Египетский журнал «Аль-Зухур»
مجلة «الزهور» المصرية
Издатель
دار صادر تصويرا عن
Жанры
ـ[مجلة «الزهور» المصرية]ـ
أسسها: أَنْطُون الْجُمَيِّل والشيخ أمين تقي الدين
الناشر: دار وصادر (تصويرا عن: مطبعة المعارف بشارع الفجالة - مصر)
عام النشر: صدرت من ١٩١٠ - ١٩١٣ م
عدد الأجزاء: ٤
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أَنْطُون الْجُمَيِّل (١٨٨٧ - ١٩٤٨) أنطون الجميّل أحد أبرز رجال الأدب والسياسة والصحافة العربية في مصر. ولد في بيروت، وتلقى دراسته في مدرسة الحكمة، ومدرسة الآباء اليسوعيين، بدأ أنطون الجميل حياته معلمًا لكنه سرعان ما اتجه إلى الأدب والصحافة، وأعانه على ذلك ثقافته العربية والفرنسية الواسعة والعميقة، فعمل محررًا في جريدة «البشير» سنة ١٩٠٨م التي كان يصدرها اليسوعيون في بيروت، وبقي في هذا العمل إلى أن هاجر إلى مصر عام ١٩٠٩ حيث اشترك مع أمين تقي الدين في إصدار مجلة «الزهور» في الأول من آذار عام ١٩١٠، لكن المجلة توقفت بعد أربع سنوات استطاعت فيها أن تحقق قفزة جديدة في صحافة الأدب، وقد اختار الجميّل من القصائد التي نشرت فيها طائفة وأصدرها في كتاب تحت عنوان «مختارات الزهور». بعد ذلك عمل أنطون الجميّل رئيسًا للجنة الموازنة في وزارة المالية المصرية. في عام ١٩٣٢ عيّن رئيسًا لتحرير جريدة «الأهرام»، وأثّر تأثيرًا مهمًا في مسيرتها طوال مدة رئاسته لها، وقد ظل في هذا المنصب حتى وفاته. وكان مكتبه في الأهرام يستقبل يوميًا شخصيات مصرية سياسية وثقافية على جانب كبير من الأهمية والشهرة والنفوذ. انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ المصري لعدة دورات، بعد أن مُنح الجنسية المصرية، كما انتُخب عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي في مصر، وكثير من الجمعيات الأخرى. أحب مصر كما أحب لبنان، وكان يدعو باستمرار إلى توثيق العلاقات بين القطرين. لم يتزوج بل بقي عازبًا، ومُنِح في أواخر حياته لقب «باشا». أحب الأديبة مي زيادة حبًا عميقًا صامتًا (!!)، إذ جمع بين روحيهما التقارب في الاتجاه الأدبي، وقرابة الموطن وغربة الدار، لكن هذا الحب المكتوم انتهى إلى شيء من القطيعة بعد عودة مي من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان، لأنه شُغل عنها في أثناء مرضها. أولع أنطون الجميل بالأدب والشعر قبل أن يصبح صحفيًا، وقد أدى به هذا الولع إلى الاتصال بالشعراء، والإقبال على مجالسهم، وعقد أواصر الصداقة معهم، وكان كثير التردد إلى ندوة الشاعر إسماعيل صبري التي ضمت صفوة أدباء وادي النيل وشعرائه، حتى أصبح نجمًا لامعًا فيها .. وفي أجواء هذه الندوة تنفست شاعريته الخصبة، وتجلت مواهبه الأصيلة. كانت مقالاته في الأهرام أنيقة إلى أبعد الحدود، ينتقي ألفاظها وينسق جملها، ومهما يكن الموضوع الذي يتناوله دقيقًا وجدّيًا، فإننا نحس شاعرية المعاني والأفكار تقطر رقة وعذوبة، أو تتلظى حمية، خالصة من أي وعورة أو جفاء. كان يصب آراءه في فقرات هي أدنى إلى الشعر منها إلى النثر. اهتم بدراسة شعراء جيله كشوقي، وإسماعيل صبري، وخليل مطران، وولي الدين يكن وغيرهم، دون أن يعمد إلى جرح أحدهم، أو الإساءة إليه، أو النيل منه، بل كان يقف دائمًا موقف الناقد النزيه المحايد البصير الذي لم تجرفه الأهواء والأحقاد. كان ذوقه السليم وإحساسه المرهف هما المعيار الذي ينطلق منه في دراساته ونقده. ألف عددًا من الكتب والمسرحيات منها «أبطال الحرية» وهي مسرحية عن الانقلاب العثماني، و«وفاء السموأل» وهي مسرحية أيضًا ضمنها الكثير من شعره، «شوقي الشاعر»، و«وليّ الدين يكن» و«طانيوس عبده» و«خليل مطران» و«الاقتصاد والنظام المنزلي» (وهي محاضرة) و«البحر المتوسط والتمدن» و«الفتاة والبيت» (ترجمة عن الفرنسية) و«مختارات الزهور». _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال لـ عيسى فتوح، عن الموسوعة العربية (السورية) وجاء في الموسوعة العربية العالمية، ما نصه: الجميل، أنطون (١٣٠٤ - ١٣٦٨هـ، ١٨٨٧ - ١٩٤٨م). صحفي لبنانيٌ من كبار صحفيي النهضة. ولد في بيروت ودرس في الجامعة اليسوعية حيث بدأ ممارسته الصحفية في مجلتها البشير (١٩٠٦م). سافر إلى مصر عام ١٩٠٧م، وبدأ حياته المهنية أمينًا لوزارة المال في القاهرة. غير أن الصحافة كانت تستهويه أكثر من الوظيفة، فأسس عام ١٩٠٧م مجلة الزهور بالاشتراك مع أمين تقي الدين. وكانت منبرًا لكبار أقلام العصر من الشعراء والكتاب من أمثال: شوقي وحافظ ومطران والمنفلوطي، وولي الدين ومي زيادة والزهاوي وشبلي شميل وآخرين؛ وقد عرفت بمستوى فكري عال ومناخ صحفي راق. في عام ١٩٠٩م أسس حزب الاتحاد اللبناني، ليناهض الحكم العثماني في بلاده، وجعل الزهور منبرًا له. كان يكتب فيها الموضوعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وظل يصدرها حتى عام ١٩١١م. انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ في مصر (١٩٣٤ - ١٩٤٥م). وخلف داود بركات في رئاسة تحرير الأهرام عام ١٩٣٣م وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.
أمين تقي الدين الشاعر الكبير والناثر المبدع إعداد: وفيق غريزي شاعر مبدع، ومحام بارع، وأديب مميز، وصحافي لامع. أطرب القلوب والعقول بشعره فاهتز له الوجدان. صنّف من الرعيل الأول بين الشعراء في ميله إلى التجديد شكلًا ومضمونًا، يوم كان الشعر يرسف في قيود التقليد. قصائده عدّت من عيون الشعر لما فيها من صياغة بارعة محكمة الصنع وضاءة كالشمس، ليّنة كالنسائم، تتّسم بالرقة والشفافية. إنه الشاعر والناثر أمين تقي الدين. نشأته وحياته نشأ الشاعر أمين تقي الدين في عصر مضطرب قلق، حيث ولد في بلدة بعقلين الشوف، عام ١٨٨٤. والده القاضي سعيد تقي الدين كان رئيس محكمة الشوف لسنوات عدة. لما بلغ السابعة من عمره دخل مدرسة الداوودية في عبيه، حيث تلقى دروسه لمدة عامين. ومنها انتقل إلى مدرسة الحكمة في بيروت وتتلمذ على ايدي الشيخ عبد الله البستاني. من الحكمة سافر إلى مصر سنة ١٩٠٥ وبقي هناك تسع سنوات، حيث عمل في الصحافة اليومية في جريدة «الظاهر» لصاحبها محمد أبو شادي. ودخل كلية الحقوق الخديوية، ونال شهادة الليسانس في جامعة «ديجون» فرنسا حيث كان يسافر إليها في نهاية كل سنة. طلب إليه صديقه المفكر اللبناني انطون الجميل أن يعاونه في تحرير مجلة «الزهور» ففعل وأصبح شريكًا له عام ١٩١١. صقلت أرض مصر شعور شاعرنا وجلت قريحته، جراء اتصاله المباشر بالأدباء المصريين من جهة، والأدباء اللبنانيين المهاجرين إلى الديار المصرية من جهة ثانية. وأبرز المبدعين الذين أقام علاقات صداقة معهم: أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ ابراهيم، وولي الدين يكن، واسماعيل صبري، ومحمود سامي البارودي، وشاعر القطرين خليل مطران، وجرجي زيدان، وشاعر الأرز شبلي الملاط، والمفكر شبلي شميل والامام الشاعر محمد العبد وغيرهم. قبل اعلان الحرب العالمية الأولى عاد أمين تقي الدين في العام ١٩١٣ إلى أرض الوطن، وما أن استقر في بلدته حتى أرسلت السلطة العسكرية مذكرة احضار له. فطُلب اليه سرًا أن يتوارى عن الأنظار، لأن قائد درك بيت الدين قادم مع ثلة من جنوده للقبض عليه. فلجأ شاعرنا إلى مزرعة يملكها ذووه في ضواحي البلدة. وهناك انكب على كتابة المقالات والشعر، وترجم قصة «شاب فقير» من الفرنسية إلى العربية. ويُقال إنه حُكم عليه بالإعدام، وانه فرّ من وجه السلطات العثمانية مدة من الزمن. وقد روى شاعرنا قصة نجاته من قبضة الأتراك في حديث لإحدى المجلات اللبنانية (مجلة المكشوف). واثر انتهاء الحرب، وفرض نظام الانتداب على لبنان، عهد اليه الفرنسيون شؤون الإعاشة، ثم تم تعيينه عضوًا في المحكمة التي تشكلت للنظر في بيوع الحرب وقضى فيها عامين. بعد ذلك، نزل إلى بيروت وعمل في الصحافة، وبدأ يكتب في «البيرق» ثم في «البرق»، وأنشأ مكتبًا للمحاماة العام ١٩١٩ مع صديقه جبرائيل نصار، وما لبث أن تحوّل مكتبه إلى منتدى شعري وملتقى الشعراء والأدباء أمثال: الأخطل الصغير، وموسى نمور، وميشال زكور، ووديع عقل، والياس فيّاض، وأديب مظهر، والياس أبو شبكة الذي كان يقرأ على مسامع أمين تقي الدين ما تفيض به قريحته من شعر. ساهم شاعرنا في تأسيس «الشبيبة اللبنانية» العام ١٩٢٠، وانضم إلى رابطة «الأدب العربي» وهو من مؤسّسي «الرابطة الأدبية» التي دعا إليها الأخطل الصغير. وفي العام ١٩٢١ أصبح سكرتيرًا لنقابة المحامين في بيروت. ترشح للانتخابات النيابية في أكثر من مرة ولم يُكتب له النجاح. وساهم في تأسيس عدد من الأحزاب وهي: حزب الاتحاد الديمقراطي، حزب الجبهة اللبنانية - مع يوسف السودا والياس الخوري والياس البعقليني. صفاته ومميزاته الشعرية كان الشاعر أمين تقي الدين محبوبًا من الجميع، سريع النكتة، أنيقًا في ملبسه، حلو الحديث، مترفعًا عن الصغائر، طيب القلب والسريرة. لم يسخر قلمه لمصلحة أحد مهما علا شأنه، يعتمد على علاقاته بالفئات الشعبية، يكره المدح والإطراء أو الكذب والتملّق. كان لبنانيًا حتى العظم، وتجلت لبنانيته بشعره ونثره. كانت مرافعاته في القضاء حجة في البلاغة حتى أن رئيس محكمة الجنايات الشيخ محمد الجسر قال له: «إني أخشى على العدل من بلاغتك، فقد تستطيع ببيانك أن تجعل الحق باطلًا، والباطل حقًا». ومن الحوادث التي تُروى عنه: أن شخصًا قصد الشاعر أمين لكي يتوسط له مع الشيخ محمد الجسر من أجل حل مشكلة، فكتب إليه أمين تقي الدين على البطاقة ما يلي: «أخي الشيخ محمد. حق حامل هذه البطاقة إليك، كحقه عليّ وعليك. إذ رآني موضعًا لأمله، ورآك موضعًا لقضاء حاجته، فأنا حققت الأمل، فأنجز له الحاجة. والسلام عليك». رغب شاعرنا في قرض الشعر وهو في سن الحداثة وعشق الشعر عشقًا كبيرًا. وكان إذ ذاك في مدرسة الحكمة. وأراد شقيقه محمود يومًا أن يختبر مقدرته في النظم، فقال له سأروي لك هذه القصة، وإذا كنت شاعرًا حقًا فاروها لنا شعرًا؛ وروى له القصة التالية: كان في برج البراجنة رجل وجيه يُدعى محمد العرب يتخلّق بأخلاق العرب من كرم ووفاء. وكان أحد أهالي البرج قد قتل ولده وهرب خوفًا من انتقام اخوة القتيل، وقادته قدماه وهو لا يدري، إلى بيت محمد العرب نفسه - والد القتيل، فدخل عليه فقبّل يده وقال: أنا وقيعك ولا أستحق أن أقبّل يدك ويدي لا تزال ملطخة بدم. قال محمد: بدم مَن؟ أجاب الرجل أنا قاتل ابنك. وفي تلك اللحظة دخل اخوة القتيل على والدهم وسألوا والدهم عن القاتل، فقال لهم رأيته هاربًا إلى خارج القرية. وبعد أن انتهى محمود من سرد الحكاية، غاب شاعرنا مدّة قصيرة من الزمن ليعود وقد نظم القصة شعرًا. شعره جزل الألفاظ، رائق الاسلوب، متين القوافي، سالم من العيوب، لا ابتذال ولا تكلف، تتجلى البساطة والعفوية، في أبياته، وتكاد الطلاوة تتدفق من صدوره واعجازه. إنه شاعر انطلق من عاطفته وإحساسه وشعوره، لا يبالغ ولا يغالي ولا يقول ما لا يحتمله الناس، فالشعر إذا لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو تلحين وأوزان حسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي. والشعر عند أمين تقي الدين يصدر عن القلب ولواعج الفؤاد ليستقر في القلب فورًا لا في الأذن. لقد نظم في أغراض كثيرة: في الوطنيات، في الرثاء، في الوجدانيات، في الاجتماعيات، في الاخوانيات». بين الوجدان .. والوطن كان شعره الوجداني شعر الاباء، وعزة النفس، وكرم الأخلاق، «اذا تعذب فلا يضعف ولا تخور قواه. فهو صامد تجاه مصائب الأحداث، ثابت الجنان» ويقول في شكوى الدهر: تسائلني كيف يشقى الكريم ... كأني لبست الشقاء جديدا تصدى لي الدهر مستبسلًا ... وأرصدت للدهر خلقًا شديدا كلانا على عزمه ثابت ... حديد القوى يستفزّ حديدا ووالله ما شدّ إلا شددت ... فلاقى ولاقيت خصمًا عنيدا إذا لان عزمي استراح الزمان ... وإن وهن الدهر عشت سعيدا أحب شاعرنا وطنه كما لم يحبه إنسان من قبل، وأخلص له كل الإخلاص، وتغنى به. وأحب طبيعته وارتاح إليها وبثها لواعج صدره، وقصيدته «الله يا لبنان» من أروع القصائد الوطنية على الإطلاق، تناقلتها الألسن من جيل إلى جيل، ويقول في مطلعها: الله يا لبنان ما أجمل ... وأروع الشيب الذي جلّلك بين يديك الملك في جاهه ... على الثرى أو عزّه في الفلك أنت نعيم الله في وعده ... مثلث بالنعمة من مثلك عندما يرى الجهل والضعف في بني وطنه ينتفض داعيًا إلى الوحدة ونبذ الخلافات وبسط التآخي، فيقول: تريد لقومنا وطنًا عزيزًا ... ويأبى الجهل إلا أن يهونا تطاعن أهله عبثًا وعفوًا ... ولست أرى سوى الوطن الطعينا الشاعر في أقلام الآخرين قال عن أمين تقي الدين الشاعر والأديب أمين نخلة الذي ربطته به صداقة عميقة: «اشعر بين المقلّ والمكثار، يقول القصيدة اثر القصيدة. أو يسكت حولًا كاملًا. وهو إن نظم الشعر فلخطرة تخطر على باله، أو جيشة تجيش في صدره. وقد ينظمه في خلوته وفي روحه وفي مجلس أدب وظرف يتفق له. حاضر القافية مكينها. معلم اللفظ روعة وسلاسة. أما المعنى فلا يزال في شأوه الأنسب، حتى يقع له دقيقًا صافيًا، لا اثر عليه للكد والإعنات». أما المؤرخ فؤاد افرام البستاني فقال: «... كان أمين تقي الدين في مقالاته المتفرقة، وقصائده المتداولة حفظًا وإعجابًا، أستاذ فن دقيق، ومثال إنشاء صحيح، وقدوة في تفهم هذه المفردات النابضة حياة، المتململة غبطة وألمًا، فغدا أقرب القدماء إلى النشوة الفنية الحديثة، كما كان أقرب المحدّثين إلى المتانة السليمة والصفاء القديم». وشبّه البعض شعره بشعر ولي الدين يكن. والطريف في أمر شاعرنا أنه لم ينشر أي ديوان شعر. ورغم ذلك احتل مكانته بين المبدعين اللبنانيين والعرب. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقلا عن مجلة الجيش اللبناني (العدد ٢٤٠ - يونيو ٢٠٠٥)
مجلة الزهور (*) محمد رجب البيومي وقع في يدي وأنا طالب ناشئ مجموعة شعرية (**) عنوانها (مختارات الزهور)، وهي تضم قصائد معاصرة لكبار الشعراء في العالم العربي مبتدئة بإسماعيل صبري فأحمد شوقي فوليّ الدين يكن فخليل مطران فحافظ إبراهيم إلى أسماء لامعة أخرى مثل أحمد محرم وشبلي ملاط وبشارة الخوري، ونقولا رزق الله، وعبد الحميد الرافعي، وأمين ناصر الدين، وداود عمون والبارودي وشكيب أرسلان وطانيوس عبده، وقد قرأت قصائد المجموعة، وحفظت أكثر ما قرأت، وعرفت عن هؤلاء الشعراء ما حببهم إليّ، إذ أن كل شاعر قد تقدمته كلمة موجزة عن حياته، وصورة شمسية لذاته وكان التعريف بقلم أحد أديبين هما خليل مطران وأنطون الجميل، وقد علمت أن هذه المختارات من مجلة تسمى بالزهور، وهي مجلة أدبية جمعت أئمة البيان في العالم العربي، فتشوقت إلى قراءة أعداد المجلة ذاتها، وزادت رغبتي في هذه القراءة حين وجدت الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول في كلمته عن أنطون الجميل التي ألقاها بمجمع اللغة: (إن مجلة الزهور) أدبية يهذبها الدين، وهاتان النزعتان نزعتا الأدب والدين تجتمعان في الرسالة. وإذن فمجلة الزهور قريبة من مجلة الرسالة التي نشأت في مدرستها الأدبية، مع فارق الزمن المطّرد بين النمو المتوقع للرسالة بعد عشرين عاما، فأخذت أتخيل ما يمكن أن تكون سجلته الزهور في صفحاتها، وأرى بالحدس الواعي أبوابًا عن المقالة الأدبية، وعن البحوث التاريخية، وقصصا وقصائد وتراجم للشخصيات وتراجم أدبية عن الغرب والشرق، هذا ما كنت أره بالحدس الواعي، ثم تفضلت مجلة الهلال فأمدتني بمجموعة المجلة كي أكتب عنها، فتصفحتها على شوق، فرأيت بالعيان ما ظننته بالحسبان، وكنت كما قال عبد الرحمن شكري في بعض قصائده. وكنت كذي حلم رأى طيف جنة ... فلما تمشى في الصباح رآها أجل صدق الحدس وما كذب! وقبل أن أن أخص بعض أبوابها بالملاحظة أقول كلمة موجزة عن صاحبيها الأثيرين: أنطون الجميل، وأمين تقي الدين. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال بمجلة الرقيم (٣٠/ ١١/٢٠١٠) عن مجلة الهلال (٨/ ١٩٩٨). (**) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وهذه المجموعة تجدها بآخر الكتاب الإلكتروني الذي بين يديك
أمين تقي الدين مما ألحظه في المحيط الأدبي بعامة أن الأثر الأدبي أو العلمي يكتبه مؤلفان كبيران فينسب على الألسنة لأكثرهما شهرة، وأبعدهما صيتًا، فكتابا البلاغة الواضحة والنحو الواضح ينسبان على الألسنة للجارم ﵀، ويترك زميله مصطفى أمين، وكتاب الوسيط في تاريخ الأدب، وقد ظل مقررا بالمدارس والمعاهد أكثر من ثلاثين عاما ينسب لأحمد الإسكندري ويترك زميله مصطفى عناني، و(مجلة الزهور) تنسب لأنطون الجميل وحده، وهو الذي أنشأها ورسم خطتها، ولكن أمين تقي الدين قد ساعده من السنة الثانية وشاركه الأمل والألم، وكان ولي الدين يكن إذا كتب قصيدة للزهور أرفقها بخطاب يبدأ بقوله عزيزي أنطون تقي الدين فجعل الأديبين أديبًا واحدا، لاتحادهما في الهدف والمشرب، وقد ولد أمين سنة ١٨٨٤ ببلدة (عقلين) بلبنان، ودرس القانون فصار محاميا نابها، وترجم عن الفرنسية كتبا مختلفة ثم دفعه الشوق إلى مصر فرحل إليها ليزامل صديقه الجميّل في تحرير الزهور والقيام على إدارتها، وبعد أن احتجبت المجلة عاد إلى بيروت ليعمل محاميا كعهده من قبل، ثم لقي ربه في عام ١٩٣٧، بعد أن سود مقالات وقصائد عدة، وقد قلت: إنه أتى مصر على شوق طامح ليحمل رسالة الأدب كما تصورها، ودليلي على ذلك مقال رائع حقا نشره بمجلة الزهور قبل أن يقدم إلى مصر بعدة أشهر، أجتزئ هنا ببعضه كما جاء بعدد شباط (فبراير) سنة ١٩١١ م. مصر الأدبية بدأ أمين تقي الدين مقاله بسرد أكثر من أربعين علمًا من أعلام الأدب والعلم والصحافة رحلوا إلى مصر من سوريا فسقطت نجومهم في سماء الوادي ثم تساءل عن سر ذلك قائلا: "لست أدري في طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب، وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أمّ الأدب والمتأدبين، أم هي الحياة، فيها يوحى الشعر، ويُستنْزَل البيان، وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم، خذ أدباء اليوم في القطرين تجد الفرق ظاهرا، أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر، وأدباء سوريا يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين، ... ورب قائل يقول إن أدباء سوريا الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها، فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضا أنه لولا مدنية مصر، ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة، وإلا فلماذا وهم سوريون لم يرقوا بالآداب في سوريا إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر، ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسوريا نهضتهم في مصر، ولكن مدنية سوريا لم تكن عونا لهم في عملهم الشاق، فوقفت هذه النهضة في منتصف الطريق". لست أسوق هذا القول لأؤيده أو أعارضه، ولكني أصور به مشاعر أمين تقي الدين حين هاجر من لبنان ليكون صاحب رسالة أدبية في مصر، وقد وجد من صديقه الكبير أنطون الجميّل صدرا رحيبا، ففسح له مجال العمل إدارة وتحريرًا، وظهر أمين تقي الدين بشعره ونثره على صفحات الزهور وعلى غير صفحات الزهور بعد احتجابها، ومن حقه أن نسجل صفحة من جهاده في هذا المضمار ببعض ما قلناه عنه.
أنطون الجميل لا يحتاج أنطون الجميل إلى تعريف موجز كصاحبه، فقد كان رئيسًا لتحرير أكبر جريدة في الشرق، وكان له من وراء ذلك مهابة وتجلة يحفظها له الرؤساء الكبار، إذ يحذرون غضبته، وأذكر أن الأستاذ حافظ محمود روى عنه في كتابه (عمالقة الصحافة) أحاديث قال فيها: "ذات مرة في سنة ١٩٤٠ كان علي ماهر باشا رئيس الوزراء يتحدث في مجلس الشيوخ، وأراد عضو المجلس أنطون الجميل أن يبدي ملاحظة أثناء حديثه، فمد علي ماهر ذراعه في وجه أنطون بإشارة تدل على أنه لا يريد أن يسمع واستاء انطون فانسحب بهدوء من كرسي السكرتارية متجها إلى مجلسه بدار الأهرام، فأحس علي ماهر أن الرجل قد غضب، فلم يكتف باسترضائه تليفونيا، أو أن يرسل إليه رسولًا، بل ذهب إليه بجريدة الأهرام مع جميع أعضاء مجلس الوزراء ليبدي اعتذاره، يقول الأستاذ حافظ محمود: وقد سألت أنطون: ماذا كان سيفعل لو لم يعتذر له رئيس الوزراء على هذا النحو، فقال: لا شيء كنت سأمحو علانية جلسة مجلس الشيوخ التي تكلم فيها علي ماهر فلا أنشر شيئًا عنها بجريدة الأهرام". هذه الكبرياء المحببة أمام الرؤساء يزينها تواضع جم أمام المغمورين من الشباب، حدثني الأستاذ محمد السيد شحاته، وكان مدرسًا بالمرحلة الأولى الأولية (حينئذ) أنه جمع من شعره الذي كان ينشره في الأهرام بتوقيع (شاعر البراري) قدرًا يسيرا في كتاب، وذهب خجلا إلى أنطون الجميل ليكتب مقدمته، فقابله مرحبا مبتهجًا. ونشر مقدمة حافلة عنه في جريدة الأهرام قبل أن تتصدر بها المجموعة الشعرية، وهذا ما عجب له الأستاذ محمد عبد الغني حسن حيث قال لشاعر البراري: إنه يعرف نفرًا من كبار شعراء مصر قد توسلوا للجميل كي يكتب مقدمة فاعتذر! أضيف إلى ذلك نظرة حانية له حيث كان يحتفل بنتاج الصغار من الناشئين ليظهر في أكبر صحيفة يومية، فقد قال الأستاذ محمد الحناوي وكان يشرف على صحيفة الآداب والعلوم والفنون بالأهرام، إن الجميل قد قال: إذا جاءتك قصيدة لشاعر مغمور، ورأيت في أبياتها ما يصلح للنشر، فاختر منها ودع المشهورين، لأن الناشئ سيفرح كثيرًا حين يجد اسمه مقرونا بشعره في الأهرام، وذلك أكبر دافع لخلق جديد! لو أردت أن أكتب جميع خواطري عن هذا الإنسان ما اتسع المجال، ولكن فيما أوجزته ما يقدمه خير تقديم!
