Объяснение Таухидского вероисповедания - Ибн Джибрин
شرح العقيدة الطحاوية - ابن جبرين
Жанры
شرح العقيدة الطحاوية [١]
اتفقت جميع الرسل على الدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أول واجب على المكلف، ومعرفة صفات الله تدعو إلى عبادته، وتوحيد الربوبية يلزم منه توحيد العبادة، وقد اعتنى أهل العلم ببيان التوحيد بأنواعه، لا سيما توحيد العبادة.
1 / 1
أهمية التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فهذه العقيدة هي على مذهب أهل السنة والأئمة كلهم، ولكن الطحاوي ذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ وذلك لأنه كتبها لتلاميذه المختصين به الذين في قلوبهم وقع وقدر لهؤلاء الأئمة الثلاثة، الذين هم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف، وهما صاحباه اللذان دونا مذهبه، وهما اللذان كتبا المسائل التي سئل عنها ونشراها، فلأجل ذلك أصبحا مختصين به، فيقول: إن هذه العقيدة هي معتقد هؤلاء الثلاثة.
ولا ينافي هذا أن فيها معتقد الأئمة الآخرين كـ الشافعي ومالك وأحمد وبقية الأئمة؛ لأن العقيدة سالمة من الخلافات إلا خلاف المبتدعة، والمبتدعة لا يعتد بخلافهم.
قال الطحاوي ﵀: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له.
قال الشارح رحمه الله تعالى: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله ﷿، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٥٩]، وقال هود ﵇ لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٦٥]، وقال صالح ﵇ لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٧٣]، وقال شعيب ﵇ لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٨٥]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، وقال ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)، ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم] .
1 / 2
اتفاق دعوة الرسل على التوحيد
هذا الكلام يدل على أهمية التوحيد، والتوحيد الذي ذكره هو توحيد العبادة فإنه الذي دعت إليه الرسل واتفقت عليه دعوتهم، يقول: إن التوحيد هو أول ما يكلف به العباد.
فالتوحيد هو الذي تسأل عنه في الحشر في يوم المعاد، والتوحيد هو الذي يسأل عنه في القبور يسأل عنه المقبور، والتوحيد هو أول دعوة الرسل، التوحيد اتفقت عليه الرسالات، فنأخذ من هذه الأدلة أهميته، فشيء اتفقت عليه دعوة الرسل يدل على أهميته، شيء بدأ به كل رسول دعوته يدل على أهميته، فالرسل من أولهم إلى آخرهم بدؤوا دعوتهم بنوع من أنواع التوحيد وهو توحيد العبادة كما في هذه الآيات، فإن كل نبي يقول لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٥٩]، وهذا هو توحيد العبادة، وجمعهم تعالى في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، وهذا توحيد العبادة، يعني: نوحي إلى كل رسول ونقول له: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥] يعني: افعل ذلك وأمر أمتك وادعهم إلى ذلك.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، وهذا هو توحيد العبادة.
ويقول تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف:٤٥]،
و
الجواب
لو سأل لقيل: ما جعل الله ولا أذن الله لرسول أن يدعو إلى عبادة إله مع الله.
1 / 3
أول واجب على المكلفين
يذكر الشارح أن أول واجب على المكلف أن يأتي بالشهادتين، ولهذا الرسول ﵊ مكث بمكة عشر سنين لا يدعو إلا إلى الشهادتين، يدعو إلى تحقيق لا إله إلا الله وإلى تصديقه أنه رسول من الله، عشر سنين وهو لا يدعو إلا إلى توحيد العبادة، أليس ذلك دليل أهميته؟ ما فرضت عليه العبادات حينئذ؛ لأنها متفرعة عن أصل وهو التوحيد، فالعبادات كلها ما تقبل إلا بهذا الأصل، فلو تعبد المشركون فصلوا وتصدقوا وحجوا وأنفقوا وجاهدوا وقرؤوا وهم لم يوحدوا الله بل يدعون غيره معه ما قُبلت منهم عباداتهم ولن تنفعهم؛ لأنهم فقدوا شرطها.
وأهل الكلام الذين نهى علماؤنا عن الخوض في كلامهم من المعتزلة ونحوهم يقولون: إن أول واجب النظر.
وبعضهم يقول: أول واجب قصد النظر.
وبعضهم يقول: أول واجب الشك.
وهذه أقوال باطلة، فصحيح أن الله تعالى أمرنا بالنظر لأجل الاعتبار، والآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ [ق:٦] ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية:١٧-١٨]، ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف:١٨٥]، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ [يوسف:١٠٩] فالنظر هنا لأجل الاقتناع، فمثلًا: إذا دعوت مسلمًا وقلت له: أدعوك إلى الشهادتين.
فإذا توقف فادعه إلى النظر، قل له: انظر إلى هذه المخلوقات، انظر إلى هذه الأفلاك الثابتة وهذه الأفلاك الجارية وهذه المخلوقات المنبثة، هل خلقت عبثًا؟ انظر إلى نفسك وتقلب أحوالك، هل خلقت من غير خالق؟ فإذا نظر وتفكر فإنه عند ذلك يعتبر ويرجع إلى ما تدعوه إليه، فالنظر والقصد إلى النظر وسيلة ودلالة وحجة للمعاند، لا أن أول واجب هو النظر، بل يدعى من شك وتوقف إلى أن ينظر حتى يستيقن.
وأما معنى قولهم: إن أول واجب الشك فهم يقولون: إن أول ما يجب على الإنسان عندما يعقل أن يشك ثم يعمل بعد ذلك في إزالة ذلك الشك.
