﴾ قال بعد ذلك: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣)﴾ ثم قال: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ .
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن متضمنة، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهذا هو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى توحيده، ونهي عن الشرك وعبادة غيره، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن أهل التوحيد وما حصل لهم في الدنيا من النصر والعز، وما يكرمهم به في الآخرة من الثواب فهذا جزاء من حقق التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك وما أصابهم في الدنيا من النكسة والهزيمة، وما يكون في الآخرة وما تكون عاقبتهم وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب والنكال، وهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
1 / 10
والفاتحة (سورة الفاتحة) كذلك كلها توحيد: ﴿الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾ توحيد ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ توحيد ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾ توحيد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾ توحيد ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ توحيد متضمن للهداية لطريق المنعم عليهم وهم أهل التوحيد ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾ هم الذين فارقوا التوحيد، فهذا التوحيد.
فالقرآن كله من أوله إلى آخره على هذا بهذا التفصيل كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائه، والتوحيد توحيد الربوبية نفاة الصفات أدخلوا فيه أدخلوا في هذا التوحيد نفي الصفات، المعطلة للجميع وغيرهم وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، والواجب عندهم يسمون الله الواجب، ويسمون المخلوق الممكن. قالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
ففرارا من ذلك قالوا: نفي الصفات حتى لا يكون واجب إلا واحد، إنما له سمع وبصر وعلم وقدرة صار الواجب متعددا، وهذا من أبطل الباطل، هذا من الفساد؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء لا توجد في الخارج، لا يوجد شيء في الخارج إلا له اسم وصفة، فإذا نفيت الأسماء والصفات عن شخص فلا يمكن أن يوجد.
فإذا قلت: هناك شيء موجود لكن ليس له طول ولا عرض ولا عمق وليس فوق ولا تحت ولا خلف ولا يمين ولا شمال لا وجود له إلا في الذهن، وهؤلاء سلبوا الأسماء والصفات عن الرب، معنى ذلك أنهم لم يثبتوا ربا ولا خالقا إنما كل شيء في الذهن والعياذ بالله، وقد أفضى هذا التوحيد ببعضهم إلى أن وصلوا إلى الحلول والاتحاد -نعوذ بالله- حتى قالوا: إن الوجود واحد، وقالوا بالحلول والاتحاد، ووقعوا في شر من مذهب النصارى؛ فإن النصارى خصوا حلول الرب بالمسيح عيسى ابن مريم، وهؤلاء الجهمية الغلاة قالوا: إن الله حال في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فلما وصلوا إلى القول بالحلول والاتحاد، وقالوا: إن الوجود واحد تفرع عن هذا التوحيد -اللي يسمونه توحيدا وهو من أعظم الشرك- تفرع عن ذلك القول بأن الوجود واحد، وقالوا: وتفرع عن هذا القول بأن فرعون على الصواب وأنه مصيب حينما قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤)﴾ وقالوا: إن عُبّاد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله ولم يعبدوا غيره، وقالوا: لا فرق في التحريم بين الأم والأخت والأجنبية، ولا بين الزنا والخمر، ولا بين الماء والخمر، ولا بين الزنا والنكاح.
وقالوا: الكل من عين واحد، بل هو العين الواحد، ومن فروع الاتحادية قالوا: إن الأنبياء ضيقوا على الناس، وبعّدوا عليهم المقصود، والأمر وراء ذلك كله، فهذا -والعياذ بالله- سببه أن هؤلاء أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهريا فتولتهم الشياطين، فقالوا هذه المقالات التي سودوا بها الأوراق، وأضلوا بها الناس، وتكلموا بالكفر الصراح -نسأل الله السلامة والعافية-.
1 / 11
وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ.
_________
"ولا شيء مثله" يقول المؤلف ﵀: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله"، أي: أن الله ﷾ لا يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فليس له مثيل ﷾، كما قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ فمن اعتقد أن لله مثيلا في ذاته، أو مثيلا في صفاته، أو مثيلا في أفعاله فقد كفر؛ لأنه تنقص الرب ﷾، ولأنه لم يثبت واجب الوجود لذاته.