لقد ولد الجميل في بيروت سنة ١٨٨٧ م، وتعلم في الكلية اليسوعية، وحذق العربية والفرنسية على وجه تام جعله أدبيا ممتازا في اللغتين، وعين مدرسا في مدرسة القديس يوسف، ثم محررا أدبيا بجريدة البشير، واتسعت آماله فهاجر إلى مصر سنة ١٩٠٩ ليحرر في الأهرام، وليعين موظفا بوزارة المالية قسم الترجمة، وبعد عام أصدر مجلة الزهور، وكان لها هدف واضح في ذهنه عبر عنه في افتتاحية العدد الأول، وقبل أن أشير إلى ما قال، أذكر أن الجو الأدبي بمصر حينئذ كان عامرًا بمجلات مماثلة كالمقتطف والهلال والبيان وسركيس، ولكن المقتطف كانت إلى اكتشافات العلم الأوروبي أقرب، والهلال كانت تحفل بالتاريخ وتراجم الأفذاذ في الغرب والشرق، وأكثر ما ينشر فيها بقلم صاحبها جرجي زيدان، أما مجلة سريكس فكانت ترضي عشاق النوادر والأفاكيه والقصص المسلية وتقف عند ذلك إلا ما ندر، بقى البيان وهي مجلة مظلومة لم يتحدث عنها أحد بقدر ما يكشف عن رسالتها، وقد أخرجت طائفة من الكبار كعباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري ومحمد السباعي ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم من المشاهير وكان صاحبها المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي فدائيا أكبر الفداء، حيث باع ما ورثه عن أبيه الثري في سبيل المجلة مضحيا بكل نفيس! وجاءت الزهور لتزايل البيان في رسالتها، ولكن الفرق بين المجلتين أن الزهور قد اهتمت بأدباء العرب في الأقطار المختلفة فتألق على صفحاتها نفر ممن صاروا أعيان الفكر في هذا الأمر، أما البيان فقد اقتصرت على الشبيبة الناهضة في مصر في أكثر ما نشرت، وهذا الاتجاه نحو العالم العربي هو ما أعلنه الجميل حين قال في افتتاحية العدد الأول بعد حديث ممتع شاق: "يفهم القارئ مما تقدم مجمل موضوع هذه المجلة فهي تعلل النفس بأن تكون صلة تعارف بين كتاب العرب في كل الأقطار، وذلك بنشر ما تجود به قرائحهم الوقادة من النفثات الرائقة، وفتح الباب وسيعا بوجوههم ليتباروا فيه في موضوعات مختلفة، وسننشر تباعا رسوم حملة أولية الأدب، ونفتح بابا للتراسل والتباحث فيما بينهم، وبالإجمال نتوخى كل ما له علاقة بالحركة الفكرية وما يهم الأدباء الاطلاع عليه ولا حاجة إلى القول بأننا سنقتصر في هذه النشرة على الأدبيات والفنيات مبتعدين عن السياسيات والمذهبيات".
أما أبواب المجلة كما حددها الجميل في الافتتاحية فكما يلي: (١) باب للمقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب (٢) باب للشعر مما تجود به قرائح فحول الشعراء، (٣) باب (جنائن الغرب) وهو ترجمات عن الآداب العالمية في الغرب (٤) باب في حدائق العرب تنشر فيه صفحات مطوية من خير ما جاء في التراث العربي (٥) باب أشواك وأزهار، وهو خاص بالنقد أدبيا وعلميا بقلم أديب متفنن يريد أن يكتم اسمه وقد كان التوقيع الدائم لهذا الباب هو (حاصد) من الحصاد الذي يعقب نضج الثمر، ويخيل إليّ أن (حاصد) هذا هو الجميل نفسه، إذا كان لا يريد أن يكون ناقدًا صريح الاسم مجاملة لبعض من قد يسيئهم النقد (٦) باب حديقة الأخبار وهو إيجاز لما يحب أن يعلم من الأحداث وتراجم المشاهير من الأدباء (٧) باب التنويه النقدي بالكتب التي تظهر في عالم المطبوعات، وهو شبيه بما يكتبه (حاصد) إلا أن الفرق الجلي بين البابين أن الأول يواجه الأخطاء سافرة، والثاني يمزج التقريظ بالنقد الملطّف إلا ما ندر أيضا، (٨) باب الروايات وهو اختيارات لبعض القصص الأوربية المشتهرة هناك، ثم كرر الجميل ما أكده من قبل، من أن الغاية هي إيجاد صلة التعارف بين كتاب الأقطار العربية، وذكر أسماء من توسّم فيهم العون الأدبي من أعلام العصر. ومن يتبع الأعداد المتوالية يجد صدق ما أكده الجميل في الافتتاحية، بل يجد حرصا دقيقا على اختيار الأجود المستطاب، وقد لفتت المجلة أنظار القراء منذ صدورها فتهافت على مراسلتها أعيان القلم في شتى بقاع العالم العربي، وفي المهجر الأمريكي حيث حفلت بآثار جبران خليل جبران وأمين الريحاني وإيليا أبي ماضي وغيرهم، ولو امتد أجل هذه المجلة إلى أكثر من ثلاثة أعوام لكانت حدثا هائلا في العالم العربي، لأنها جمعت من الصفوة الأخيار من يتعذر اكتمالهم في مجلة شهرية، وذلك بفضل السياسة الحصيفة التي انتهجها الجميل، عن بصر نافذ، وهدف مرموق.
مصر وسوريا . وإذا كان الجميل سوري النشأة وقد كان اسم سوريا يطلق حينئذ على لبنان وسوريا معا قبل أن يتجزأ الوطن الواحد، فإن الجميل قد احتفل بأدباء سوريا احتفالًا بارزًا، وليس معنى ذلك أنه آثرهم على أدباء العراق أو غير العراق ممن فسحت المجلة صدرها لآثارهم، بل معناه أن صلته الشخصية بهؤلاء قد دفعتهم إلى مؤازرته من ناحية، كما دفعته إلى المبادرة بنشر ما يستطيبه من ثمارهم، وأذكر أنه أفرد عددا ممتازا بالسنة الأولى خاصا (بمصر وسوريا) وقد قال في افتتاحيته: إنه أنشأ هذه المجلة لتكون رابطة بين أدباء الأقطار العربية، وأنه اغتبط حين عُرفت (الزهور) بهذا الاتجاه، ومُيزت به على سائر المجلات فأصبح يراسلها العدد الكبير من أدباء من أدباء مصر والشام والعراق والجزائر ومراكش، لذلك فإنه يصدر هذا العدد السنوي الكبير خاصا بمصر وسوريا ليكون مقدمة لأعداد تالية. وبعد إفاضة شافية في إيضاح العلائق بين مصر وسوريا، أعلن أن العدد إن كان قاصرًا على الأدبيات فهو مقدمة لما سيتلوه! والحق أن كل ما جاء بالعدد عن مصر وسوريا من الحقائق نفيس مختار على أكمل وجوه الاختيار، وقد ابتدأ بحديث مصر، فنقل شذرات مفيدة لأساطين الباحثين مثل العلامة أحمد كمال مدير متحف الآثار العربية، كما نشر قصيدة ممتازة لإسماعيل صبري تحت عنوان (فرعون وقومه) وهي شهيرة ذائعة ومطلعها: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يومَ تحصيل العلا وان وأتبعها بقصيدة شوقي في هيكل أنس الوجود ومطلعها: أيها المنتحي بأسوان دارًا ... كالثريا تريد أن تنقضا ومقطوعة ثالثة لعبد الحليم المصري مطلعها: وقف عليك دموعي أيها الطلل ... عيني عليك وقلبي للألى رحلوا وبعد الشعر جاء حديث البحث والتحقيق، فنشرت المجلة ترجمة لما قاله هيرودوت عن النيل، يليها مقال أدبي عن وفاء النيل لعله بقلم الجميل، ثم وصف للأزبكية بقلم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر المتوفى سنة ١٢٥٠ هـ وحديث عن الأوبرا بقلم فارس الشدياق.
وفي القسم الخاص بسوريا، كتب الأستاذ فيلكس فارس مقالًا ضافيا عن تاريخها، أعقبه حديث مترجم عن بيروت ولبنان كتبه شاعر فرنسا الأشهر لامارتين، ثم قصيدة لمعروف الرصافي تحت عنوان (ذكرى لبنان)، فمقال عن شمال لبنان بقلم الأستاذ أمين الجميل، وقصيدة عن (هنين) للشاعر المعلوف، وبحث عن طرابلس الشام للشيخ المغربي، أما حلب الشهباء فقد كانت قلعتها التاريخية مجالًا لحديث علمي دقيق كتبه القس جرجس منسن، يليه حديث عن الجامع الأموي بدمشق نقلا عن الرحالة ابن جبير الاندلسي، وبعد ذلك فصل بارع عن تدمر وملكتها العظيمة زنوبيا، وهو على قدمه الزمني من أحسن ما قيل عن المدينة والملكة معا فقد تتبعت حديث تدمر في فصول كثيرة تالية كان حديث الزهور قلادتها على إيجازه، أما الشعر الخاص بسوريا فقد نظمه شعراء مطبوعون مثل الأمير نسيب أرسلان، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وفي القسم الثالث مقالات وقصائد عن الصلة بين مصر وسوريا هي من أجود ما نضح به اليراع لأعلام أفاضل مثل داود بركات وحافظ إبراهيم وعبد الحليم المصري! وقد ختم العدد بحديث عن الحركة الأدبية في سوريا .. ولعل هذا العرض الموجز يكفي في الدلالة على نفاسة هذا العدد، وتقديره أدبًا وروحا واتجاها وحميّة! المطارحات الشعرية . من أحسن ما امتازت به مجلة الزهور ما اهتمت به من المطارحات الشعرية بين كبار الملهمين، إذ كان في تجارب القرائح الصافية مبعث لخواطر دافقة تجيش بالأحاسيس الصادقة، وكأن دوحة ناضرة يشدو على غصن منها طائر مغرد، فيجيبه صنوه على فرع آخر بما يدل على صادق المواساة، فتكون لهذا التجاوب المتبادل رنات مشجية في نفوس القراء. لقد كتب الشاعر عبد الحليم المصري الضابط بالجيش قصيدة شاكية بمجلة الزهور، تصف حال الأديب في مصر، وما يلقى من ضنى على مهاد الجوع والحرمان، جاء فيها: لا كنت لي يا أدبي حرفة ... إن كان من يعليك قدرًا يضام مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشآم؟ هل أنتمو في أرضكم مثلنا ... ترون سُحْب الجود تبدو جهام وما كاد هذا السؤال الحائر (ما حالكم في أرضكم ياشعراء الشّآم؟) يدوّي في آفاق القطر الشقيق حتى تواكب الشعراء من كل صوب يجيبونه هاتفين، فقال الأمير نسيب أرسلان من قصيدة: يابازني الجيش غداة الصدام ... من علّم البيزان سجع الحمام هيّجت يا مصريّ شجوى وما ... أحلى جوًي أذكيته في العظام يا عاتبا حينا على خطه ... قبلك كم من عاتب في الأنام وقال الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف: قد ضاق للشعر بمصر المقام ... وانتابه العقم بأرض الشآم أبناء سوريّا ترد الصدى ... وتندب الشعر بدمع سجام قد ضاقت الدنيا على شاعر ... حتى تمنى أن يحين الحمام ومما قال الأستاذ (ف. نصار) من لبنان: ياشعراء النيل لا تجزعوا ... قد صافحتكم شعراء الشآم لا كنت لي يا وطني مسكنا ... إن كان فيك الحر خُلْقا يضام أو كان هذا الخط لا ينجلي ... ما أضيق العيش وأشقى المقام وجاء من البرازيل فايز سمعان وهو لبناني الأصل يقول: يا بلبل الشعر عليك السلام ... شآمنا مصر ومصر الشآم مالك بالقطرين من منهل ... ولي وراء البحر طاب المقام فلتحترف غير القريض وقل ... يا دولة الشعر عليك السلام
ومن المطارحات الشعرية النادرة ما عارض به أحمد شوقي قصيدة الحصري الذائعة: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟ حيث ما كادت الزهور تنشر معارضة شوقي: مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحّم عوده حتى انبرت قصائد أخرى على صفحات الزهور قالها إسماعيل صبري وولي الدين يكن ونسيب أرسلان، ودواوينهم مشتهرة فلا مدعاة للاستشهاد. وقد ألِف شعراء الزهور أن يقوموا بمثل هذه المطارحات في صفحات كثيرة بالمجلة، بل إن الجميل أخذ يبحث عن طرائف هذه المطارحات لينشر منها ما لم يسبق نشره، فقد نظم محمود سامي البارودي قبل خمسة عشر عاما من إنشاء الزهور أبياتا خاطب فيها شكيب أرسلان لمناسبة استشهاد الأمير ببعض شعر البارودي، وقال فيها: أشدت بذكرى بادئًا ومعقبا ... وأمسكت لم أنبس ولم أتقدم وما ذلك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به، لكن تهيبت مقدمي فطار شكيب إعجابًا بشعر البارودي ورد عليه بقصيدة طويلة قال فيها: ألا كل يوم فيك وجد كأنها طوي ... جانحا مني على نار ميسم حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالروضة الزهرا، أليّة مقسم لألفيت عندي دوس مشتجر القنا ... وخوضي في حوض من الطعن مفعم أقلّ بقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذلك المقام المعظم وامتدت المطارحات مثنى وثلاث ورباع، ونشرها الجميل جميعها في مجلة الزهور، ثم أعاد نشرها في المختارات بالقسم الأخير. أما الذي طرب له القراء طربا شديدا فمطارحات صبري وشوقي وحافظ، حيث نظم صبري قصيدة مطلعها: لو أن أطلال المنازل تنطق ... ما ارتد حرانُ الجوائح شيق فجاوبه شوقي بقصيدة مطلعها: أما العتاب فبالأحبة أخلق ... والحب يصلح بالعتاب ويصدق وقفى حافظ بثالثة قال في مطلعها: سكن الظلام وبات قلبك يخفق ... وسطا عليك حنين هم مقلق وقد نشرت جميعها بمختارات الزهور، كما أنها مسجلة بدواوين هؤلاء. هذا الاهتمام العريق في نفس الجميل بلطائف المطارحات يدل على روح شاعرة، تجلت في نثره. إذ كان شاعرًا دون قافية أو زن، ومقالاته بالزهور أكبر شاهد على ما أقرر، وما بي أن أستشهد فأطيل. مطارحات نثرية . ليست مطارحات بالمعنى الدقيق، ولكنها مناقشات جادة، دارت على صفحات المجلة في مسائل مختلفة ولعل قضية المرأة كانت أهم هذه المسائل، لأن وفاة قاسم أمين قد أعقبت جدلًا امتد إلى سنوات حول ما أثاره في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وكان من اللافت للنظر أن بعض الفضليات من الكاتبات لم تشأ أن تتجاوز دعوة قاسم في التربية والتعليم إلى ما فهمه المتسرعون والمتسرعات من الدعوة إلى التبرج والاختلاط ومحاكاة الغربية في السهرات الحافلة والرقص اللاهي، وهذا ما حذرت منه فضليات الكاتبات على صفحات الزهور، وقد ابتدأت به الآنسة الأدبية (هدى كيورك) بالعدد الثامن (أكتوبر سنة ١٩١٠) حيث قالت: إن الذي فهمه نساء اليوم من التقدم العصري هو (المودة) المتحضرة في مشابهة الغربيات ملبسا وسلوكا، فالفتاة لا تقنع بحياة والدها المتواضع بل تطالبه بما فوق قدرته، واستنزفت عرق جبينه لتصبح مترفة مرفهة، تقول الكاتبة الفضلى عن هذه (المتمدنة):