وهذا قول باطل، بل الواجب أولًا قبل كل شيء أن يأتي بالشهادتين، ثم بعد ذلك يعمل بمقتضاهما، والأعمال متفرعة عن الشهادتين.
1 / 4
اتفاق السلف على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان
قال ﵀: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحدٌ منهم على وليه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك] .
معنى هذا الكلام أن الأطفال ينشئون بين آبائهم، ويلقنهم الأب معالم التوحيد من حين يميز، يلقنه معرفة ربه، ومعرفة نبيه، واستحقاق الله للعبادة، ووجوب العبادة، فينشأ على الإسلام وعلى قول (لا إله إلا الله) ويسمع ذلك من أبويه وهو صغير ما وجبت عليه الأحكام، فإذا بلغ استمر في العمل، ولا يحتاج عند البلوغ أن تقول له: الآن انطق الشهادتين.
الآن أصبحت مكلفًا فإنه يكفيه نطقه فيما سبق بتشهده في صلاته، وفي إجابته للمؤذن وما أشبه ذلك، فلا حاجة بعد ذلك عند البلوغ إلى تلقينه، ولا إلى تجديد إسلامه، بل هو مسلم بين أبويه المسلمين، ومن حين يعقل وهو يلقن.
والصحيح أيضًا أنه لو بلغ بعدما صلّى لا يؤمر بإعادة الصلاة، خلافًا لبعض العلماء، فبعضهم يقول: لو صلى الظهر قبل أن يبلغ ثم بلغ بعدها باحتلام أو نحوه فنأمره بإعادة الظهر؛ لأنه صلاها قبل أن يبلغ وهي في حقه غير واجبة، فبعدما بلغ تصير واجبة عليه، والصحيح أنه لا يؤمر؛ لأن الله ما أمر بالصلاة مرتين، وقد أداها ولو قبل البلوغ، فتصبح مجزئة، فكما لا يؤمر بإعادة الصلاة بعد البلوغ ولو كان الوقت باقيًا فكذا لا يؤمر بعد البلوغ بتجديد الشهادتين، بل يكفيه أنه على الفطرة، وأنه قد تلقن وتعلم وفهم.
قال الشارح ﵀: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء، فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلمًا أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلمًا بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي ﷺ: (من كان آخر كلامه: (لا إله إلا الله) دخل الجنة) وهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية] .
هذه مسألة نظرية ليست بصحيحة، وهي قولهم: قد يوجد من ينشأ ولم يتكلم بالشهادتين من أول أمره إلى أن يبلغ، فهل تصح عبادته؟ فنقول: هذا محال.
وذلك لأن النطق بالشهادتين قد يكون ركنًا كما في التشهد، فالصلاة فيها تشهد، وفي آخره يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
ثم يأتي بالصلاة على النبي ﷺ ثم يسلم، ولا تصح الصلاة إلا بهذا التشهد، فهو ركن من أركانها، فكيف يُتصور أن إنسانًا يولد بين أبوين مسلمين ويبلغ وهو ما تكلم بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؟ هذا غير واقع، وذلك لأن المسلم دائمًا يسمع كلمة (لا إله إلا الله) في الأذان وفي الخطب وفي التشهد وعند الذكر وفي القرآن، فقد ذكرت في القرآن في عدة مواضع كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران:١٨]، فلا بد أن الصبي يقرأ من القرآن أو يسمع، وينطق بذلك، فيكون بذلك مسلمًا، فلا بد أنه قد أتى بالشهادتين.
1 / 5
أهمية توحيد العبادة
التوحيد الذي ذكرت أهميته هو توحيد العبادة، وهو أول ما يدخل به في الإسلام، فالكافر أول ما يدعى إليه، وأول ما ينطق به، يقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وذلك لقوله ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) إلى آخره، فإذا أسلم كافر يلقن الشهادتين، ويبين له معناهما، ويؤمر بالعمل بمقتضاهما، فأول ما يدخل العبد في الإسلام هو نطقه بالشهادتين واعتقاده مدلولهما.
وآخر ما يخرج العبد من هذه الدنيا يؤمر أن يختم حياته بـ (لا إله إلا الله)؛ لقول النبي ﷺ في هذا الحديث: (من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة) يعني: ختم له بالتوحيد، أو بما يدل على هذا المعنى، ففي هذه الحالة يكون مختومًا له بخاتمة حسنة، ولهذا قال ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) يعني: يكون آخر ما ينطقون به كلمة (لا إله إلا الله) حتى يختم لهم بما ابتدؤوا به، فيختم لهم بعقيدة سليمة وهي اعتقاد أن الله هو الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، فبذلك يكون أول الأمر وآخره هو هذا التوحيد الذي هو توحيد العبادة.
1 / 6
توحيد الصفات
قال ﵀: [إن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيانه أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه ﷾ أن يعبد وحده لا شريك له.
أما الأول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كـ جهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذاته المجردة عن جميع الصفات لا يُتصور له وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل] .