فالله تعالى لا مثيل له لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ومن اعتقد لله مثيلا فهو في الحقيقة لم يعبد الله، وإنما يعبد مثلا صوره في خياله، ونحته له فكره، وهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن، وهو مشابه للنصارى في كفرهم؛ ولهذا قال العلامة ابن القيم:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا *** إن المشبه عابد الأوثان
وقال:
من شبه الله العظيم بخلقه *** فهو النسيب بمشرك نصراني
فمن شبه الله بخلقه فقد شابه النصارى، لأن النصارى شبهوا المسيح بالله، وقالوا: هو ابن الله -تعالى الله عما يقولون-، ومن مثل الله بخلقه فهو في الحقيقة ما عبد الله، وإنما عبد وثنا، كما أن من نفى صفات الله وأسماءه وصفاته فهو في الحقيقة لم يثبت شيئا، وإنما عبد عدما لا وجود له.
ولهذا يقول العلماء: المشبه الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والموحد يعبد إلها واحدا فردا صمدا، فالممثل مشبه يعبد عدما، اعتقد أن لله مثيلا في صفاته، أو في أفعاله هذا عبد وثنا والذي نفى الأسماء والصفات قال: ليس لله سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا إرادة وليس فوق السماوات ولا تحتها ونفى جميع الأسماء والصفات هذا في الحقيقة ما أفاد شيئا؛ لأنه لا يوجد شيء مسلوب الأسماء والصفات، كل موجود لا بد من صفات حتى الجماد.
هذه الماصة لها طول ولها عرض ولها عمق ولها ارتفاع، فإذا قلت أنا أثبت ماصة لكن هذه الماصة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق ولا ارتفاع، وليس لها مجس وليست فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه أيش تكون؟.
عدم هذا هو الذي فعله نفاة الصفات قالوا: إن الله ليس له علم ولا بصر ولا سمع ولا إرادة، وليس فوق السماوات ولا تحتها، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به ولا منفصل عنه أيش يكون؟ عدم؟ لو قلت: صف المعدوم بأكثر من هذا ما استطعت، بل إن هذا ممتنع -والعياذ بالله- أشد من العدم؛ ولهذا فإن المعطل يعبد عدما، لا وجود له، ليس هناك شيء مسلوب الأسماء والصفات، لا وجود له في الخارج أبدا.
ولذلك هؤلاء المعطلة يعبدون عدما، والممثل الذي يمثل الله يعبد وثنا، والموحد يعبد إلها واحدا فردا صمدا، فيكون مذهب أهل السنة والجماعة مذهبا خالصا صافيا من بين فرث ودم، من بين فرث التعطيل ودم التشبيه والتمثيل، نقف على هذا وفق الله الجميع لطاعته ونسأل الله للجميع التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح ونبقى مع الأسئلة إن كان هناك أسئلة بعض الوقت.
كمال قدرة الله وانتفاء العجز عنه
1 / 12
وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ.
_________
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن ذكر الطحاوي ﵀ أن عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد الله، وأنهم يعتقدون أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، يعني لا يماثله شيء من مخلوقاته قال: "ولا شيء يعجزه" يعتقد أهل السنة والجماعة وأهل الحق أن الله لا يعجزه شيء؛ لكمال قدرته ﷾.
كما قال ﷾: ﴿إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾ وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (٤٤)﴾ .
وهذا النفي وهو "ولا شيء يعجزه" يستلزم إثبات ضده من الكمال، وهكذا كل نفي ورد في الكتاب والسنة في حق الرب ﷿ فإنما هو لإثبات ضده من الكمال، ليس نفيا صرفا ولا محضا، بل يستلزم إثبات ضده من الكمال.
ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١)﴾ فهذا النفي ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لكمال علمه وقدرته، وكما قال سبحانه: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾ نفي الظلم لإثبات كمال ضده ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾؛ لكمال عدله ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لكمال علمه ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾؛ لكمال قوته واقتداره ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾؛ لكمال حياته ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾؛ لكمال عظمته وجلاله وكبريائه.