"نفختها روح الكبرياء، فظنت نفسها أرفع قدرا من والديها، فجاءت إليهم متحكمة آمرة، فإذا لم يتموا رغابئها خشنت أخلاقها، وأوقعت الاضطراب بالمنزل غاضبة على هذا، ومستهزئة بتلك، فإذا رزقت بمولود رمت به إلى المراضع منصرفة إلى زينتها ولهوها، وأنفت أن تستعمل وسائل التطريز والحياكة". وكانت الكاتبة صادقة حين قالت: "نحن لم نتشبه بالغربية إلا في مادة (المودة) وحدها، لماذا لا نأخذ عنها نشاطها وجدها، وتعلقها بلغتها؟ هل رأينا فتاة أوربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فنرى أن لغة الأجنبي دليل التقدم، والغربية بذلك تستخف بنا وتسخر". مقال حار النفس، ملتهب اللهجة، دفع بعض القارئات إلى معارضته، فكتبت الآنسة ادماكيرلس من بيروت تقول في العدد العاشر: "إن الآنسة هدى أصابت في كل سطر من سطورها أخواتها وبنات جنسها بسهام حادة إذ أجادت وصف صاحبات اللهو والزينة، وتركت الكثيرات ممن تحلين بالفضائل، فكم من امرأة تضحي بصحتها وتحرم نفسها من كل ملاهي الحياة لتسهر على حاجة منزلها وتربية أولادها، وهي حين تتبع (المودة) تعتدل دون إسراف، أما تقليد المرأة الغربية فالذنب في ذلك يرجع إلى الرجال فهم يعظمون لابسات البرنيطة. والمتكلمة بلغة أجنبية والمقلدة للغربية في حركاتها ومشيتها، فعلى الرجال أن يمدوا يد المساعدة لنا، لنرافقهم في طريق الفلاح ولا نكون عبئا ثقيلا عليهم". ولم تسكت الكاتبة الأولى عما وجه إليها من مآخذ لا تراها صحيحة في مضمونها، فاندفعت الآنسة (هدى) إلى الرد بمقال مستفيض نشر بالجزء الحادي عشر يناير ١٩١١ م فأثنت على الكاتبة وقالت: "إنها لا تعارض الزينة المعقولة، ولكن المندفعات بالنسبة إلى المعتدلات كثرة كاثرة واللاتي يضحين بملاذّهن في سبيل سعادة الأسرة من المتعلمات عدد قليل لا يبلغ عشرة في المائة بالنسبة للاهيات، وقد ضج الآباء في سبيل ردع اللاهيات دون جدوى، وكم من أب يترحم على العهد الماضي حين يري ما يشاهد من التبذل، ونظرة إلى الجرائد السيارة التي تضج من ذيوع الترف الكاذب، والانغماس في حمى التقليد الضار ترينا الدليل القاطع .. ". ومن هذا الوادي ما نشر بالعدد التاسع تحت عنوان (المقيَّدات) وهن اللاتي يسرفن في الأناقة وتضييق الخطو في الطريق تحت ثقل القبعات المليئة بالزهر، والثياب المضغوطة بالحزام، والحذاء الضيق ذي الألم المحتمل لأجل المظهر، حتى أصبحت الفتاة من هؤلاء ترسف رسف المكبل بعد أن كانت تسرع كالحجل". وقد أوحي هذا المقال الناقد للشاعر الإسكندري خليل شيبوب قصيدة متهكمة نشرت بالعدد التالي، تحدث فيها عن المرأة المتصونة في القديم فأطراها إطراء مشجعا. ليكر على أختها المسرفة في الزينة فيقول: قم بي أريك الآن كيف تغيرت ... تلك العهود وبدلت تبديلا وتشوهت تلك الخدود وأصبحت ... تلك النهود بما حشين تلولا قد ضيقت خصرا يذوب وعرّضت ... كفلًا بتنفير النفوس كفيلا ومشت مقيدة الخطى فكأنما ... (ركب الكمى جواده مشكولا) وتكاد تسقط إن رنت وإذا مشت ... شِمْتَ الأسير مصفدا مغلولا
أما النقدات العلمية فما أكثرها، حيث حفلت بها مباحث المعلوف والأب إنستاس ماري الكرملي، وقد رمز لاسمه بتوقيع (سانستا) وما كنت أعلم أنه الكرملي لولا ما أشار إليه الأستاذ روفائيل بطي خاصا بتوقيعاته المتعددة فيما كتبه بمجلة الكتاب (مارس سنة ١٩٤٧) ومن بينها (سانستا) ولو كان التوقيع (أنستا) فقط لقلنا إنه مرخم (أنستاس) على غير قياس؛ وهم سادتنا اللغويون يحللون ويحرمون، وبحوث الزهور اللغوية والأدبية ذات طرافة بالنسبة لزمانها، وهي الآن من المطروقات! طرائف شتى . طرائف الزهور أكثر من أن تحصر، ولابد أن يعرف عنها قارئ هذا المقال قليلًا من الكثير الذي تزدحم به، ومن أطرف ما قرأته بالجزء الثاني ص ٨٥ أن صاحب الزهور أعار الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي كتاب (الريحانيات) لأمين الريحاني، وقال له مزكيا إن الريحانيات شقيقة النظرات، فقرأ المنفلوطي الكتاب وأرسل إليه يقول: "قرأت الريحانيات الذي أعارنيه صديقي أنطون الجميل، فلم أجد فيه من اللغة العربية إلا حروفها دائما، ومفرداتها غالبا، وجملها نادرا، فلم أحفل بذلك كثيرا، لأني وجدت فيه من سمو الخيال الشعري، ودقة المسلك النظري، ما استوقفني ساعتين كاملتين، وهي المرة الثانية التي وقفت بها هذه المدة أمام كتاب عصري منذ أعوام بعد كتاب روح الاجتماع) ". ووجه الطرافة يتضح من قول المنفلوطي إنه لم يجد إلا الحروف دائما، والمفردات غالبا، والجمل نادرا، وهذا يذكرني بما روي عن الفقيه الكبير ابن دقيق العيد حين عرض عليه قول ابن الفارض: ومن كان فوق التحت والفوق تحته ... إلى وجهه الهادي عنت كل وجهة حيث قال: الألفاظ مفهومة دون أن تتصل بالمعنى، ولكن التركيب لا يفهم أبدا، وليس معنى هذا أن الريحانيات شبيهة بأبيات ابن الفارض في نظم السلوك، فهي شيء آخر تماما، ولكن المعنى المقصود حيرة القارئ في ألفاظ يدركها مفردة، ويعجز عن فهمها متصلة! أما الطرفة الثانية، فقد كان من عادة المجلات في أوائل هذا القرن، أن ترسل الأعداد إلى من تتوسم فيهم حب الاطلاع، رجاء أن يتكرموا بالاشتراك، ولكن بعض هؤلاء يتباطأ دون الإرسال، وقد صرحت الزهور في العدد الثاني ص ٨٨ بأنها ترجو الذين لم يفيدوها عن رغبتهم في الاشتراك أن يسرعوا بذلك حين يصلهم هذا العدد! ومضى الوقت دون جدوى، فأرادت أن تنبه القراء إلى شيء مماثل فذكرت في العدد الرابع ص ٢٠٠ أن الدكتور شبلي شميل حين كان يصدر مجلة الشفاء منذ ربع قرن أرسلها للقراء دون أن يتلقى قيمة الاشتراك، وأخذ يطالب القوم حتى أدركه اليأس فاضطر إلى أن يكتب مقالا عن مرضين خطيرين .. والدكتور طبيب- سماهما باسمين أجنبيين، وقال: إن أعراض المرض الأول هي أن صاحبه إذا وصلته مجلة أدبية أو علمية بادر إلى ردها، وكتب عليها كلمة مرفوض، أما المرض الثاني فأشد خطرا، لأن صاحبه يتقبل المجلة إلى آخر السنة، ثم لا يرسل مليما واحدا، وليس الذنب ذنب هؤلاء، ولكنه ذنب أصحاب المجلات الذين يبتلون القراء بشتى الأمراض المستعصية، ولابد أن يتوبوا إلى الله.
والطرفة الثالثة هي أن الزهور احتفلت بالجزء الثالث بتأبين (العشماوي) جلاد مصر الذي يحرك آلة المشنقة فيقع المتهم صريعا، فأهدت صورته إلى القراء كبطل مرموق، وقالت عنه بعد أن ذكرت اختلاف الناس في مهنته بين الاعتذار والوصف بالقوة وغلظ القلب، قالت: كانت الحكومة تنقد العشماوي راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات، وكان يتقاضى عن كل مشنوق خمسة جنيهات أخرى فإذا عرفت أنه قضى ١٥ سنة في هذه المهنة، وأنه شنق ٥٧٦ مجرما تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال على الأعناق ٣٦٠٠جنيه بمعدل عشرين جنيها في الشهر! ومبلغ ثلاثة آلاف وستمائة جنيه، سنة ١٩١٠ مبلغ فلكي! فقد كان ثمن الفدان في بعض الجهات عشرة جنيهات، وفي استطاعة من يأخذ عشرين جنيها في الشهر الواحد أن يشتري فدانين بهما .. فيصبح من الوجهاء. تراجم الراحلين . كان من ديدن المجلات حينئذ أن تكتب تاريخا لكل راحل مرموق من أهل الفكر والسياسة والأدب، نجد شاهد ذلك في المجلات المقتطف والهلال والبيان وغيرها، ولم تشذ الزهور عن ذلك، فقد احتفلت بكثير من هؤلاء، وقد لاحظت أنها خصت الشاعر البائس إمام العبد بكلمات متكررة في أعداد متتالية، فتذكرت أني عنيت بترجمة هذا الشاعر منذ خمسين عاما، فلم أجد غير جمل مقتضبة اجتهدت في صياغتهما، حتى بلغتْ مقالا نشرته بالرسالة بتاريخ ١٢ نوفمبر ١٩٥١، ولكن الزهور فاجأتني بأنباء وطرف عن إمام البؤساء لو وقعتُ عليها حينئذ لاكتسب المقال دسامة حية ليست به، فقد نشرتْ ما أجهل من نثره وشعره معا، كما نشرت بعض ما قيل في رثائه، وقد أبّنت الزهور زعيم الثورة العرابية عند رحيله، ولم تتورط فيما تورطت به بعض الصحف المنافقة، حين هاجمت الراحل الصامت دون حياء، وأنطون اللبق أكبر من أن يهوي إلى نقيصة، وإذا كان لا يتحدث في المجلة عن السياسة الحزبية، فقد تحدث عن السياسة الوطنية مرات، ومن أقوى ما كتبه حديثه عن الوحدة الوطنية حين حدث الشقاق المغرض بين عنصري الأمة عقب مصرع بطرس غالي، فكان الجميل الأديب السياسي المخلص صاحب توجيه عال، ونظر ثاقب عرف يهما حتى آخر يوم من حياته، ولم تقتصر ترجمات الراحلين على الشرقيين وحدهم، بل شملت أفذاذ الغرب مثل تولستوي، ومانويل الثاني وغيرهما. مقالات أخرى . لا نحكم على شيء ما دون تقدير ظرفي الزمان والمكان، حيث إن الزهور حوت من قصص العرب، ومترجمات الغرب ما اشتهر الآن بين القراء بعد أن انتشرت كتب التراث على نحو واسع، وبعد أن ازدهرت حركة الترجمة ازدهارًا يانعا، فإذا كان ما جاء في الزهور عن امرئ القيس والنعمان بن المنذر وعنتره العبسي، وليلى العفيفة وسعد وسعاد، وحرب البسوس، والجامع الأموي وغيرها قد أصبح متعدد المصادر، ميسر السبيل، فإن ظهوره على صفحات الزهور بأسلوبه الأدبي، ومنحاه القصصي في أكثر موضوعاته يعد وثبة من وثبات التوجيه الحي نحو التراث الخالد، وقل ذلك فيما نقلت من مترجمات هيجو ولامرتين، وأدمون رستان، وما عربه الأستاذ عبد الأحد في أعداد متوالية تحت عنوان (نساء شهيرات ورجال عظام)، فكل ذلك عطاء صادف موقعه وغيث هطل على زرع يشتاق الماء.
بلاغة الحذف . لا أعني بذلك ما عرف في علم المعاني خاصا بهذا العنوان بل أعني ما عرف عن صاحب الزهور من اختيارات شعرية ونثرية لكبار الأدباء، يتعمد حذف الكثير مما اتصل بهما، إذ لا يراه ذا توجيه نافع للقارئ يدرك ذلك من يقرأ ما نشر في الزهور ثم يرجع إلى الأصل في الدواوين الشعرية، أو مجموعات المقالات لكبار الأدباء، ولعل أوضح ما أشير إليه في هذا المنحى ما نشره من قصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها: كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم فقد كان النسيب الطويل في مطلعها تمهيدًا لمديح ضاف للخديو عباس، فرأى الجميل -والخديو عباس حينئذ حاكم مصر- أن ينشر الغزل فقط مع أن القصيدة بأجمعها قد نشرت بالجرائد اليومية، وفي هذا الحذف ما يوسع مجال الوشاية عند قوم لا هم لهم سوى الشحناء! والغزل أقل أغراض الشعر عند حافظ، ولكنه في هذه القصيدة بالذات قد تفوق على نفسه، وأرادت الزهور أن تثبت ذلك بما نشرت وحذفت معا، ومما راقني في هذه القصيدة قول حافظ: لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم قالت من الشاكي؟ تساءل سربها ... عني، ومن هذا الذي يتظلم؟ أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تفحم لا السهم يرفق بالجراح، ولا الهوى ... يبقي عليه، ولا الصبابة ترحم وبعد فلعلي أفلحت، أن أقدم للقارئ بعض باقات جمعتها كما اتفقت دون اتئاد صابر، فقد وجدت نفسي أمام طعوم شتى، وكلها رائع معجب، فتناولت ما امتدت يدي إليه، وتحاشيت أن أجهد القارئ بإطالة لا آخر لها، وأنا معذور فيما تركت إذ بات الأمر كما قال الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد!