نعرف -بل يعرف أطفال المسلمين والحمد لله- أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ويجب أن يلقن الطفل هذه الأنواع، وأن يعرف مدلولها، والمتقدمون من هذه الأمة أكثروا من التأليف في توحيد الأسماء والصفات، وغالب كتبهم التي ألفوها في العقيدة تدور حول الأسماء والصفات، حتى ولو سموها بكتب التوحيد، كـ ابن خزيمة وغيره، فإن الخلاف في الأسماء والصفات مشتهر في القرون الأولى، فـ الجهم بن صفوان أحدث بدعته في أول القرن الثاني، ثم تبعه أتباع له سماهم السلف بالجهمية، وسموا أيضًا بالمعتزلة، وكثروا وانتشروا وتمكنوا، ومن عقيدتهم إنكار الصفات، وسبب إنكارهم للصفات وأدلتهم في ذلك أنهم اعتمدوا في الغالب على الفكر وعلى الخيال وعلى العقول، فأدلتهم على نفي الصفات أدلة تخمينية عقلية، ولهذا يقول كثير منهم: إن هذا الباب لا يكشفه إلا الخيال، وإنهم يعجزون عن أن يعبروا عنه.
والحاصل أن عقيدتهم نفي الصفات، فنفوا عن الله تعالى صفاته كلها.
ومنهم من أثبت سبع صفات كالأشعرية، ومنهم من نفى أسماء الله مع صفاته، والعلة التي نفوا لأجلها هذه الصفات هي ما ذكره الشارح ﵀ من كونهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
فهم يقولون: إن الواجب هو الله وحده، فالله تعالى واجب الوجود، وهذه لفظ من ألفاظ المتكلمين (واجب الوجود)، ومثل: (ممكن الوجوب) و(ممتنع الوجود)، وهذه من جملة ما تكلموا به وتوسعوا فيه، ومن أوصاف الله سبحانه عند المعتزلة القِدَم، أي أنه هو القديم، فيقولون: إذا أثبتنا أن الله قديم، وأثبتنا أن سمع الله قديم وقدرة الله قديمة وعلمه قديم وكلامه قديم ما صار القديم واحدًا، بل صار عددًا، فلا جرم ننفي الصفات، ونجعل القِدَم لله وحده للذات.
فنفوا الصفات وأثبتوا القدم للذات، فكيف يُردُّ عليهم؟ الشارح يقول: [إن إثبات ذات مجردة عن الصفات لا يمكن في الوجود] ولو فرض العقل إثبات كذلك فإن العقل قد يفرض المحال، فهذا من المحال، أي: مستحيل أن توجد ذات مجردة عن صفات ومتصلة بالقدم.
فكما أنكم -يا معتزلة ويا مبتدعة! - تثبتون أن لله تعالى ذاتًا.
فلا بد أن تثبتوا له الصفات؛ فإن الصفات من جملة الذات، والوحدانية لا تنافيها، فالله تعالى واحد بصفاته، وذاته وصفاته شيء واحد، ولا يلزم من إثبات الصفات تعدد.
هذا هو الرد عليهم باختصار.
1 / 7
الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى
قال ﵀: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات] هذا الكلام تقشعر منه الجلود، وهذه التفريعات فروع لمذهب أهل الوحدة، وهم طائفة يقال لهم: أهل وحدة الوجود.
أو يسمون (أهل الحلول والاتحاد)، وهم الذين يقولون: إن ذات المخلوق حالة بذات الخالق، وإنه لا فرق عندهم بين خالق ومخلوق، بل الكل شيء واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، وهذه الطائفة كانت منتشرة في القرون الوسطى، وأكثر من أشاع هذا القول في القرن الثالث رجل يقال له: الحسين الحلاج، وهو صوفي أظهر التصوف وأبطن هذا القول، ولكنه كان يظهره أحيانًا، وحفظت عنه كلمات شنيعة تدل على هذه المعتقدات، وحفظت أيضًا عن بعض أهل زمانه، فهذا القول مع شناعته يؤدي إلى هذه الأقوال الشنيعة، وقد بين الشارح ذلك على وجه الاختصار، فذكر من فروع قولهم أن فرعون صادق حينما قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤]؛ لأنه من جملة الرب، لكن أخطأ فرعون حيث خص نفسه، ولو قال: أنا وأنت وهذا وهذا كلنا الرب لكان مصيبًا، فهو صادق في أنه من جملة الرب! وكذلك المشركون لما عبدوا هذا الصنم وهذا الوثن وهذا القبر فهم على صواب؛ لأنهم ما عبدوا إلا الله، ولكنهم أخطئوا لما خصصوا، ولو قالوا: إن الله في كل شيء وكل شيء من جملة الله لكانوا مصيبين، ولكنهم لما خصصوا أخطئوا.
وعلى قولهم لا يكون هناك حلال وحرام؛ لأن الجميع شيء واحد، فلا فرق عندهم بين نكاح الأم والأخت والأجنبية، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، تعالى الله عن قولهم.
وقد حفظت عن أكابرهم كلمات شنيعة يقشعر الجلد منها، فحفظ عن الحسين الحلاج أنه كان يقول: ما في الجبة إلا الله.
يعني نفسه، وعن بعضهم أنه قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني وحفظ عنه أنهم كانوا يمشون خلفه فالتفت، فلما رآهم يمشون خلفه قال لهم: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه:١٤] تعالى الله عن قولهم! وكان بعض العلماء المتأخرين يذب عن الحلاج، ويدعي أنه من أهل العقيدة الصحيحة، وأنه موحد، ولما نقل له قوله في أبيات: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهرًا في صورة الآكل والشارب قال: لعن الله من قال هذا.
فقيل: إنه الحلاج.
فظهر له بذلك كفره، وهذا القول المذكور من الكفر الصريح؛ فإن الناسوت الناس، واللاهوت هو الإله، يعني: أظهر ناسوته -أي: أظهر الناس- في صورة نفسه.