وهكذا كل نفي يأتي في الكتاب والسنة فإنما هو لإثبات ضده من الكمال، لتضمن إثبات ضده من الكمال، لا يرد في النصوص الكتاب والسنة أن في الصرف المحض الذي لا يستلزم شيئا؛ لأن النفي المحض والصرف ليس فيه كمال؛ ولهذا يوصف المعدوم بالنفي الصرف المحض، ومن ذلك من النفي الصرف المحض قول الشاعر العربي:
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل
نفى عنهم الغدر، ونفى عنهم الظلم، لكن ليس المراد أنهم مقتدرون، بل المراد يريد ضعفهم؛ لعجزهم وضعفهم بدليل ما قبل البيت وما بعده، وبدليل أنه صغرهم بقوله قُبَيِّلَةٌ هذا التصغير للتحقير، فهم لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس؛ لضعفهم وعجزهم، وإنما يكون نفي الغدر ونفي الظلم إنما يكون كمالا إذا كان مع القدرة، أما إذا كان مع العجز فلا يكون كمالا، وكما في قول الشاعر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا
فهو ينفي عن قومه الشر قال:
................. *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
ومع ذلك يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة- إذا ظلمهم أحد غفروا له، وإذا أساء إليهم أحد أحسنوا إليه، هذا كمال لو كانوا قادرين، لكنهم يفعلون ذلك لعجزهم بسبب عجزهم وضعفهم، فلم يكن كمالا في حقهم، هذا لا يرد في أسماء الله وصفاته، لا يرد في كتاب الله والسنة هذا النفي الصرف، إنما الذي يرد كما سمعتم النفي الذي يستلزم إثبات ضده إلى الكمال ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾؛ لكمال عدله.
﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لكمال علمه لا يعجزه شيء؛ لكمال قوته واقتداره ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾؛ لكمال حياته وقيوميته وهكذا.
والنصوص في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ جاءت في باب الأسماء والصفات بالإثبات المفصل وبالنفي المجمل، فالنفي في النقائص والعيوب عن الله يأتي مجملا كقوله سبحانه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)﴾ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (٤)﴾ ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ فيأتي النفي نفي النقائص والعيوب مجملا، أما الإثبات فإنه يأتي مفصلا ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ .
1 / 13
فالأسماء والصفات إثبات الأسماء والصفات تأتي مفصلة، وهذه أسماء لله وهي متضمنة للصفات ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)﴾ .
هذا من الإثبات المفصل، الأسماء والصفات تأتي مفصلة، أما النفي فيأتي مجملا، أما أهل الكلام وأهل البدع فعكسوا، فإنهم يأتون بإثبات مجمل ونفي مفصل، فإنهم يأتون بنفي مفصل وإثبات مجمل، فإذا أرادوا أن يصفوا الله إذا أرادوا أن ينفوا النقائص عن الله يأتوا بالتفصيل، النفي المفصل والإثبات المجمل، فيقول ليس بذي جثة، وليس بذي أعضاء، وليس بذي لون ولا رائحة ولا طعم ولا مجثة ولا كذا ولا كذا ولا لحم ولا دم ولا عرق... إلى آخره تفصيلات بنفي النقائص والعيوب.
أما الإثبات فإنهم يأتون بإثبات مجمل، عكسوا ما دل عليه الكتاب والسنة، وهذا النفي في نفي النقائص والعيوب مع كونه مخالفا للكتاب والسنة ففيه إساءة أدب مع الله ﷿ فإن الأدب والكمال أن تنفي النقائص إجمالا ولا تعددها ولله المثل الأعلى، لو أراد إنسان أن يمدح أميرا، أو ملكا، أو رئيسا فيقول له: أنت لست بزبال، ولست بحجام، ولست بكساح، ولست بكذا هذا يؤدب إذن، يؤدب ويعزر وإن كان صادقا، فهو صادق فالملك والأمير ليس بزبال ولا حجام ولا بكساح ولا جزار ولا كذا لكن هذا فيه إساءة أدب.