أَنْطُون الْجُمَيِّل (١٨٨٧ - ١٩٤٨) أنطون الجميّل أحد أبرز رجال الأدب والسياسة والصحافة العربية في مصر. ولد في بيروت، وتلقى دراسته في مدرسة الحكمة، ومدرسة الآباء اليسوعيين، بدأ أنطون الجميل حياته معلمًا لكنه سرعان ما اتجه إلى الأدب والصحافة، وأعانه على ذلك ثقافته العربية والفرنسية الواسعة والعميقة، فعمل محررًا في جريدة «البشير» سنة ١٩٠٨م التي كان يصدرها اليسوعيون في بيروت، وبقي في هذا العمل إلى أن هاجر إلى مصر عام ١٩٠٩ حيث اشترك مع أمين تقي الدين في إصدار مجلة «الزهور» في الأول من آذار عام ١٩١٠، لكن المجلة توقفت بعد أربع سنوات استطاعت فيها أن تحقق قفزة جديدة في صحافة الأدب، وقد اختار الجميّل من القصائد التي نشرت فيها طائفة وأصدرها في كتاب تحت عنوان «مختارات الزهور». بعد ذلك عمل أنطون الجميّل رئيسًا للجنة الموازنة في وزارة المالية المصرية. في عام ١٩٣٢ عيّن رئيسًا لتحرير جريدة «الأهرام»، وأثّر تأثيرًا مهمًا في مسيرتها طوال مدة رئاسته لها، وقد ظل في هذا المنصب حتى وفاته. وكان مكتبه في الأهرام يستقبل يوميًا شخصيات مصرية سياسية وثقافية على جانب كبير من الأهمية والشهرة والنفوذ. انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ المصري لعدة دورات، بعد أن مُنح الجنسية المصرية، كما انتُخب عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي في مصر، وكثير من الجمعيات الأخرى. أحب مصر كما أحب لبنان، وكان يدعو باستمرار إلى توثيق العلاقات بين القطرين. لم يتزوج بل بقي عازبًا، ومُنِح في أواخر حياته لقب «باشا». أحب الأديبة مي زيادة حبًا عميقًا صامتًا (!!)، إذ جمع بين روحيهما التقارب في الاتجاه الأدبي، وقرابة الموطن وغربة الدار، لكن هذا الحب المكتوم انتهى إلى شيء من القطيعة بعد عودة مي من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان، لأنه شُغل عنها في أثناء مرضها. أولع أنطون الجميل بالأدب والشعر قبل أن يصبح صحفيًا، وقد أدى به هذا الولع إلى الاتصال بالشعراء، والإقبال على مجالسهم، وعقد أواصر الصداقة معهم، وكان كثير التردد إلى ندوة الشاعر إسماعيل صبري التي ضمت صفوة أدباء وادي النيل وشعرائه، حتى أصبح نجمًا لامعًا فيها .. وفي أجواء هذه الندوة تنفست شاعريته الخصبة، وتجلت مواهبه الأصيلة. كانت مقالاته في الأهرام أنيقة إلى أبعد الحدود، ينتقي ألفاظها وينسق جملها، ومهما يكن الموضوع الذي يتناوله دقيقًا وجدّيًا، فإننا نحس شاعرية المعاني والأفكار تقطر رقة وعذوبة، أو تتلظى حمية، خالصة من أي وعورة أو جفاء. كان يصب آراءه في فقرات هي أدنى إلى الشعر منها إلى النثر. اهتم بدراسة شعراء جيله كشوقي، وإسماعيل صبري، وخليل مطران، وولي الدين يكن وغيرهم، دون أن يعمد إلى جرح أحدهم، أو الإساءة إليه، أو النيل منه، بل كان يقف دائمًا موقف الناقد النزيه المحايد البصير الذي لم تجرفه الأهواء والأحقاد. كان ذوقه السليم وإحساسه المرهف هما المعيار الذي ينطلق منه في دراساته ونقده. ألف عددًا من الكتب والمسرحيات منها «أبطال الحرية» وهي مسرحية عن الانقلاب العثماني، و«وفاء السموأل» وهي مسرحية أيضًا ضمنها الكثير من شعره، «شوقي الشاعر»، و«وليّ الدين يكن» و«طانيوس عبده» و«خليل مطران» و«الاقتصاد والنظام المنزلي» (وهي محاضرة) و«البحر المتوسط والتمدن» و«الفتاة والبيت» (ترجمة عن الفرنسية) و«مختارات الزهور». _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال لـ عيسى فتوح، عن الموسوعة العربية (السورية) وجاء في الموسوعة العربية العالمية، ما نصه: الجميل، أنطون (١٣٠٤ - ١٣٦٨هـ، ١٨٨٧ - ١٩٤٨م). صحفي لبنانيٌ من كبار صحفيي النهضة. ولد في بيروت ودرس في الجامعة اليسوعية حيث بدأ ممارسته الصحفية في مجلتها البشير (١٩٠٦م). سافر إلى مصر عام ١٩٠٧م، وبدأ حياته المهنية أمينًا لوزارة المال في القاهرة. غير أن الصحافة كانت تستهويه أكثر من الوظيفة، فأسس عام ١٩٠٧م مجلة الزهور بالاشتراك مع أمين تقي الدين. وكانت منبرًا لكبار أقلام العصر من الشعراء والكتاب من أمثال: شوقي وحافظ ومطران والمنفلوطي، وولي الدين ومي زيادة والزهاوي وشبلي شميل وآخرين؛ وقد عرفت بمستوى فكري عال ومناخ صحفي راق. في عام ١٩٠٩م أسس حزب الاتحاد اللبناني، ليناهض الحكم العثماني في بلاده، وجعل الزهور منبرًا له. كان يكتب فيها الموضوعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وظل يصدرها حتى عام ١٩١١م. انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ في مصر (١٩٣٤ - ١٩٤٥م). وخلف داود بركات في رئاسة تحرير الأهرام عام ١٩٣٣م وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.
أمين تقي الدين الشاعر الكبير والناثر المبدع إعداد: وفيق غريزي شاعر مبدع، ومحام بارع، وأديب مميز، وصحافي لامع. أطرب القلوب والعقول بشعره فاهتز له الوجدان. صنّف من الرعيل الأول بين الشعراء في ميله إلى التجديد شكلًا ومضمونًا، يوم كان الشعر يرسف في قيود التقليد. قصائده عدّت من عيون الشعر لما فيها من صياغة بارعة محكمة الصنع وضاءة كالشمس، ليّنة كالنسائم، تتّسم بالرقة والشفافية. إنه الشاعر والناثر أمين تقي الدين. نشأته وحياته نشأ الشاعر أمين تقي الدين في عصر مضطرب قلق، حيث ولد في بلدة بعقلين الشوف، عام ١٨٨٤. والده القاضي سعيد تقي الدين كان رئيس محكمة الشوف لسنوات عدة. لما بلغ السابعة من عمره دخل مدرسة الداوودية في عبيه، حيث تلقى دروسه لمدة عامين. ومنها انتقل إلى مدرسة الحكمة في بيروت وتتلمذ على ايدي الشيخ عبد الله البستاني. من الحكمة سافر إلى مصر سنة ١٩٠٥ وبقي هناك تسع سنوات، حيث عمل في الصحافة اليومية في جريدة «الظاهر» لصاحبها محمد أبو شادي. ودخل كلية الحقوق الخديوية، ونال شهادة الليسانس في جامعة «ديجون» فرنسا حيث كان يسافر إليها في نهاية كل سنة. طلب إليه صديقه المفكر اللبناني انطون الجميل أن يعاونه في تحرير مجلة «الزهور» ففعل وأصبح شريكًا له عام ١٩١١. صقلت أرض مصر شعور شاعرنا وجلت قريحته، جراء اتصاله المباشر بالأدباء المصريين من جهة، والأدباء اللبنانيين المهاجرين إلى الديار المصرية من جهة ثانية. وأبرز المبدعين الذين أقام علاقات صداقة معهم: أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ ابراهيم، وولي الدين يكن، واسماعيل صبري، ومحمود سامي البارودي، وشاعر القطرين خليل مطران، وجرجي زيدان، وشاعر الأرز شبلي الملاط، والمفكر شبلي شميل والامام الشاعر محمد العبد وغيرهم. قبل اعلان الحرب العالمية الأولى عاد أمين تقي الدين في العام ١٩١٣ إلى أرض الوطن، وما أن استقر في بلدته حتى أرسلت السلطة العسكرية مذكرة احضار له. فطُلب اليه سرًا أن يتوارى عن الأنظار، لأن قائد درك بيت الدين قادم مع ثلة من جنوده للقبض عليه. فلجأ شاعرنا إلى مزرعة يملكها ذووه في ضواحي البلدة. وهناك انكب على كتابة المقالات والشعر، وترجم قصة «شاب فقير» من الفرنسية إلى العربية. ويُقال إنه حُكم عليه بالإعدام، وانه فرّ من وجه السلطات العثمانية مدة من الزمن. وقد روى شاعرنا قصة نجاته من قبضة الأتراك في حديث لإحدى المجلات اللبنانية (مجلة المكشوف). واثر انتهاء الحرب، وفرض نظام الانتداب على لبنان، عهد اليه الفرنسيون شؤون الإعاشة، ثم تم تعيينه عضوًا في المحكمة التي تشكلت للنظر في بيوع الحرب وقضى فيها عامين. بعد ذلك، نزل إلى بيروت وعمل في الصحافة، وبدأ يكتب في «البيرق» ثم في «البرق»، وأنشأ مكتبًا للمحاماة العام ١٩١٩ مع صديقه جبرائيل نصار، وما لبث أن تحوّل مكتبه إلى منتدى شعري وملتقى الشعراء والأدباء أمثال: الأخطل الصغير، وموسى نمور، وميشال زكور، ووديع عقل، والياس فيّاض، وأديب مظهر، والياس أبو شبكة الذي كان يقرأ على مسامع أمين تقي الدين ما تفيض به قريحته من شعر. ساهم شاعرنا في تأسيس «الشبيبة اللبنانية» العام ١٩٢٠، وانضم إلى رابطة «الأدب العربي» وهو من مؤسّسي «الرابطة الأدبية» التي دعا إليها الأخطل الصغير. وفي العام ١٩٢١ أصبح سكرتيرًا لنقابة المحامين في بيروت. ترشح للانتخابات النيابية في أكثر من مرة ولم يُكتب له النجاح. وساهم في تأسيس عدد من الأحزاب وهي: حزب الاتحاد الديمقراطي، حزب الجبهة اللبنانية - مع يوسف السودا والياس الخوري والياس البعقليني. صفاته ومميزاته الشعرية كان الشاعر أمين تقي الدين محبوبًا من الجميع، سريع النكتة، أنيقًا في ملبسه، حلو الحديث، مترفعًا عن الصغائر، طيب القلب والسريرة. لم يسخر قلمه لمصلحة أحد مهما علا شأنه، يعتمد على علاقاته بالفئات الشعبية، يكره المدح والإطراء أو الكذب والتملّق. كان لبنانيًا حتى العظم، وتجلت لبنانيته بشعره ونثره. كانت مرافعاته في القضاء حجة في البلاغة حتى أن رئيس محكمة الجنايات الشيخ محمد الجسر قال له: «إني أخشى على العدل من بلاغتك، فقد تستطيع ببيانك أن تجعل الحق باطلًا، والباطل حقًا». ومن الحوادث التي تُروى عنه: أن شخصًا قصد الشاعر أمين لكي يتوسط له مع الشيخ محمد الجسر من أجل حل مشكلة، فكتب إليه أمين تقي الدين على البطاقة ما يلي: «أخي الشيخ محمد. حق حامل هذه البطاقة إليك، كحقه عليّ وعليك. إذ رآني موضعًا لأمله، ورآك موضعًا لقضاء حاجته، فأنا حققت الأمل، فأنجز له الحاجة. والسلام عليك». رغب شاعرنا في قرض الشعر وهو في سن الحداثة وعشق الشعر عشقًا كبيرًا. وكان إذ ذاك في مدرسة الحكمة. وأراد شقيقه محمود يومًا أن يختبر مقدرته في النظم، فقال له سأروي لك هذه القصة، وإذا كنت شاعرًا حقًا فاروها لنا شعرًا؛ وروى له القصة التالية: كان في برج البراجنة رجل وجيه يُدعى محمد العرب يتخلّق بأخلاق العرب من كرم ووفاء. وكان أحد أهالي البرج قد قتل ولده وهرب خوفًا من انتقام اخوة القتيل، وقادته قدماه وهو لا يدري، إلى بيت محمد العرب نفسه - والد القتيل، فدخل عليه فقبّل يده وقال: أنا وقيعك ولا أستحق أن أقبّل يدك ويدي لا تزال ملطخة بدم. قال محمد: بدم مَن؟ أجاب الرجل أنا قاتل ابنك. وفي تلك اللحظة دخل اخوة القتيل على والدهم وسألوا والدهم عن القاتل، فقال لهم رأيته هاربًا إلى خارج القرية. وبعد أن انتهى محمود من سرد الحكاية، غاب شاعرنا مدّة قصيرة من الزمن ليعود وقد نظم القصة شعرًا. شعره جزل الألفاظ، رائق الاسلوب، متين القوافي، سالم من العيوب، لا ابتذال ولا تكلف، تتجلى البساطة والعفوية، في أبياته، وتكاد الطلاوة تتدفق من صدوره واعجازه. إنه شاعر انطلق من عاطفته وإحساسه وشعوره، لا يبالغ ولا يغالي ولا يقول ما لا يحتمله الناس، فالشعر إذا لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو تلحين وأوزان حسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي. والشعر عند أمين تقي الدين يصدر عن القلب ولواعج الفؤاد ليستقر في القلب فورًا لا في الأذن. لقد نظم في أغراض كثيرة: في الوطنيات، في الرثاء، في الوجدانيات، في الاجتماعيات، في الاخوانيات». بين الوجدان .. والوطن كان شعره الوجداني شعر الاباء، وعزة النفس، وكرم الأخلاق، «اذا تعذب فلا يضعف ولا تخور قواه. فهو صامد تجاه مصائب الأحداث، ثابت الجنان» ويقول في شكوى الدهر: تسائلني كيف يشقى الكريم ... كأني لبست الشقاء جديدا تصدى لي الدهر مستبسلًا ... وأرصدت للدهر خلقًا شديدا كلانا على عزمه ثابت ... حديد القوى يستفزّ حديدا ووالله ما شدّ إلا شددت ... فلاقى ولاقيت خصمًا عنيدا إذا لان عزمي استراح الزمان ... وإن وهن الدهر عشت سعيدا أحب شاعرنا وطنه كما لم يحبه إنسان من قبل، وأخلص له كل الإخلاص، وتغنى به. وأحب طبيعته وارتاح إليها وبثها لواعج صدره، وقصيدته «الله يا لبنان» من أروع القصائد الوطنية على الإطلاق، تناقلتها الألسن من جيل إلى جيل، ويقول في مطلعها: الله يا لبنان ما أجمل ... وأروع الشيب الذي جلّلك بين يديك الملك في جاهه ... على الثرى أو عزّه في الفلك أنت نعيم الله في وعده ... مثلث بالنعمة من مثلك عندما يرى الجهل والضعف في بني وطنه ينتفض داعيًا إلى الوحدة ونبذ الخلافات وبسط التآخي، فيقول: تريد لقومنا وطنًا عزيزًا ... ويأبى الجهل إلا أن يهونا تطاعن أهله عبثًا وعفوًا ... ولست أرى سوى الوطن الطعينا الشاعر في أقلام الآخرين قال عن أمين تقي الدين الشاعر والأديب أمين نخلة الذي ربطته به صداقة عميقة: «اشعر بين المقلّ والمكثار، يقول القصيدة اثر القصيدة. أو يسكت حولًا كاملًا. وهو إن نظم الشعر فلخطرة تخطر على باله، أو جيشة تجيش في صدره. وقد ينظمه في خلوته وفي روحه وفي مجلس أدب وظرف يتفق له. حاضر القافية مكينها. معلم اللفظ روعة وسلاسة. أما المعنى فلا يزال في شأوه الأنسب، حتى يقع له دقيقًا صافيًا، لا اثر عليه للكد والإعنات». أما المؤرخ فؤاد افرام البستاني فقال: «... كان أمين تقي الدين في مقالاته المتفرقة، وقصائده المتداولة حفظًا وإعجابًا، أستاذ فن دقيق، ومثال إنشاء صحيح، وقدوة في تفهم هذه المفردات النابضة حياة، المتململة غبطة وألمًا، فغدا أقرب القدماء إلى النشوة الفنية الحديثة، كما كان أقرب المحدّثين إلى المتانة السليمة والصفاء القديم». وشبّه البعض شعره بشعر ولي الدين يكن. والطريف في أمر شاعرنا أنه لم ينشر أي ديوان شعر. ورغم ذلك احتل مكانته بين المبدعين اللبنانيين والعرب. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقلا عن مجلة الجيش اللبناني (العدد ٢٤٠ - يونيو ٢٠٠٥)