ويقول بعضهم -وقيل: إنه الحلاج -: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنّى يكلف تعالى الله عن قولهم، والذي أدى بهم إلى هذه الأقوال الشنيعة هو أنهم لما نفوا الصفات وجعلوا وجود الله وجودًا مطلقًا أدى بهم إلى أن يقولوا: إن ذات المخلوق حالة في ذات الخالق، وإنه عين وجود المخلوقات.
تعالى الله عن ذلك! فعلى المسلم أن يعرف نفسه، وأن يعرف أنه مخلوق، وأن الرب ﷾ فوق عرشه بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، ويستحضر أنه سبحانه هو العليم بكل شيء، لا تخفى عليه من عباده خافية، وإذا استحضر عظمته وعلمه بكل شيء وعلمه بما توسوس به النفوس وما تكنه الصدور أوجب ذلك أن يعظمه حق التعظيم، وأن يخافه حق الخوف، ومعرفة صفات الله تعالى توجب للعارف بها أن يخاف من الله حق الخوف، وأن يعبده حق العبادة.
1 / 8
توحيد الربوبية
قال ﵀: [وأما الثاني فهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:١٠]] .
وتوحيد الربوبية يقرأه الأطفال في المدارس، وهو معرفة الله تعالى بأفعاله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته.
هذا هو توحيد الربوبية، ويكون بالنظر في هذه المخلوقات وفي أفعال الله تعالى، وذكروا أنه لما نزل قول الله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:١٦٣] سأل بعضهم فقال: ما هو الدليل على أن إلهنا إله واحد لا إله إلا هو؟ فنزلت الآية بعدها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:١٦٤] يعني: تفكروا في هذه الأشياء لتكون آية لكم على أي شيء.
فهي آية على أن الرب هو الإله الواحد، وكم في القرآن من آيات بمثل هذا، كقوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا﴾ [يس:٣٣]، ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ [يس:٣٧]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الروم:٢٠]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم:٢١]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم:٢٢]، وفي السور المكية الكثير من ذلك، كقوله في سورة المرسلات: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا﴾ [المرسلات:٢٥] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا﴾ [النبأ:٦] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات:٢٧] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: ﴿فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ [عبس:٢٤-٢٥] إلى آخره، فإن هذه آيات تدل على توحيد الربوبية الذي يقصد منه تثبيت توحيد الإلهية.
1 / 9
اعتراف جميع الأمم بتوحيد الربوبية
توحيد الربوبية يعترف به المشركون، ولكن هل يكفي؟ لا يكفي، لا بد من تحقيق ثمرته، وهذا التوحيد حجة عليهم في التوحيد الذي هو حق الله، يقال لهم: اعملوا لله ما دمتم أقررتم به.
يقول تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٥] يعني: أفلا تعبدونه؟! ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون:٨٦-٨٧] يعني: أفلا تتقون الشرك وتعبدون الله وحده؟! ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٨-٨٩] كيف تصرفون عن عبادته؟ فأصبح توحيد الربوبية حجة عليهم.
قال ﵀: [وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقنًا به في الباطن، كما قال له موسى: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء:١٠٢]، وقال تعالى عنه وعن قومه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤]، ولهذا لما قال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:٢٣] على وجه الإنكار له تجاهل العارف قال له موسى: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء:٢٤-٢٨] .
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهمًا عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب.
وهذا غلط، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدًا لله نافيًا له لم يكن مثبتًا له طالبًا للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بـ (ما هو)، بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف] .
نلاحظ من هذا الكلام أن جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، أي: أن الله هو الخالق الرازق المدبر الذي أوجد الكائنات، لكن قد اشتهر عن فرعون أنه ادعى الربوبية، حيث قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤]، والصحيح أنه كان معترفًا في الباطن بأن المخلوقات لها خالق؛ لأنه يعرف أنه كان معدومًا فوجد، ففرعون لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ثم خُلق، فيقال له: من ربهم قبل أن توجد أنت؟ ومن ربهم بعد أن تموت؟ فلا بد من أن فرعون معترف بوجود رب خالق، والدليل على ذلك هذه الآية، وهي قول موسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الإسراء:١٠٢]، فالله أيد موسى بتسع آيات، هي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتضليل الغمام، وما أشبهها، فلما أيده بها قال: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء﴾ يعني: الآيات ﴿إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الإسراء:١٠٢]، فأفاد بأن فرعون عالم بذلك، وقال الله عن آل فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل:١٤]، فدل هذا على كونهم مستيقنين.
وكذلك حكى الله عن ثمود قوله في قصتهم: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت:٣٨] يعني: على بصيرة مما جاءتهم به الرسل، ولكن جحدهم كان عنادًا.
ففرعون أظهر الإنكار، ولكنه كان في الباطن على يقين بما يقول موسى، ولكنه خاف أن يذهب عنه ملكه، ولهذا قال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ [الزخرف:٥١-٥٢] يعني: موسى ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف:٥٢]، فهو أراد أن يخدع قومه بما هو فيه ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف:٥٤]، وأما جوابه لما قال موسى: ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:١٠٤] ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:٢٣] فهذا على وجه العناد، وبعض المتكلمين يقول: إن فرعون سأل عن الماهية فقال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:٢٣] يعني: من أي شيء رب العالمين؟ وما ماهيته؟ والصحيح أن سؤاله إنما هو تعنت، لا أنه كان يسأل عن الماهية، فموسى ﵇ ذكر له الأدلة على إثبات الرب وقدرته وسيطرته، والآيات تدل على ذلك، قال تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [مريم:٦٥]، ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء:٢٦]، ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الشعراء:٢٨]، فاستدل عليه بهذه الأدلة الكونية التي لا يجحدها، كما استدل إبراهيم على النمرود بقوله: ﴿رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة:٢٥٨]، ثم قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة:٢٥٨]، فهذه أدلة تدل على أن الرب هو الموجد لهذه الكائنات، وهي أدلة يعترف بها أولو البصائر.