وإنما الكمال أن تأتي بالنفي المجمل فتقول: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأجل وأكمل، فهذا يكون مدحا، إذا كان هذا في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى، فإذن منهج الكتاب والسنة في الإثبات والنفي أن يكون النفي مجملا، نفي النقائص والعيوب يكون مجملا، والإثبات يكون مفصلا، إثبات السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وقد يأتي النفي مفصلا للرد على أهل البدع.
لقوله ﷾: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)﴾ للرد على الكفرة الذين نسبوا الولد إلى الله ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)﴾ هذا لأجل الرد عليهم، أما أهل البدع فإنهم ينفون نفيا مفصلا ويثبتون إثباتا مجملا، فينبغي للمسلم أن يعلم ما دل عليه الكتاب والسنة، وأن يحذر طريقة أهل البدع. نعم.
1 / 14
وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ
_________
" ولا إله غيره " هذه هي كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " التي بعث الله بها المرسلين، وأنزل الله من أجلها الكتب، وخلق الخلق الخليقة من أجلها كما سبق "لا إله غيره" هو معنى "لا إله إلا الله "، ومعناها لا معبود بحق إلا الله، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم ﵊ بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ .
هذا هو معنى كلمة التوحيد ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦)﴾ هذا النفي ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ هذا هو الإثبات، ومعنى كلمة التوحيد " لا إله غيره " هو معنى " لا إله إلا الله "، وإثبات التوحيد إنما هو بالنفي والإثبات، إثبات توحيد هذه الكلمة إنما هو بالنفي والإثبات المقتضي للحصر " لا إله إلا الله ".
ولهذا لما قال ﷾: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قال بعدها: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾؛ لأن الإثبات وحده يتطرق إليه احتمال تقول: "الله إله؟ "، يتطرق إليه احتمال، قد يخطر بخاطر شيطاني فيقول: إذا كان إلهنا الله فهل لنا إله غيره؟.
ولهذا قال سبحانه: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ثم قال بعدها: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾ فإذن إثبات التوحيد بهذه الكلمة إنما هو من أجل النفي والإثبات المقتضي للحصر، وليس هناك توحيد إلا بنفي وإثبات "لا إله غيره" لا بد من النفي والإثبات حتى يكون التوحيد، كفر وإيمان، كفر بالطاغوت وإيمان بالله ﷿ "لا إله" هذا كفر بالطاغوت، "إلا الله "هذا إيمان بالله.
نفي وإثبات ففيها كفر وإيمان كفر بالطاغوت "لا إله"، "إلا الله" إيمان بالله ﷿ تخلية ثم تحلية "لا إله" هذا تخلية، نفيت جميع الآلهة التي تعبد من دون الله ثم أثبت الألوهية لله ﷿ و"لا إله إلا الله " "لا" نافية للجنس، و"إله" اسمها، والخبر محذوف "لا إله حق إلا الله" التقدير " لا إله حق إلا الله "، والإله معناه المعبود، الإله معناه المعبود لا معبود بحق إلا الله.
وهذه الكلمة كلمة التوحيد لا تنفع صاحبها إلا بتحقيق شروطها التي دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فلا بد من العلم المنافي للجهل، لا بد من العلم المنافي للجهل، قال سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
ولهذا قال البخاري ﵀ في صحيحه: "بابٌ العلم قبل القول والعمل"، ثم استشهد بهذه الآية ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ لا بد من العلم، وقال -سبحانه-: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)﴾ ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)﴾ .
لا بد من العلم، العلم المنافي للجهل تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على نفي وإثبات، ولا بد أن تعرف الشيء الذي تنفيه، والشيء الذي تثبته، فهي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله، تنفي جميع أنواع العبادة لغير الله وتثبتها لله ﷿ والعبادة هي اسم لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كل ما أمر به الشرع ونهى عنه الشرع. كل ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب يمتثل، وكل ما نهى عنه نهي تحريم أو تنزيه يترك، هذه هي العبادة طاعة لله وإخلاص له.