مجلة الزهور (*) محمد رجب البيومي وقع في يدي وأنا طالب ناشئ مجموعة شعرية (**) عنوانها (مختارات الزهور)، وهي تضم قصائد معاصرة لكبار الشعراء في العالم العربي مبتدئة بإسماعيل صبري فأحمد شوقي فوليّ الدين يكن فخليل مطران فحافظ إبراهيم إلى أسماء لامعة أخرى مثل أحمد محرم وشبلي ملاط وبشارة الخوري، ونقولا رزق الله، وعبد الحميد الرافعي، وأمين ناصر الدين، وداود عمون والبارودي وشكيب أرسلان وطانيوس عبده، وقد قرأت قصائد المجموعة، وحفظت أكثر ما قرأت، وعرفت عن هؤلاء الشعراء ما حببهم إليّ، إذ أن كل شاعر قد تقدمته كلمة موجزة عن حياته، وصورة شمسية لذاته وكان التعريف بقلم أحد أديبين هما خليل مطران وأنطون الجميل، وقد علمت أن هذه المختارات من مجلة تسمى بالزهور، وهي مجلة أدبية جمعت أئمة البيان في العالم العربي، فتشوقت إلى قراءة أعداد المجلة ذاتها، وزادت رغبتي في هذه القراءة حين وجدت الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول في كلمته عن أنطون الجميل التي ألقاها بمجمع اللغة: (إن مجلة الزهور) أدبية يهذبها الدين، وهاتان النزعتان نزعتا الأدب والدين تجتمعان في الرسالة. وإذن فمجلة الزهور قريبة من مجلة الرسالة التي نشأت في مدرستها الأدبية، مع فارق الزمن المطّرد بين النمو المتوقع للرسالة بعد عشرين عاما، فأخذت أتخيل ما يمكن أن تكون سجلته الزهور في صفحاتها، وأرى بالحدس الواعي أبوابًا عن المقالة الأدبية، وعن البحوث التاريخية، وقصصا وقصائد وتراجم للشخصيات وتراجم أدبية عن الغرب والشرق، هذا ما كنت أره بالحدس الواعي، ثم تفضلت مجلة الهلال فأمدتني بمجموعة المجلة كي أكتب عنها، فتصفحتها على شوق، فرأيت بالعيان ما ظننته بالحسبان، وكنت كما قال عبد الرحمن شكري في بعض قصائده. وكنت كذي حلم رأى طيف جنة ... فلما تمشى في الصباح رآها أجل صدق الحدس وما كذب! وقبل أن أن أخص بعض أبوابها بالملاحظة أقول كلمة موجزة عن صاحبيها الأثيرين: أنطون الجميل، وأمين تقي الدين. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مقال بمجلة الرقيم (٣٠/ ١١/٢٠١٠) عن مجلة الهلال (٨/ ١٩٩٨). (**) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وهذه المجموعة تجدها بآخر الكتاب الإلكتروني الذي بين يديك
أمين تقي الدين مما ألحظه في المحيط الأدبي بعامة أن الأثر الأدبي أو العلمي يكتبه مؤلفان كبيران فينسب على الألسنة لأكثرهما شهرة، وأبعدهما صيتًا، فكتابا البلاغة الواضحة والنحو الواضح ينسبان على الألسنة للجارم ﵀، ويترك زميله مصطفى أمين، وكتاب الوسيط في تاريخ الأدب، وقد ظل مقررا بالمدارس والمعاهد أكثر من ثلاثين عاما ينسب لأحمد الإسكندري ويترك زميله مصطفى عناني، و(مجلة الزهور) تنسب لأنطون الجميل وحده، وهو الذي أنشأها ورسم خطتها، ولكن أمين تقي الدين قد ساعده من السنة الثانية وشاركه الأمل والألم، وكان ولي الدين يكن إذا كتب قصيدة للزهور أرفقها بخطاب يبدأ بقوله عزيزي أنطون تقي الدين فجعل الأديبين أديبًا واحدا، لاتحادهما في الهدف والمشرب، وقد ولد أمين سنة ١٨٨٤ ببلدة (عقلين) بلبنان، ودرس القانون فصار محاميا نابها، وترجم عن الفرنسية كتبا مختلفة ثم دفعه الشوق إلى مصر فرحل إليها ليزامل صديقه الجميّل في تحرير الزهور والقيام على إدارتها، وبعد أن احتجبت المجلة عاد إلى بيروت ليعمل محاميا كعهده من قبل، ثم لقي ربه في عام ١٩٣٧، بعد أن سود مقالات وقصائد عدة، وقد قلت: إنه أتى مصر على شوق طامح ليحمل رسالة الأدب كما تصورها، ودليلي على ذلك مقال رائع حقا نشره بمجلة الزهور قبل أن يقدم إلى مصر بعدة أشهر، أجتزئ هنا ببعضه كما جاء بعدد شباط (فبراير) سنة ١٩١١ م. مصر الأدبية بدأ أمين تقي الدين مقاله بسرد أكثر من أربعين علمًا من أعلام الأدب والعلم والصحافة رحلوا إلى مصر من سوريا فسقطت نجومهم في سماء الوادي ثم تساءل عن سر ذلك قائلا: "لست أدري في طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب، وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أمّ الأدب والمتأدبين، أم هي الحياة، فيها يوحى الشعر، ويُستنْزَل البيان، وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم، خذ أدباء اليوم في القطرين تجد الفرق ظاهرا، أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر، وأدباء سوريا يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين، ... ورب قائل يقول إن أدباء سوريا الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها، فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضا أنه لولا مدنية مصر، ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة، وإلا فلماذا وهم سوريون لم يرقوا بالآداب في سوريا إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر، ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسوريا نهضتهم في مصر، ولكن مدنية سوريا لم تكن عونا لهم في عملهم الشاق، فوقفت هذه النهضة في منتصف الطريق". لست أسوق هذا القول لأؤيده أو أعارضه، ولكني أصور به مشاعر أمين تقي الدين حين هاجر من لبنان ليكون صاحب رسالة أدبية في مصر، وقد وجد من صديقه الكبير أنطون الجميّل صدرا رحيبا، ففسح له مجال العمل إدارة وتحريرًا، وظهر أمين تقي الدين بشعره ونثره على صفحات الزهور وعلى غير صفحات الزهور بعد احتجابها، ومن حقه أن نسجل صفحة من جهاده في هذا المضمار ببعض ما قلناه عنه.
أنطون الجميل لا يحتاج أنطون الجميل إلى تعريف موجز كصاحبه، فقد كان رئيسًا لتحرير أكبر جريدة في الشرق، وكان له من وراء ذلك مهابة وتجلة يحفظها له الرؤساء الكبار، إذ يحذرون غضبته، وأذكر أن الأستاذ حافظ محمود روى عنه في كتابه (عمالقة الصحافة) أحاديث قال فيها: "ذات مرة في سنة ١٩٤٠ كان علي ماهر باشا رئيس الوزراء يتحدث في مجلس الشيوخ، وأراد عضو المجلس أنطون الجميل أن يبدي ملاحظة أثناء حديثه، فمد علي ماهر ذراعه في وجه أنطون بإشارة تدل على أنه لا يريد أن يسمع واستاء انطون فانسحب بهدوء من كرسي السكرتارية متجها إلى مجلسه بدار الأهرام، فأحس علي ماهر أن الرجل قد غضب، فلم يكتف باسترضائه تليفونيا، أو أن يرسل إليه رسولًا، بل ذهب إليه بجريدة الأهرام مع جميع أعضاء مجلس الوزراء ليبدي اعتذاره، يقول الأستاذ حافظ محمود: وقد سألت أنطون: ماذا كان سيفعل لو لم يعتذر له رئيس الوزراء على هذا النحو، فقال: لا شيء كنت سأمحو علانية جلسة مجلس الشيوخ التي تكلم فيها علي ماهر فلا أنشر شيئًا عنها بجريدة الأهرام". هذه الكبرياء المحببة أمام الرؤساء يزينها تواضع جم أمام المغمورين من الشباب، حدثني الأستاذ محمد السيد شحاته، وكان مدرسًا بالمرحلة الأولى الأولية (حينئذ) أنه جمع من شعره الذي كان ينشره في الأهرام بتوقيع (شاعر البراري) قدرًا يسيرا في كتاب، وذهب خجلا إلى أنطون الجميل ليكتب مقدمته، فقابله مرحبا مبتهجًا. ونشر مقدمة حافلة عنه في جريدة الأهرام قبل أن تتصدر بها المجموعة الشعرية، وهذا ما عجب له الأستاذ محمد عبد الغني حسن حيث قال لشاعر البراري: إنه يعرف نفرًا من كبار شعراء مصر قد توسلوا للجميل كي يكتب مقدمة فاعتذر! أضيف إلى ذلك نظرة حانية له حيث كان يحتفل بنتاج الصغار من الناشئين ليظهر في أكبر صحيفة يومية، فقد قال الأستاذ محمد الحناوي وكان يشرف على صحيفة الآداب والعلوم والفنون بالأهرام، إن الجميل قد قال: إذا جاءتك قصيدة لشاعر مغمور، ورأيت في أبياتها ما يصلح للنشر، فاختر منها ودع المشهورين، لأن الناشئ سيفرح كثيرًا حين يجد اسمه مقرونا بشعره في الأهرام، وذلك أكبر دافع لخلق جديد! لو أردت أن أكتب جميع خواطري عن هذا الإنسان ما اتسع المجال، ولكن فيما أوجزته ما يقدمه خير تقديم!
لقد ولد الجميل في بيروت سنة ١٨٨٧ م، وتعلم في الكلية اليسوعية، وحذق العربية والفرنسية على وجه تام جعله أدبيا ممتازا في اللغتين، وعين مدرسا في مدرسة القديس يوسف، ثم محررا أدبيا بجريدة البشير، واتسعت آماله فهاجر إلى مصر سنة ١٩٠٩ ليحرر في الأهرام، وليعين موظفا بوزارة المالية قسم الترجمة، وبعد عام أصدر مجلة الزهور، وكان لها هدف واضح في ذهنه عبر عنه في افتتاحية العدد الأول، وقبل أن أشير إلى ما قال، أذكر أن الجو الأدبي بمصر حينئذ كان عامرًا بمجلات مماثلة كالمقتطف والهلال والبيان وسركيس، ولكن المقتطف كانت إلى اكتشافات العلم الأوروبي أقرب، والهلال كانت تحفل بالتاريخ وتراجم الأفذاذ في الغرب والشرق، وأكثر ما ينشر فيها بقلم صاحبها جرجي زيدان، أما مجلة سريكس فكانت ترضي عشاق النوادر والأفاكيه والقصص المسلية وتقف عند ذلك إلا ما ندر، بقى البيان وهي مجلة مظلومة لم يتحدث عنها أحد بقدر ما يكشف عن رسالتها، وقد أخرجت طائفة من الكبار كعباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري ومحمد السباعي ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم من المشاهير وكان صاحبها المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي فدائيا أكبر الفداء، حيث باع ما ورثه عن أبيه الثري في سبيل المجلة مضحيا بكل نفيس! وجاءت الزهور لتزايل البيان في رسالتها، ولكن الفرق بين المجلتين أن الزهور قد اهتمت بأدباء العرب في الأقطار المختلفة فتألق على صفحاتها نفر ممن صاروا أعيان الفكر في هذا الأمر، أما البيان فقد اقتصرت على الشبيبة الناهضة في مصر في أكثر ما نشرت، وهذا الاتجاه نحو العالم العربي هو ما أعلنه الجميل حين قال في افتتاحية العدد الأول بعد حديث ممتع شاق: "يفهم القارئ مما تقدم مجمل موضوع هذه المجلة فهي تعلل النفس بأن تكون صلة تعارف بين كتاب العرب في كل الأقطار، وذلك بنشر ما تجود به قرائحهم الوقادة من النفثات الرائقة، وفتح الباب وسيعا بوجوههم ليتباروا فيه في موضوعات مختلفة، وسننشر تباعا رسوم حملة أولية الأدب، ونفتح بابا للتراسل والتباحث فيما بينهم، وبالإجمال نتوخى كل ما له علاقة بالحركة الفكرية وما يهم الأدباء الاطلاع عليه ولا حاجة إلى القول بأننا سنقتصر في هذه النشرة على الأدبيات والفنيات مبتعدين عن السياسيات والمذهبيات".