وقد ذكر الله عن المشركين أنهم يعبدون الله ويعبدون غيره في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم لا يعبدون إلا الله، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾ [الإسراء:٦٧]، فدل على أنهم في الرخاء يعبدون الله ويعبدون غيره، ولهذا قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ [الأنعام:١٣٦]، فدل على أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ولكن شركهم هذا أحبط أعمالهم فأصبحت باطلة، فلا يعتبر بما تقربوا به؛ لأن المطلوب منهم أن يكون الدين لله، وأن لا يصرف منه شيء لغير الله.
1 / 10
تقرير توحيد الربوبية
قال رحمه الله تعالى: [ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمنوية القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة هل هي قديمة أو محدثة، فلم يثبتوا ربين متماثلين] .
هذا تقرير لتوحيد الربوبية، يعني أن توحيد الربوبية هو الاعتراف بأن الله رب كل شيء، وهو الذي أقر به المشركون، كما ذكر الله ذلك عنهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف:٨٧]، وقال: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس:٣١]، فإذا كانوا مشركين ومع ذلك يعترفون بهذا النوع -وهو أن الله هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يدبر الأمر ويملك السمع والأبصار- فإن هذا لم ينفعهم ولم يدخلهم في الإسلام.
يقول: ما عرفت أمة من الأمم يشركون في توحيد الربوبية إلا المجوس، ومع ذلك فليس شركهم شركًا ظاهرًا، فهم يدعون أن العالم مخلوق من خالقين، يقولون: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر.
فالعالم عندهم صادر عن النور والظلمة، ولأجل ذلك هم يعبدون النار، فمعبودهم المقدس النار، يشعلونها ويطوفون بها ويصلون أمامها ويستقبلونها، ولأجل ذلك نهي المسلمون أن يستقبلوا النار في الصلاة حذرًا من التشبه بالمجوس، ومع ذلك ما قالوا: إن النور والظلمة سواء.
بل يقولون: إن الخيّر هو النور، وإن الظلمة شريرة لا يصدر منها خير.
فهم لا يجعلونهما سواء، وهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القديم هو النور والظلمة حادثة؟ وهذا الكلام قد ذكره شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية، أشار إلى هذا وبيّن أنهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القدم خاص بالنور والظلمة حادثة؟ وعلى القول -عندهم- بأنهما قديمان فإنهم لا يجعلونهما سواء، وهذا دليل على أنه ليس في الوجود أحد يشرك في توحيد الربوبية شركًا ظاهرًا.
1 / 11
الرد على النصارى
قال ﵀: [وأما النصارى القائلون بالتثليث فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد.
وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه وفي التعبير عنه لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم.
والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين] هذا فيه رد على النصارى، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة:٧٣]، فالنصارى يجعلون الله ثالث ثلاثة، فيجعلون عيسى ابن الله، كما قال الله عنهم: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ﴾ [المائدة:١٧]، ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة:٣٠] يعني: منهم من يقول: إن الله هو المسيح -تعالى الله عن قولهم-.
ومنهم من يقول: إنه ابن الله، وهذا أشهر وأكثر عندهم، ومنهم من يقول: إن الله ثالث ثلاثة.
وهو قولهم: بالأب والابن وروح القدس، والله يخاطب عيسى يوم القيامة فيقول: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة:١١٦]، وهذا دليل على أن المثلثة يقولون: إن الله إله، والمسيح إله، وأمه إله تعالى الله عن قولهم! فأنكر ذلك عيسى وقال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [المائدة:١١٦]، وقال: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة:١١٧]، ومشهور في كتب النصارى أنهم يقولون بالأقانيم الثلاثة، وهم مختلفون في معنى الأقانيم، وكذلك هم مختلفون هل هي قديمة كلها أو بعضها حادث؟ ومشهور عند النصارى استعمال كلمة الأقنوم، ومنهم من يفسرها بالأرواح، ومنهم من يفسرها بالآلهة أو بالأشياء القديمة، والحاصل أنهم مضطربون فيها كما سمعنا، وقد ردّ عليهم الأئمة، ومن أراد تفصيل الرد عليهم فليقرأ كتاب شيخ الإسلام (الجواب الصحيح) الذي ضمنه الرد عليهم وفصّل في أجوبتهم، واستوفى ذلك ﵀، وكذلك غيره من العلماء حيث تتبعوا أدلتهم واستوفوا ما يدور حول ذلك من الشبه، وبينوا تناقضهم، ومع ذلك ما أُثر عنهم أنهم يقولون: إن العالم صادر من ثلاثة، بل هم يعترفون في نفس الأمر بأن العالم مخلوق من واحد قادر.
1 / 12
توحيد الربوبية يوافق الفطرة
قال ﵀: [والمقصود هنا أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيرًا من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع] .