لا بد من العلم، ولا بد من اليقين يقولها عن يقين منافٍ للشك والريب إن قالها وعنده شك وتردد تَرَدَّدَ في أن الإله هو المعبود بحق لا تنفع هذه الكلمة، لا بد أن يقولها عن يقين منافٍ للشكِّ والريب، ولا بد من الصدق المانع من النفاق، فإن المنافقين يقولونها لكن لا يَصْدُقون.
يقولونها بألسنتهم وقلوبهم مكذِّبة، قال الله ﷿ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)﴾ ﴿آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ بألسنتهم ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)﴾ بقلوبهم، وقال سبحانه: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)﴾ .
1 / 15
ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك. إذا قال هذه الكلمة لا إله إلا الله، ولم يخلص أعماله لله، فإن وقع في عمله شرك بطلت هذه الكلمة وانتقضت فالشرك ينقضها ويحبط جميع الأعمال. قال سبحانه: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)﴾ وقال سبحانه: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾ .
لا بد من الإخلاص. إذا وقع الشرك في عمل العبد بطل توحيده وإيمانه وانتقض كما لو توضأ وأحسن الوضوء وتطهر وأحسن الطهارة ثم أحدث، خرج منه بول أو غائط أو ريح بطلت الطهارة، كذلك كلمة التوحيد إذا قالها عن غير إخلاص في عمله شرك فإن شركه ينقض التوحيد.
لا بد من علِمْ ٍمناف للجهل، ويقين مناف للشك والريب، وصدق مانع من النفاق وإخلاص مناف للشرك، ولا بد من المحبة لهذه الكلمة ولأهلها والسرور بذلك، ولا بد من الانقياد بحقوقها، وهى الأعمال الواجبة بفعل الواجبات، وترك المحرمات.
المنقاد يكون منقادًا ضد حقوقها، ولا بد من القبول المنافي للترك فقد يقولها بعض الناس لكن لا يقبلها ممن يدعون إليها تعصبا وتكبرا إذا وجدت هذه الشروط، فإن هذه الكلمة تكون صحيحة، ويكون قالها عن تحقيق.لا بد من إخلاص التعلق بالله ﷿.
أما مَن قالها بلسانه ولكنه ينقضها بأفعاله، أو قالها وقلبه مكذب فإنها لا تنفع، ولا بد أيضا أن يوحد الله في ربوبيته وفى أسمائه وصفاته كما سبق في البارحة.أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة. توحيد الربوبية، وتوحيد الله بأفعاله هو، وتوحيد الألوهية، توحيد الله بأفعالك أنت أيها العبد، وتوحيد الأسماء والصفات كذلك. هذه الأنواع الثلاثة متلازمة، كلها مطلوبة، لا بد أن توحد الله في ربوبيته، وتوحد الله في أسمائه، وصفاته، وتوحد الله في عبادته وألوهيته.
مَن لم يأت بنوع من هذه الأنواع فلا يصح التوحيد من لم يوحد الله في ربوبيته فهو كافر ولو زعم أنه يعبد الله، ولا يمكن أن يعبد الله وهو لا يوحد الله في ربوبيته، كذلك من زعم أنه يوحد الله في أسمائه وصفاته، ولكنه لم يوحد الله في عبادته لم يكن موحدًا.
هذه الأنواع الثلاثة متلازمة، توحيد الألوهية متضمن بتوحيد الربوبية بمعنى أن مَن عَبَدَ الله وأخلص التعلق بالله ﷿ فلا بد أن يكون قد وحَّد الله في ربوبيته في ظل ذلك لا بد يوحّد الله في ربوبيته إنما عبد الله لاعتقاده أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت الذي بيده النفع والضر.
فإِذًا توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أما توحيد الربوبية فإنه مستلزم لتوحيد الألوهية، بمعنى أن مَن وحَّد الله في ربوبيته، واعتقد أن الله هو الخالق، والرازق، المدبر، المحيي، المميت، فإن هذا الاعتقاد، وهذا التوحيد يوجب له أن يوحد الله في ألوهيته ولكن ليس واحد يلتزم بما يلزمه يلزم مَن يوحِّد الله في ربوبيته أن يوحد الله في ألوهيته.
لكن ليس كل واحد يلتزم بما لزمه. والدلالات عند العلماء من أهل الأصول ثلاث دلالات:
١- دلالة التضمن.