أما أبواب المجلة كما حددها الجميل في الافتتاحية فكما يلي: (١) باب للمقالات التي يدبجها مشاهير الكتاب (٢) باب للشعر مما تجود به قرائح فحول الشعراء، (٣) باب (جنائن الغرب) وهو ترجمات عن الآداب العالمية في الغرب (٤) باب في حدائق العرب تنشر فيه صفحات مطوية من خير ما جاء في التراث العربي (٥) باب أشواك وأزهار، وهو خاص بالنقد أدبيا وعلميا بقلم أديب متفنن يريد أن يكتم اسمه وقد كان التوقيع الدائم لهذا الباب هو (حاصد) من الحصاد الذي يعقب نضج الثمر، ويخيل إليّ أن (حاصد) هذا هو الجميل نفسه، إذا كان لا يريد أن يكون ناقدًا صريح الاسم مجاملة لبعض من قد يسيئهم النقد (٦) باب حديقة الأخبار وهو إيجاز لما يحب أن يعلم من الأحداث وتراجم المشاهير من الأدباء (٧) باب التنويه النقدي بالكتب التي تظهر في عالم المطبوعات، وهو شبيه بما يكتبه (حاصد) إلا أن الفرق الجلي بين البابين أن الأول يواجه الأخطاء سافرة، والثاني يمزج التقريظ بالنقد الملطّف إلا ما ندر أيضا، (٨) باب الروايات وهو اختيارات لبعض القصص الأوربية المشتهرة هناك، ثم كرر الجميل ما أكده من قبل، من أن الغاية هي إيجاد صلة التعارف بين كتاب الأقطار العربية، وذكر أسماء من توسّم فيهم العون الأدبي من أعلام العصر. ومن يتبع الأعداد المتوالية يجد صدق ما أكده الجميل في الافتتاحية، بل يجد حرصا دقيقا على اختيار الأجود المستطاب، وقد لفتت المجلة أنظار القراء منذ صدورها فتهافت على مراسلتها أعيان القلم في شتى بقاع العالم العربي، وفي المهجر الأمريكي حيث حفلت بآثار جبران خليل جبران وأمين الريحاني وإيليا أبي ماضي وغيرهم، ولو امتد أجل هذه المجلة إلى أكثر من ثلاثة أعوام لكانت حدثا هائلا في العالم العربي، لأنها جمعت من الصفوة الأخيار من يتعذر اكتمالهم في مجلة شهرية، وذلك بفضل السياسة الحصيفة التي انتهجها الجميل، عن بصر نافذ، وهدف مرموق.
مصر وسوريا . وإذا كان الجميل سوري النشأة وقد كان اسم سوريا يطلق حينئذ على لبنان وسوريا معا قبل أن يتجزأ الوطن الواحد، فإن الجميل قد احتفل بأدباء سوريا احتفالًا بارزًا، وليس معنى ذلك أنه آثرهم على أدباء العراق أو غير العراق ممن فسحت المجلة صدرها لآثارهم، بل معناه أن صلته الشخصية بهؤلاء قد دفعتهم إلى مؤازرته من ناحية، كما دفعته إلى المبادرة بنشر ما يستطيبه من ثمارهم، وأذكر أنه أفرد عددا ممتازا بالسنة الأولى خاصا (بمصر وسوريا) وقد قال في افتتاحيته: إنه أنشأ هذه المجلة لتكون رابطة بين أدباء الأقطار العربية، وأنه اغتبط حين عُرفت (الزهور) بهذا الاتجاه، ومُيزت به على سائر المجلات فأصبح يراسلها العدد الكبير من أدباء من أدباء مصر والشام والعراق والجزائر ومراكش، لذلك فإنه يصدر هذا العدد السنوي الكبير خاصا بمصر وسوريا ليكون مقدمة لأعداد تالية. وبعد إفاضة شافية في إيضاح العلائق بين مصر وسوريا، أعلن أن العدد إن كان قاصرًا على الأدبيات فهو مقدمة لما سيتلوه! والحق أن كل ما جاء بالعدد عن مصر وسوريا من الحقائق نفيس مختار على أكمل وجوه الاختيار، وقد ابتدأ بحديث مصر، فنقل شذرات مفيدة لأساطين الباحثين مثل العلامة أحمد كمال مدير متحف الآثار العربية، كما نشر قصيدة ممتازة لإسماعيل صبري تحت عنوان (فرعون وقومه) وهي شهيرة ذائعة ومطلعها: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يومَ تحصيل العلا وان وأتبعها بقصيدة شوقي في هيكل أنس الوجود ومطلعها: أيها المنتحي بأسوان دارًا ... كالثريا تريد أن تنقضا ومقطوعة ثالثة لعبد الحليم المصري مطلعها: وقف عليك دموعي أيها الطلل ... عيني عليك وقلبي للألى رحلوا وبعد الشعر جاء حديث البحث والتحقيق، فنشرت المجلة ترجمة لما قاله هيرودوت عن النيل، يليها مقال أدبي عن وفاء النيل لعله بقلم الجميل، ثم وصف للأزبكية بقلم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر المتوفى سنة ١٢٥٠ هـ وحديث عن الأوبرا بقلم فارس الشدياق.
وفي القسم الخاص بسوريا، كتب الأستاذ فيلكس فارس مقالًا ضافيا عن تاريخها، أعقبه حديث مترجم عن بيروت ولبنان كتبه شاعر فرنسا الأشهر لامارتين، ثم قصيدة لمعروف الرصافي تحت عنوان (ذكرى لبنان)، فمقال عن شمال لبنان بقلم الأستاذ أمين الجميل، وقصيدة عن (هنين) للشاعر المعلوف، وبحث عن طرابلس الشام للشيخ المغربي، أما حلب الشهباء فقد كانت قلعتها التاريخية مجالًا لحديث علمي دقيق كتبه القس جرجس منسن، يليه حديث عن الجامع الأموي بدمشق نقلا عن الرحالة ابن جبير الاندلسي، وبعد ذلك فصل بارع عن تدمر وملكتها العظيمة زنوبيا، وهو على قدمه الزمني من أحسن ما قيل عن المدينة والملكة معا فقد تتبعت حديث تدمر في فصول كثيرة تالية كان حديث الزهور قلادتها على إيجازه، أما الشعر الخاص بسوريا فقد نظمه شعراء مطبوعون مثل الأمير نسيب أرسلان، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وفي القسم الثالث مقالات وقصائد عن الصلة بين مصر وسوريا هي من أجود ما نضح به اليراع لأعلام أفاضل مثل داود بركات وحافظ إبراهيم وعبد الحليم المصري! وقد ختم العدد بحديث عن الحركة الأدبية في سوريا .. ولعل هذا العرض الموجز يكفي في الدلالة على نفاسة هذا العدد، وتقديره أدبًا وروحا واتجاها وحميّة! المطارحات الشعرية . من أحسن ما امتازت به مجلة الزهور ما اهتمت به من المطارحات الشعرية بين كبار الملهمين، إذ كان في تجارب القرائح الصافية مبعث لخواطر دافقة تجيش بالأحاسيس الصادقة، وكأن دوحة ناضرة يشدو على غصن منها طائر مغرد، فيجيبه صنوه على فرع آخر بما يدل على صادق المواساة، فتكون لهذا التجاوب المتبادل رنات مشجية في نفوس القراء. لقد كتب الشاعر عبد الحليم المصري الضابط بالجيش قصيدة شاكية بمجلة الزهور، تصف حال الأديب في مصر، وما يلقى من ضنى على مهاد الجوع والحرمان، جاء فيها: لا كنت لي يا أدبي حرفة ... إن كان من يعليك قدرًا يضام مصر بنا ضاقت فما حالكم ... في أرضكم يا شعراء الشآم؟ هل أنتمو في أرضكم مثلنا ... ترون سُحْب الجود تبدو جهام وما كاد هذا السؤال الحائر (ما حالكم في أرضكم ياشعراء الشّآم؟) يدوّي في آفاق القطر الشقيق حتى تواكب الشعراء من كل صوب يجيبونه هاتفين، فقال الأمير نسيب أرسلان من قصيدة: يابازني الجيش غداة الصدام ... من علّم البيزان سجع الحمام هيّجت يا مصريّ شجوى وما ... أحلى جوًي أذكيته في العظام يا عاتبا حينا على خطه ... قبلك كم من عاتب في الأنام وقال الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف: قد ضاق للشعر بمصر المقام ... وانتابه العقم بأرض الشآم أبناء سوريّا ترد الصدى ... وتندب الشعر بدمع سجام قد ضاقت الدنيا على شاعر ... حتى تمنى أن يحين الحمام ومما قال الأستاذ (ف. نصار) من لبنان: ياشعراء النيل لا تجزعوا ... قد صافحتكم شعراء الشآم لا كنت لي يا وطني مسكنا ... إن كان فيك الحر خُلْقا يضام أو كان هذا الخط لا ينجلي ... ما أضيق العيش وأشقى المقام وجاء من البرازيل فايز سمعان وهو لبناني الأصل يقول: يا بلبل الشعر عليك السلام ... شآمنا مصر ومصر الشآم مالك بالقطرين من منهل ... ولي وراء البحر طاب المقام فلتحترف غير القريض وقل ... يا دولة الشعر عليك السلام
ومن المطارحات الشعرية النادرة ما عارض به أحمد شوقي قصيدة الحصري الذائعة: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟ حيث ما كادت الزهور تنشر معارضة شوقي: مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحّم عوده حتى انبرت قصائد أخرى على صفحات الزهور قالها إسماعيل صبري وولي الدين يكن ونسيب أرسلان، ودواوينهم مشتهرة فلا مدعاة للاستشهاد. وقد ألِف شعراء الزهور أن يقوموا بمثل هذه المطارحات في صفحات كثيرة بالمجلة، بل إن الجميل أخذ يبحث عن طرائف هذه المطارحات لينشر منها ما لم يسبق نشره، فقد نظم محمود سامي البارودي قبل خمسة عشر عاما من إنشاء الزهور أبياتا خاطب فيها شكيب أرسلان لمناسبة استشهاد الأمير ببعض شعر البارودي، وقال فيها: أشدت بذكرى بادئًا ومعقبا ... وأمسكت لم أنبس ولم أتقدم وما ذلك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به، لكن تهيبت مقدمي فطار شكيب إعجابًا بشعر البارودي ورد عليه بقصيدة طويلة قال فيها: ألا كل يوم فيك وجد كأنها طوي ... جانحا مني على نار ميسم حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالروضة الزهرا، أليّة مقسم لألفيت عندي دوس مشتجر القنا ... وخوضي في حوض من الطعن مفعم أقلّ بقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذلك المقام المعظم وامتدت المطارحات مثنى وثلاث ورباع، ونشرها الجميل جميعها في مجلة الزهور، ثم أعاد نشرها في المختارات بالقسم الأخير. أما الذي طرب له القراء طربا شديدا فمطارحات صبري وشوقي وحافظ، حيث نظم صبري قصيدة مطلعها: لو أن أطلال المنازل تنطق ... ما ارتد حرانُ الجوائح شيق فجاوبه شوقي بقصيدة مطلعها: أما العتاب فبالأحبة أخلق ... والحب يصلح بالعتاب ويصدق وقفى حافظ بثالثة قال في مطلعها: سكن الظلام وبات قلبك يخفق ... وسطا عليك حنين هم مقلق وقد نشرت جميعها بمختارات الزهور، كما أنها مسجلة بدواوين هؤلاء. هذا الاهتمام العريق في نفس الجميل بلطائف المطارحات يدل على روح شاعرة، تجلت في نثره. إذ كان شاعرًا دون قافية أو زن، ومقالاته بالزهور أكبر شاهد على ما أقرر، وما بي أن أستشهد فأطيل. مطارحات نثرية . ليست مطارحات بالمعنى الدقيق، ولكنها مناقشات جادة، دارت على صفحات المجلة في مسائل مختلفة ولعل قضية المرأة كانت أهم هذه المسائل، لأن وفاة قاسم أمين قد أعقبت جدلًا امتد إلى سنوات حول ما أثاره في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وكان من اللافت للنظر أن بعض الفضليات من الكاتبات لم تشأ أن تتجاوز دعوة قاسم في التربية والتعليم إلى ما فهمه المتسرعون والمتسرعات من الدعوة إلى التبرج والاختلاط ومحاكاة الغربية في السهرات الحافلة والرقص اللاهي، وهذا ما حذرت منه فضليات الكاتبات على صفحات الزهور، وقد ابتدأت به الآنسة الأدبية (هدى كيورك) بالعدد الثامن (أكتوبر سنة ١٩١٠) حيث قالت: إن الذي فهمه نساء اليوم من التقدم العصري هو (المودة) المتحضرة في مشابهة الغربيات ملبسا وسلوكا، فالفتاة لا تقنع بحياة والدها المتواضع بل تطالبه بما فوق قدرته، واستنزفت عرق جبينه لتصبح مترفة مرفهة، تقول الكاتبة الفضلى عن هذه (المتمدنة):