هذا بيان لما عليه الفلاسفة ونحوهم، فالاعتراف بالخالق ﷾ اعتراف فطري، ولكن الفلاسفة يريدون أن يعبروا عما فطروا عليه تعبيرًا مقنعًا، فلأجل ذلك اختلفت التعبيرات عندهم، وسيأتينا بعض تعبيراتهم التي يستدلون بها على أن العالم لم يصدر إلا من خالق واحد، وأكثرهم لما لم يقدر على التعبير زعموا أن هذا متلقىً من السمع -أي: من الشرع-، وأن الاعتراف بالخالق مأخوذ من الشرع، ولا شك أنه أمر فطري، ولو ترك كل واحد والفطرة التي فطر عليها لعرف أن له ربًا وأنه مخلوق.
ولأجل ذلك يقول النبي ﵊: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم:٣٠]، ولكن مع ذلك هناك أدلة عقلية صريحة تبين للإنسان أنه مخلوق، وقد احتج عليهم ﷾ بالعقل في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥] فإذا عرفوا أنهم لم يخلقوا من غير شيء فلا بد لهم من خالق خلقهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 13
شرح العقيدة الطحاوية [٢]
أول واجب على الإنسان الإقرار به وعلمه هو شهادة التوحيد، ويجب على المسلم أن يعرف معناها ومؤداها ولوازمها؛ إذ لا تصح منه إلا أن يأتي بها سليمة مما يشوبها من صور الشرك، ولا فلاح له بدونها، وعليها يترتب سائر العمل.
2 / 1
الدليل العقلي على وجود الخالق سبحانه
قال الشارح ﵀: [والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهًا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه] .
أتى الشارح بهذا ليبين أن هذا هو الدليل عند أهل الكلام على أن الخالق واحد، ويسمى دليلًا عقليًا، وتسمى دلالة التمانع، فيقولون: لو كان للعالم صانعان متكافئان كلاهما خالق مستقل مكافئ للآخر فأراد أحدهما تسكين شيء وأراد الآخر تحريكه، أو أراد أحدهما إحياء شخص وأراد الآخر إماتته لاختلفا، فإذا كان العالم له خالقان فقد يختلفان، يقول هذا: سنحيي هذا.
ويقول الآخر: سنميته.
تعالى الله! فإذا أراد هذا إحياءه وأراد هذا إماتته واختلفا، فماذا يحصل؟ هل يمكن أن يكون هذا الشخص حيًا ميتًا؟! لا يمكن.
هل يمكن أن يكون متحركًا ساكنًا في آن واحد؟! لا يمكن، فما يمكن أن يحصل مرادهما معًا؛ لأنه جمع بين الضدين، إذًا لا بد أن يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مراد أحد منهما، وكونه لا يحصل مراد كل منهما ممتنع أيضًا، فالجسم لا بد أن يكون إما متحركًا وإما ساكنًا، إما حيًا وإما ميتًا، فلا يمكن أن يكون خاليًا من الحركة وخاليًا من السكون، ولا يمكن أن يكون غير حي ولا ميت، إذًا لا بد أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو عاجز لا يصلح أن يكون إلهًا، وهذا يسمى عندهم دليل التمانع، وقد دل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء:٢٢] يعني: لو كان مع الله آلهة مساوية له لفسدت المخلوقات، وذلك لما يلزم من اختلاف الأهواء واختلاف الإرادات، فهذا ونحوه مما يدل عقلًا على أن العالم خالقه واحد وهو الله تعالى، وهو المتصرف في هذا الكون كما يشاء.
2 / 2
توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل
قال ﵀: [وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء:٢٢] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل ﵈، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان:٢٥]، ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٥]] .
كثير من المتكلمين يدعّون أن التوحيد الذي دلت عليه هذه الآية والذي دل عليه دلالة التمانع هو الذي دعت إليه الرسل، وهذا خطأ، بل الرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة، وذلك لأن توحيد الربوبية فطري لم ينكره المشركون الأولون، بل جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، كما ذكرنا في الآيات السابقة، ومنها قول الله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٥]، وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت:٦١]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت:٦٣]، فإذا كانوا معترفين بهذا النوع الذي هو توحيد الربوبية وأن الرب هو الخالق وحده فهذا يدل على أن الرسل إنما دعت إلى التوحيد القصدي الإرادي الذي هو توحيد الإلهية أو توحيد العبودية.
2 / 3
المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية
قال ﵀: [ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح:٢٣]، وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن ابن عباس ﵄ وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ذكرها ابن عباس ﵄ قبيلة قبيلة] .
معروف أن الرسل دعوا إلى توحيد العبادة الذي هو توحيد الطلب والقصد، وهو التوحيد الإرادي العملي الذي طلبه الله من عباده وأمرهم به، وضده الشرك الذي هو دعوة غير الله تعالى معه، والأمم السابقة متفقون -كما سمعنا- على أن الخالق لهذا العالم واحد هو الله، ومع ذلك يدعون آلهة غيره ويسمونها آلهة، كما حكى الله عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء:٧١]، وأنهم قالوا لما كسرها: ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٥٩]، وقولهم: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء:٦٢]، وقولهم: ﴿حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء:٦٨] فسموها آلهة، ومعلوم أنهم يألهونها، أي: يحبونها ويعظمونها ويصرفون لها أنواع التأله، وهكذا فعل المشركون في العهد النبوي، فإن قصدهم إنما هو التقرب إليها.
وأما غرضهم منها فقد ذكره الله تعالى في قوله عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣] هذه مقالة المشركين، وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس:١٨]، ورد عليهم كما حكى عن الرجل المؤمن بقوله: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ﴾ [يس:٢٣]، فأخبر بأنهم إنما يريدون شفاعتهم، وأنهم لا يشفعون ولا تغني شفاعتهم شيئًا، وهذا هو قصد المشركين الأولين والمعاصرين سواء، وهو أنهم يريدون شفاعتهم، ويريدون التوسل بهم، ويزعمون أنهم لهم وجاهة ولهم صلاح، فلكونهم ذوي صلاح يشفعون لهم شفاعة تفيدهم إما في العاجل وإما في الآجل.