٢- دلالة المطابقة.
٣- دلالة الالتزام.
قلنا: إن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فما معنى الاستلزام؟ وما معنى التضمن؟ وما معنى المطابقة؟.
دلالة التضمن: هو دلالة الشيء على جزء معناه أو على بعض معناه. ودلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه. ودلالة المطابقة: دلالة الشيء على جميع معناه.
فمثلا مَن عَبَد الله فإنه وحد الله في ربوبيته ووحد الله في ألوهيته، فتكون دلالة توحيد العبادة دلالة مطابقة، لأنه دل على جميع ما نهى؛ لأن توحيد العبادة يشمل أمرين:
يشمل توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فدلالة العبادة على توحيد الربوبية، والألوهية دلالة مطابقة، ودلالة توحيد العبادة على توحيد الربوبية دلالة تضمن؛ لأنه يدل على جزء معناه، فتوحيد الربوبية جزء من معنى توحيد الألوهية، ودلالة العبادة والألوهية على الربوبية والألوهية دلالة مطابقة هي دلالة الشيء على جميع معناه.
أما دلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية فهي دلالة التزام؛ لأنه خارج عن معناه مثل دلالة التوبة على التائب فالتوبة غير التائب دلالة الوالد على الولد، فالولد غير الوالد شيء خارج عنه، فتوحيد الربوبية غير توحيد الألوهية.
فدلالة توحيد الربوبية على دلالة توحيد الألوهية دلالة التزام هو شيء خارج عن معناه. أما دلالة الألوهية على الربوبية فهي دلالة تضمن لأنه في ظل الألوهية توحيد الربوبية، هذه الثلاث دلالات تسمى دلالة التضمن، ودلالة الالتزام، ودلالة المطابقة.
1 / 16
فدلالة الالتزام دلالة الشيء على خارج معناه كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة التضمن هي دلالة الشيء على جزء من معناه كدلالة توحيد الألوهية على توحيد الربوبية، ودلالة المطابقة: دلالة الشيء على جميع معناه كدلالة الألوهية على الربوبية والألوهية.
ومعنى الإله كما سبق هو المعبود، وبعض أهل الكلام كالأشاعرة وغيرهم أخطئوا في تفسير الإله، فقالوا: الإله فيه تقدير الخبر، قالوا: لا إله موجود إلا الله، وفسروا الإله بالخالق، وهذا خطأ، لو كان المعنى لا خالق إلا الله لما حصل نزاع بين النبي ﷺ وكفار قريش، ولما حصل نزاع بين الرسل وأممهم، لأن الأمم يقرون بأنه لا خالق إلا الله.
وبعض أهل الكلام كالأشاعرة وغيرهم يقولون: معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا غلط كبير؛ لأنه لو كان معنى لا خالق إلا الله لما حصل نزاع وقتال وجهاد من الرسل للكفرة؛ لأن الكفرة يقرون بأنه لا خالق إلا الله، لا خالق إلا الله، هذا لا إشكال فيه عندي.
ولا يتبين عظمة هذه الكلمة "لا إله إلا الله" وأنها كلمة التوحيد التي تنفي الشرك إلا بتفسير الإله بالمعبود، وتقدير الخبر بحق لا إله بحق إلا الله. لا معبود بحق إلا الله، وبهذا يتبين عظمة هذه الكلمة لأن الآلهة موجودة، ولكنها آلهة باطلة، قال سبحانه: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ إذًا لهم آلهة، وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ .
إذًا فيه معبودات؛ اليهود، الكافرون لهم معبود يعبدون الأصنام، والأوثان، لهم إله، وجميع الكفرة كل إنسان له معبود، لكن، وكل إنسان له دين، لكن المعبود بحق هو الله. ما سواه إلا باطل، قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ .
وكل إنسان له دين. الكفار لهم دين لكن دين باطل؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ وقال الله عن أهل الكتاب إنهم قالوا: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ فلهم دين لكن دين باطل، والدين الحق هو دين الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ .
فتفسير الإله بالخالق تفسير باطل. الذين فسروا هذا الكلام كالأشاعرة وغيرهم؛ لأنه لو كان الإله هو الخالق لما حَصَلَ خلاف بين الأنبياء وبين أممهم، ولما حصل قتال.
ولا يتبين عظمة هذه الكلمة، وأن كلمة التوحيد التي تنفي الشرك إلا بتفسير الإله هو المعبود، وهذا معناها في اللغة العربية الإله هو المعبود، وإله اسم لا النافية للجنس من أخوات إن تنصب الاسم، وترفع الخبر، وإله اسمها. والخبر محذوف تقديره لا إله حق، لا معبود حق إلا الله.
1 / 17
قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ
_________
قول الطحاوي ﵀: " قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء "، يقول إن، يريد أن يوصفه بلا انتهاء.
كلمة القديم ما وردت في أسماء الله، وإنما أحدثها أهل الكلام، لكن الطحاوي ﵀ لما رأى أن هذه الكلمة لا تدل على الاسم الذي ورد في الكتاب والسنة، إنما ورد الأول والآخر.
الأول والآخر اسمان لأزلية الله وأبديته، لما رأى الطحاوي هذا قال " قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء". فقديم بلا ابتداء تساوى اسم الأول، ودائم بلا انتهاء تساوى اسم الآخر، ولكن تسمية الله بأنه قديم محدث، أحدثه أهل الكلام.
وأهل السنة والجماعة لا يسمون الله بأنه قديم؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية، ومعنى توقيفية أي أننا نقف على ما ورد في الكتاب والسنة، ما ورد في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات نثبته لله، وما ورد في الكتاب والسنة نفيًا وعلنًا ننفيه عن الله.
وما لم يرد في الكتاب والسنة نفيًا ولا إثباتًا نتوقف: مثل الجسم والحيز والعرض. فقول الطحاوي قديم، دائم، هذا ليس من الأسماء لكن لما رأى ... -والقديم لا يفيد معنى الأول-، لكن لما رأى أنه لا يفيد بقوله قديم بلا ابتداء أي قديم لا ابتداء له، ودائم لا انتهاء لآخريته، قديم لا ابتداء لأوليته، ودائم لا انتهاء لآخريته.
لكن ما حاجتنا لها، ينبغي أن نكتفي بما ورد في الكتاب والسنة، فنقول الله الأول والآخر كما قال سبحانه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)﴾ وثبت في صحيح مسلم الدعاء المشهور أن النبي ﷺ قال: (اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) .
هذا الحديث فيه إثبات أربعة أسماء لله ﷿ الأول والآخر والظاهر والباطن، وهذه الأسماء الأربعة كل اسمين منها متقابلان فالأول والآخر متقابلان والظاهر والباطن متقابلان.
فالأول والآخر اسمان لأزليته وأبديته، فالأول اسم لأبديته ﷾، والمعنى أنه الأول الذي ليس لأوليته بداية، والآخر الذي ليس لآخريته نهاية، ولهذا فسَّرها النبي ﷺ في هذا الحديث فقال: (اللهم أنتَ الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) .
اسمان لأزليته وأبديته، واسمان لعلوه وفوقيته، وعدم حجب شيء من المخلوقات، وأنه لا يحجب شيء من المخلوقات؛ ولهذا قال: وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، وهو سبحانه الظاهر الذي ليس فوقه شيء؛ لأنه ﷾ فوق السموات، وفوق العرش مستو على عرشه ظاهر بخلقه.
وهو الباطن الذي لا يحجبه شيء من المخلوقات لا يخفى عليه شيء يرى كل شيء، ويبصر كل شيء ﷾، ولا يخفى عليه شيء من خلقه؛ من أعمالهم وسكناتهم وحركاتهم، والأول والآخر معلوم وصْف الله بالأول والآخر معلوم مستقر في الفِطَر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجد الوجود لذاته قطعًا للتسلسل؛ فإننا نشاهد حدوث الحوادث من النبات والحيوان والمعادن وحوادث التحول وغيرها.