"نفختها روح الكبرياء، فظنت نفسها أرفع قدرا من والديها، فجاءت إليهم متحكمة آمرة، فإذا لم يتموا رغابئها خشنت أخلاقها، وأوقعت الاضطراب بالمنزل غاضبة على هذا، ومستهزئة بتلك، فإذا رزقت بمولود رمت به إلى المراضع منصرفة إلى زينتها ولهوها، وأنفت أن تستعمل وسائل التطريز والحياكة". وكانت الكاتبة صادقة حين قالت: "نحن لم نتشبه بالغربية إلا في مادة (المودة) وحدها، لماذا لا نأخذ عنها نشاطها وجدها، وتعلقها بلغتها؟ هل رأينا فتاة أوربية أتقنت لغة أجنبية قبل لغتها؟ أما نحن الشرقيات فنرى أن لغة الأجنبي دليل التقدم، والغربية بذلك تستخف بنا وتسخر". مقال حار النفس، ملتهب اللهجة، دفع بعض القارئات إلى معارضته، فكتبت الآنسة ادماكيرلس من بيروت تقول في العدد العاشر: "إن الآنسة هدى أصابت في كل سطر من سطورها أخواتها وبنات جنسها بسهام حادة إذ أجادت وصف صاحبات اللهو والزينة، وتركت الكثيرات ممن تحلين بالفضائل، فكم من امرأة تضحي بصحتها وتحرم نفسها من كل ملاهي الحياة لتسهر على حاجة منزلها وتربية أولادها، وهي حين تتبع (المودة) تعتدل دون إسراف، أما تقليد المرأة الغربية فالذنب في ذلك يرجع إلى الرجال فهم يعظمون لابسات البرنيطة. والمتكلمة بلغة أجنبية والمقلدة للغربية في حركاتها ومشيتها، فعلى الرجال أن يمدوا يد المساعدة لنا، لنرافقهم في طريق الفلاح ولا نكون عبئا ثقيلا عليهم". ولم تسكت الكاتبة الأولى عما وجه إليها من مآخذ لا تراها صحيحة في مضمونها، فاندفعت الآنسة (هدى) إلى الرد بمقال مستفيض نشر بالجزء الحادي عشر يناير ١٩١١ م فأثنت على الكاتبة وقالت: "إنها لا تعارض الزينة المعقولة، ولكن المندفعات بالنسبة إلى المعتدلات كثرة كاثرة واللاتي يضحين بملاذّهن في سبيل سعادة الأسرة من المتعلمات عدد قليل لا يبلغ عشرة في المائة بالنسبة للاهيات، وقد ضج الآباء في سبيل ردع اللاهيات دون جدوى، وكم من أب يترحم على العهد الماضي حين يري ما يشاهد من التبذل، ونظرة إلى الجرائد السيارة التي تضج من ذيوع الترف الكاذب، والانغماس في حمى التقليد الضار ترينا الدليل القاطع .. ". ومن هذا الوادي ما نشر بالعدد التاسع تحت عنوان (المقيَّدات) وهن اللاتي يسرفن في الأناقة وتضييق الخطو في الطريق تحت ثقل القبعات المليئة بالزهر، والثياب المضغوطة بالحزام، والحذاء الضيق ذي الألم المحتمل لأجل المظهر، حتى أصبحت الفتاة من هؤلاء ترسف رسف المكبل بعد أن كانت تسرع كالحجل". وقد أوحي هذا المقال الناقد للشاعر الإسكندري خليل شيبوب قصيدة متهكمة نشرت بالعدد التالي، تحدث فيها عن المرأة المتصونة في القديم فأطراها إطراء مشجعا. ليكر على أختها المسرفة في الزينة فيقول: قم بي أريك الآن كيف تغيرت ... تلك العهود وبدلت تبديلا وتشوهت تلك الخدود وأصبحت ... تلك النهود بما حشين تلولا قد ضيقت خصرا يذوب وعرّضت ... كفلًا بتنفير النفوس كفيلا ومشت مقيدة الخطى فكأنما ... (ركب الكمى جواده مشكولا) وتكاد تسقط إن رنت وإذا مشت ... شِمْتَ الأسير مصفدا مغلولا
أما النقدات العلمية فما أكثرها، حيث حفلت بها مباحث المعلوف والأب إنستاس ماري الكرملي، وقد رمز لاسمه بتوقيع (سانستا) وما كنت أعلم أنه الكرملي لولا ما أشار إليه الأستاذ روفائيل بطي خاصا بتوقيعاته المتعددة فيما كتبه بمجلة الكتاب (مارس سنة ١٩٤٧) ومن بينها (سانستا) ولو كان التوقيع (أنستا) فقط لقلنا إنه مرخم (أنستاس) على غير قياس؛ وهم سادتنا اللغويون يحللون ويحرمون، وبحوث الزهور اللغوية والأدبية ذات طرافة بالنسبة لزمانها، وهي الآن من المطروقات! طرائف شتى . طرائف الزهور أكثر من أن تحصر، ولابد أن يعرف عنها قارئ هذا المقال قليلًا من الكثير الذي تزدحم به، ومن أطرف ما قرأته بالجزء الثاني ص ٨٥ أن صاحب الزهور أعار الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي كتاب (الريحانيات) لأمين الريحاني، وقال له مزكيا إن الريحانيات شقيقة النظرات، فقرأ المنفلوطي الكتاب وأرسل إليه يقول: "قرأت الريحانيات الذي أعارنيه صديقي أنطون الجميل، فلم أجد فيه من اللغة العربية إلا حروفها دائما، ومفرداتها غالبا، وجملها نادرا، فلم أحفل بذلك كثيرا، لأني وجدت فيه من سمو الخيال الشعري، ودقة المسلك النظري، ما استوقفني ساعتين كاملتين، وهي المرة الثانية التي وقفت بها هذه المدة أمام كتاب عصري منذ أعوام بعد كتاب روح الاجتماع) ". ووجه الطرافة يتضح من قول المنفلوطي إنه لم يجد إلا الحروف دائما، والمفردات غالبا، والجمل نادرا، وهذا يذكرني بما روي عن الفقيه الكبير ابن دقيق العيد حين عرض عليه قول ابن الفارض: ومن كان فوق التحت والفوق تحته ... إلى وجهه الهادي عنت كل وجهة حيث قال: الألفاظ مفهومة دون أن تتصل بالمعنى، ولكن التركيب لا يفهم أبدا، وليس معنى هذا أن الريحانيات شبيهة بأبيات ابن الفارض في نظم السلوك، فهي شيء آخر تماما، ولكن المعنى المقصود حيرة القارئ في ألفاظ يدركها مفردة، ويعجز عن فهمها متصلة! أما الطرفة الثانية، فقد كان من عادة المجلات في أوائل هذا القرن، أن ترسل الأعداد إلى من تتوسم فيهم حب الاطلاع، رجاء أن يتكرموا بالاشتراك، ولكن بعض هؤلاء يتباطأ دون الإرسال، وقد صرحت الزهور في العدد الثاني ص ٨٨ بأنها ترجو الذين لم يفيدوها عن رغبتهم في الاشتراك أن يسرعوا بذلك حين يصلهم هذا العدد! ومضى الوقت دون جدوى، فأرادت أن تنبه القراء إلى شيء مماثل فذكرت في العدد الرابع ص ٢٠٠ أن الدكتور شبلي شميل حين كان يصدر مجلة الشفاء منذ ربع قرن أرسلها للقراء دون أن يتلقى قيمة الاشتراك، وأخذ يطالب القوم حتى أدركه اليأس فاضطر إلى أن يكتب مقالا عن مرضين خطيرين .. والدكتور طبيب- سماهما باسمين أجنبيين، وقال: إن أعراض المرض الأول هي أن صاحبه إذا وصلته مجلة أدبية أو علمية بادر إلى ردها، وكتب عليها كلمة مرفوض، أما المرض الثاني فأشد خطرا، لأن صاحبه يتقبل المجلة إلى آخر السنة، ثم لا يرسل مليما واحدا، وليس الذنب ذنب هؤلاء، ولكنه ذنب أصحاب المجلات الذين يبتلون القراء بشتى الأمراض المستعصية، ولابد أن يتوبوا إلى الله.
والطرفة الثالثة هي أن الزهور احتفلت بالجزء الثالث بتأبين (العشماوي) جلاد مصر الذي يحرك آلة المشنقة فيقع المتهم صريعا، فأهدت صورته إلى القراء كبطل مرموق، وقالت عنه بعد أن ذكرت اختلاف الناس في مهنته بين الاعتذار والوصف بالقوة وغلظ القلب، قالت: كانت الحكومة تنقد العشماوي راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات، وكان يتقاضى عن كل مشنوق خمسة جنيهات أخرى فإذا عرفت أنه قضى ١٥ سنة في هذه المهنة، وأنه شنق ٥٧٦ مجرما تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال على الأعناق ٣٦٠٠جنيه بمعدل عشرين جنيها في الشهر! ومبلغ ثلاثة آلاف وستمائة جنيه، سنة ١٩١٠ مبلغ فلكي! فقد كان ثمن الفدان في بعض الجهات عشرة جنيهات، وفي استطاعة من يأخذ عشرين جنيها في الشهر الواحد أن يشتري فدانين بهما .. فيصبح من الوجهاء. تراجم الراحلين . كان من ديدن المجلات حينئذ أن تكتب تاريخا لكل راحل مرموق من أهل الفكر والسياسة والأدب، نجد شاهد ذلك في المجلات المقتطف والهلال والبيان وغيرها، ولم تشذ الزهور عن ذلك، فقد احتفلت بكثير من هؤلاء، وقد لاحظت أنها خصت الشاعر البائس إمام العبد بكلمات متكررة في أعداد متتالية، فتذكرت أني عنيت بترجمة هذا الشاعر منذ خمسين عاما، فلم أجد غير جمل مقتضبة اجتهدت في صياغتهما، حتى بلغتْ مقالا نشرته بالرسالة بتاريخ ١٢ نوفمبر ١٩٥١، ولكن الزهور فاجأتني بأنباء وطرف عن إمام البؤساء لو وقعتُ عليها حينئذ لاكتسب المقال دسامة حية ليست به، فقد نشرتْ ما أجهل من نثره وشعره معا، كما نشرت بعض ما قيل في رثائه، وقد أبّنت الزهور زعيم الثورة العرابية عند رحيله، ولم تتورط فيما تورطت به بعض الصحف المنافقة، حين هاجمت الراحل الصامت دون حياء، وأنطون اللبق أكبر من أن يهوي إلى نقيصة، وإذا كان لا يتحدث في المجلة عن السياسة الحزبية، فقد تحدث عن السياسة الوطنية مرات، ومن أقوى ما كتبه حديثه عن الوحدة الوطنية حين حدث الشقاق المغرض بين عنصري الأمة عقب مصرع بطرس غالي، فكان الجميل الأديب السياسي المخلص صاحب توجيه عال، ونظر ثاقب عرف يهما حتى آخر يوم من حياته، ولم تقتصر ترجمات الراحلين على الشرقيين وحدهم، بل شملت أفذاذ الغرب مثل تولستوي، ومانويل الثاني وغيرهما. مقالات أخرى . لا نحكم على شيء ما دون تقدير ظرفي الزمان والمكان، حيث إن الزهور حوت من قصص العرب، ومترجمات الغرب ما اشتهر الآن بين القراء بعد أن انتشرت كتب التراث على نحو واسع، وبعد أن ازدهرت حركة الترجمة ازدهارًا يانعا، فإذا كان ما جاء في الزهور عن امرئ القيس والنعمان بن المنذر وعنتره العبسي، وليلى العفيفة وسعد وسعاد، وحرب البسوس، والجامع الأموي وغيرها قد أصبح متعدد المصادر، ميسر السبيل، فإن ظهوره على صفحات الزهور بأسلوبه الأدبي، ومنحاه القصصي في أكثر موضوعاته يعد وثبة من وثبات التوجيه الحي نحو التراث الخالد، وقل ذلك فيما نقلت من مترجمات هيجو ولامرتين، وأدمون رستان، وما عربه الأستاذ عبد الأحد في أعداد متوالية تحت عنوان (نساء شهيرات ورجال عظام)، فكل ذلك عطاء صادف موقعه وغيث هطل على زرع يشتاق الماء.
بلاغة الحذف . لا أعني بذلك ما عرف في علم المعاني خاصا بهذا العنوان بل أعني ما عرف عن صاحب الزهور من اختيارات شعرية ونثرية لكبار الأدباء، يتعمد حذف الكثير مما اتصل بهما، إذ لا يراه ذا توجيه نافع للقارئ يدرك ذلك من يقرأ ما نشر في الزهور ثم يرجع إلى الأصل في الدواوين الشعرية، أو مجموعات المقالات لكبار الأدباء، ولعل أوضح ما أشير إليه في هذا المنحى ما نشره من قصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها: كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم فقد كان النسيب الطويل في مطلعها تمهيدًا لمديح ضاف للخديو عباس، فرأى الجميل -والخديو عباس حينئذ حاكم مصر- أن ينشر الغزل فقط مع أن القصيدة بأجمعها قد نشرت بالجرائد اليومية، وفي هذا الحذف ما يوسع مجال الوشاية عند قوم لا هم لهم سوى الشحناء! والغزل أقل أغراض الشعر عند حافظ، ولكنه في هذه القصيدة بالذات قد تفوق على نفسه، وأرادت الزهور أن تثبت ذلك بما نشرت وحذفت معا، ومما راقني في هذه القصيدة قول حافظ: لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم قالت من الشاكي؟ تساءل سربها ... عني، ومن هذا الذي يتظلم؟ أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تفحم لا السهم يرفق بالجراح، ولا الهوى ... يبقي عليه، ولا الصبابة ترحم وبعد فلعلي أفلحت، أن أقدم للقارئ بعض باقات جمعتها كما اتفقت دون اتئاد صابر، فقد وجدت نفسي أمام طعوم شتى، وكلها رائع معجب، فتناولت ما امتدت يدي إليه، وتحاشيت أن أجهد القارئ بإطالة لا آخر لها، وأنا معذور فيما تركت إذ بات الأمر كما قال الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد!
Неизвестная страница