وأول ما حدث هذا الشرك في قوم نوح، كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا﴾ [نوح:٢٣] الخ، فروى البخاري عن ابن عباس قال: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح.
كانوا رجالًا من أهل العلم ومن أهل العبادة ومن أهل الفضل، فلما ماتوا أسف تلامذتهم عليهم، فجاءهم الشيطان وقال: صوروهم وانسبوا صورهم حتى تتذكروا عبادتهم أو تتذكروا علومهم فتعملوا بها، فصوروا تماثيل وسموها بأسمائهم، هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، ولما ذهب أولئك الذين صوروهم ونشأ أولاد لهم جهال وصاروا يرون هذه الصور جاءهم الشيطان وقال: آباؤكم ما صوروهم إلا ليعظموهم؛ فإنهم من أهل الصلاح.
فعند ذلك عظموهم، وزادوا من تعظيمهم شيئًا فشيئًا إلى أن صاروا يصرفون لهم حق الله، ثم جاء الطوفان وأغرق من على الأرض، ولكن بقيت صور أولئك مدفونة حتى العصر الجاهلي، وأول من أثارها عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي، وهو الذي يقول عنه ﷺ: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم)، فذكروا أن الشيطان تمثل له في صورة كاهن، وكلام الكهنة يكون مسجوعًا، فقال له: ائت جدة، تجد بها أصنامًا معدة، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.
ففعل فأخبره بأسمائها، فتفرقت هذه الأصنام الخمسة في العرب، وصارت معبودة إلى العهد النبوي، وهي صور قديمة من عهد نوح احتفظ بها وبأمثالها وصارت تعبد إلى العهد النبوي، فهذا أول شرك وآخره، وهو الشرك بعبادة الصالحين، وبتسميتهم أولياء أو سادة أو أفاضل أو أشرافًا، وهذه التسمية أوجبت للناس أن يغلوا فيهم حتى صرفوا لهم خالص العبادة.
2 / 4
أصل الشرك تعظيم القبور
قال ﵀: [وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي علي بن أبي طالب ﵁: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله ﷺ؟ أمرني ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته)، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر مما فعلوا قالت عائشة ﵂: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي الصحيحين أنه ذكر لرسول الله ﵊ في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)، وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)] .
هذه أحاديث تدل على أن أصل الشرك هو تعظيم القبور، سيما قبور الأولياء والسادة والصالحين، وبالطريق الأولى قبور الأنبياء والرسل، فالنبي ﵊ عرف هذا، وعرف أنه أكبر سبب في حدوث الشرك في العالم، وأن قوم نوح لما مات أولئك الصالحون فعلوا ما يلي: أولًا: عكفوا على قبورهم.
ثانيًا: صوروا تماثيلهم.
ثالثًا: طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وكذلك وقع هذا في النصارى، وكذلك في اليهود، وكذلك في الأمم الأخرى، فسبب الشرك فيهم هو عبادة الأولياء والصالحين والأنبياء ونحوهم.
وفي هذه الأحاديث يقول ﷺ: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وكذلك يقول ﵊: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقول عائشة: يحذر مما صنعوا.
أي: يحذر فعلهم.
تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي: لجعل بارزًا، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا.
وكذلك في مرض موته ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة يقال لها: (مارية)، وفيها صور، فقال ﵊: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله) يخاطب أم سلمة أو أم حبيبة، فإنهم جمعوا بين الفتنتين: فتنة التماثيل، وفتنة القبور، فإذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا صورته وهو (التمثال)، ثم بعد ذلك بنوا على قبره، وقد يكون البناء على قبره يتقدم الصورة، فهم يبنون على قبره ويصورون صورته، فجمعوا بين فتنتين: فتنة الصور وفتنة القبور، وكلاهما من الأسباب الداعية إلى الشرك، وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة، والنبي ﵊ في آخر حياته قبل أن يموت بخمس حذر من ذلك على المنبر فقال: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ثم لما كان في سياق الموت اهتم بهذا الأمر، وكانت عليه قطيفة كلما تسجى بها واغتم كشفها، فأخذ يقول وهو في تلك الحال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) كأنه يشير إلى أنكم لا تتخذوا قبري مسجدًا كما فعل أولئك.
وقد بين العلماء أن معنى اتخاذها مساجد هو تحري تلك الأماكن للصلاة عندها، فمجرد قصدها لأجل الصلاة عندها اتخاذ لها ولو لم يكن هناك بناء، ولو لم يبنوا عليها بنيانًا مثل هذا المسجد، بل ما دام أنه يقصد هذه البقعة التي يزعم أن فيها قبر ولي أو قبر نبي أو قبر سيد أو قبر رجل صالح، ويفضل الصلاة عندها ويجلس عندها، ويطيل الجلوس، ويتبرك بتربتها فقد اتخذها مسجدًا شاء أم أبى ما دام أنه يتحراها للصلاة ويفضل الصلاة عندها على الصلاة في بيوت الله تعالى، فهو ممن اتخذها مسجدا، سواء أقيم عليها بناء أو لم يقم عليها.