وهذه المخلوقات ليست ممتنعة؛ لأن الممتنع لا يمكن أن يوجد؛ لأنها وجدت وليست واجبة الوجود لذاتها؛ لأنها كانت معدومة ثم وجدت فدل على أنها جائزة، وجودها جائز ليس ممتنعا؛ لأنها وجدت، والممتنع لا يوجد.
وليست واجبة الوجود لذاتها؛ لأنها كانت معدومة ثم وجدت فدل على أنها جائزة، والجائز هو الذي يوجد بعد أن كان معدوما.
وهذا المخلوق الذي يوجد بعد أن كان معدوما لا بد له من موجد يوجده، وإلا بقي معدوما كما قال سبحانه: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥)﴾ أي حدثوا من غير شيء أم هم أحدثوا أنفسهم لا بد لهم موجد، والله تعالى هو واجد الوجود لذاته ﷾، وهو الأول الذي ليس لأوله بداية، والآخر الذي ليس لآخريته نهاية، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء ﷾.
وأما اسم القديم مع أنه لم يرد في الكتاب والسنة إلا أنه لا يفيد التقدم على كل شيء إنما يفيد التقدم تقدما نسبيًّا ولا يفيد التقدم على كل شيء كما قال ﷾: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)﴾ .
يسمى العرجون القديم إذا وجد العرجون الجديد لكن ليس متقدما على كل شيء.
1 / 18
وقال ﷾: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)﴾ "والأقدمون" مبالغة في القديم وقال سبحانه: ﴿فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)﴾ ومنه سُمِّيت القَدَم قدم الإنسان؛ لأنها تتقدم بدن الإنسان والفعل يأتي متعديا ولازما. أخذني ما قدم وما حدث.ويقال: قدم هذا يَقْدُمُه يعنى تقدمه، وقال سبحانه في فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعنى يتقدمهم في النار.
ومنه: قول القديم والجديد في الشافعي، فالقول القديم ما أخذ به في العراق، والقول الجديد ما أخذ به في مصر فسمى القديم بالنسبة للقول الجديد، فالمقصود أن كلمة القديم ما تريد التقدم على كل شيء مع أنها لم ترد في الكتاب والسنة اسم القديم فهو لا يفيد التقدم على كل شيء، وإنما يفيد التقدم النسبي إذا نَسَبْته إلى ما بعده صار قديما، وإذا نسبته إلى ما بعده صار جديدا بخلاف الأول والآخر.
فإن الأول يفيد أن الله ﷾ هو الأول الذي ليس لأوليته بداية كما فسرها النبي ﷺ (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) والآخر هو الذي ليس لآخريته نهاية، كما فسرها النبي ﷺ بقوله: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) .
ولا يرد على هذا كون الجنة والنار باقيتان، وكون الناس إذا بُعِثوا يبقون؛ لأن وجودهم إنما بإيجاد الله لهم؛ لأن بقائهم بإبقاء الله لهم نعم.
1 / 19
لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ
_________
لا يفنى ولا يبيد الله ﷾ هذا تأكيد لقوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ﴾ تأكيد لقوله: قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء.
هو لا يفنى ولا يبيد هو ﷾ الباقي والزائل، وهو الباقي الذي لم يزل ﷾ ولا يزال ولا يتطرق إليه الفناء ولا التغير ولا البلاء؛ لأن حياته كاملة ﷾ هو الحيُّ القيوم.
والفناء والبَيْد متقاربان، فهذا تأكيد لكونه ﷾ هو الأول، وهو الباقي، وهو الآخر، وهو الحيُّ القيوم الذي لا يتطرق إليه ضعف، ولا نوم، ولا سِنَة، ولا يتطرق إليه موت، ولا تغيُّر؛ لأنه كامل ﷾، ولا فناء، ولا بيد، بخلاف المخلوق فإنه يفنى، ويبيد، ويزول، ويضعف، ويمرض، ويتفرق، ويموت، أما الله ﷾ فهو الأول، والآخر، وهو الحي القيوم له الحياة الكاملة.
وهو الموصوف بصفات الكمال الذي لا يتطرق إليه نقص في وجه من الوجوه.
1 / 20