ولما كانت القبور مظنة الفتنة حرص ﵊ على أن لا يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، فثبت أنه نهى أن ترفع القبور، وأن يبنى عليها، وأن تجصص، وأن يكتب عليها، وأن تسرج -يعني: تنور-؛ لأن هذه الأشياء تدفع الجهال إلى الاعتقاد فيها، فإذا رأوا هذا القبر على هذه الحال قالوا: هذا قبر ولي.
هذا قبر سيد.
هذا ممن يتبرك به.
هذا ممن يرجى تأثيره ونفعه.
فيقصدونه ويغلون فيه فيحصل الشرك، فنبينا ﵊ حسم مادة الشرك، ومنع من الوسائل التي توقع فيه، وقد بعث عليًا ﵁ بقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) يعني: سويته بالقبور الأخرى.
وأمره بطمس الصور؛ لأن الصور أصل في عبادة غير الله، وأمره بتسوية القبور، أي: بتخفيض القبر المشرف الذي قد رفع على ما سواه من القبور حتى يسوى بغيره من القبور مخافة أن يعتقد فيه، فهذا دليل على أنه ﵊ قد حرص كل الحرص على أن تكون أمته متمسكة بتوحيد الله تعالى.
2 / 5
من الشرك عبادة الكواكب
قال ﵀: [ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، وشرك قوم إبراهيم ﵇ كان -فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم] .
عبادة الكواكب أو الأفلاك كالشمس والقمر من جملة ما وقع فيه بعض الأمم، ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن ذلك، وأخبر بضلال من يفعله، وحكى الله تعالى عن ملكة سبأ وقومها بقوله عن الهدهد: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل:٢٤]، ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ [النمل:٢٥] يعني: صدهم الشيطان عن سجودهم لله الذي خلقهم ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النمل:٢٥]، فهذا دليل على أن هناك أممًا عبدوا الشمس، وأخبر النبي ﵊ بأن المشركين يسجدون لها، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها فقال: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها المشركون) وهناك من شركهم بعبادة الكواكب.
وقيل: إن قوم إبراهيم شركهم بعبادة الكواكب، كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وقد حكى الله عنهم أنهم يعبدون أصنامًا، كقولهم: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء:٧١]، وكانت أصنامهم من حجارة أو من خشب، ولأجل ذلك قال لهم إبراهيم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ [الشعراء:٧٥-٧٧] وقال: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء:٥٧] ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ [الأنبياء:٥٨] وقال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:٩٦] يعني: خلقكم وخلق ما عملتم بأيديكم.
فهذا دليل على أنهم كانوا يعبدون أصنامًا منحوتة، ولكن مع ذلك كانوا يعبدون الكواكب، وقد قيل: إن من أدلة ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام:٧٦] على وجه المناظرة، وكذلك قال للقمر: هذا ربي.
وقال للشمس (هذا ربي هذا أكبر) قيل: إن من أدلة ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات:٨٨-٨٩]، مما يدل على أنهم كانوا ينظرون أيضًا في النجوم.
فعبادة الكواكب لا شك أنها شرك، وذلك لأن هذه الكواكب مخلوقة مسيرة، والله هو الذي يسيرها، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: ﴿وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الأعراف:٥٤] .
والحاصل أن من جملة المعبودات عبادة الكواكب وبناء الهياكل لها، وكل ذلك مما نفاه الإسلام وحث المسلمين على أن تكون عبادتهم لله وحده.
2 / 6
شبهة المشركين في عبادتهم لغير الله
قال ﵀: [وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء كما أخبر عنهم تعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣]، ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس:١٨]] .
قد تقدم أن المشركين الأولين يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله تعالى، حكى الله ذلك عن مشركي العرب في عدة آيات، ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٩] أي: هذا لله وحده، ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٩]، وهذا يبين أنهم يعترفون بهذا، وأنه صار حجة عليهم، فاعترافهم بتوحيد الربوبية حجة عليهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد الإلهية ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٩] أي: كيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعرفون أنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وهو رب السماوات السبع، وهو رب العرش العظيم، وهو الذي له الأرض وله السماوات وله المخلوقات، ومع ذلك تعبدون غيره! أين عقولكم؟ فسئلوا لماذا تعبدون هذه المعبودات؟ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣] أي: نريد أن يقربونا إليه.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس:١٨] أي: ما نريد إلا شفاعتهم.
هذه مقالتهم، وهي بعينها مقالة عباد القبور وعباد الأولياء ونحوهم الذين يقولون: إنهم أناس ذوو فضل ومنزلة، والله يقبل منهم ولا يقبل منا، فإذا تقربنا إليهم أدخلونا على الله، وقبلت أعمالنا بسببهم.
ويضربون لذلك مثلًا بملوك الدنيا، فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفعاء، فإذا أردت حاجة عندهم فإنك تتوسل بأحد الوزراء أو أحد الكتاب أو أحد الخدم حتى يدخلك عليهم ويشفع لك عندهم.
وهذا قياس فاسد؛ فإن الملوك بشر لا يعرفون ما في الضمير، ولا يعرفون الصادق من الكاذب، فيحتاجون إلى أن يقبلوا شفاعة من يعرفونه، والرب ﷾ ليس بحاجة إلى من يعرفه، فإنه يعلم ما في الضمائر، ويعلم ما توسوس به النفوس، وهو عليم بذات الصدور، فلا حاجة إلى أن يشفع عنده أحد، وإن كان في الآخرة يأذن في الشفاعة لبعض عباده ويقبل شفاعتهم تكريمًا لهم، ولكن بإذنه، كما قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢٥٥] .
2 / 7