58
ووفقا لهذا الفهم فإن المفكر لا بد أن ينطلق من إشكاليات جزئية يحاول الإجابة عليها إجابات جزئية لا تدعي الشمول. ويعطينا دولوز أمثلة من هذه الإشكاليات يصيغها على شكل أسئلة كالآتي: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ماذا أستطيع أن أرى؟ ماذا باستطاعتي التعبير عنه؟ ماذا بإمكاني أن أعمل وإلى أية سلطة نطمح، وأية مقاومة يلزم إبداؤها؟ ماذا باستطاعتي أن أكون؟ كيف أولد كذات؟ في هذه الأسئلة - يقول دولوز - لا يشير ضمير المتكلم إلى شيء كلي، بل إلى جملة من المواقع الفردية تشغلها أفعال غير مبنية للمعلوم ولا تستند إلى فاعل؛ فهي مبنية للمجهول ... وأي إجابة كيفما كانت لا يمكن نقلها والقفز بها من عصر إلى آخر.
59
ومن هنا يدعو دولوز لصورة جديدة للمفكر والمثقف، صورة أكثر واقعية وأكثر التصاقا بالحياة «لقد صار المثقف يتقلب اليوم بين أمكنة نوعية وبين نقاط فردية ... لقد بات المثقف قادرا على أن يتكلم لغة الحياة، بدل لغة الحق.»
60
وهو يرى أن ما حدث في 1968م ساهم بصورة قوية في ظهور هذه الصورة الجديدة. في نفس السياق يقول ميشال فوكو محددا أرضية ميلاد هذا الجيل الجديد: «لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي؛ حيث كان على كل نص فلسفي، أو نص نظري ما، أن يعطيك في نهاية المطاف معنى الحياة والموت ومعنى الحياة الجنسية، ويقول لك هل الله موجود أم لا، وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية، وكيف تتصرف مع الآخرين ... إلخ. لقد تكون لدينا انطباع بأنه لم يعد ممكنا اليوم ترويج مثل هذه الفلسفة، وبأن الفلسفة قد تكون في حالة تشتت، إن لم تكن قد تبخرت، وبأن ثمة عملا نظريا يغلب عليه بشكل أو بآخر طابع التعدد.»
61
ويميز فوكو بين «المفكر الشمولي» والمفكر «المتخصص»؛ فالأول يعتبر نفسه مالك الحقيقة والعدالة «ضمير الجميع وممثل الكل»؛ أما الثاني فهو مفكر في «حدود معينة» في «نقط دقيقة» ومجالات ومشكلات خاصة «لا يتمثل عمل المثقف في تشكيل الإرادة السياسية للآخرين؛ إذ بأي حق يفعل ذلك، بل في إعادة مساءلة البديهيات والمصادرات عن طريق التحليلات التي يقوم بها في المجالات الخاصة به، وفي زعزعة العادات وطرق العمل والتفكير، وفي تبديد المألوف والمسلم به، وفي استعادة حدود القواعد والمؤسسات.»
62
ولا يتم هذا - بحسب فوكو - وفقا لنظريات وأنساق كبرى، ولا بأن يتصور المفكر أنه ضمير المجتمع والمتحدث نيابة عن الآخرين. إن ما اكتشفه المثقفون منذ انتفاضة 1968م - يقول فوكو - هو أن الجماهير لم تعد تحتاج إليهم لمعرفة واقعها، إنها تعرف ذلك تماما وبوضوح وبشكل أفضل منهم، لكن يوجد نظام من السلطة يسد ويمنع ويقلل من قيمة هذا الخطاب وهذه المعرفة. سلطة لا توجد فقط في الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق وبدقة في كل شبكات المجتمع. والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءا من نظام السلطة هذا، وفكرتهم القائلة بكونهم أدوات «الوعي» و«الخطاب» تشكل أيضا جزءا من هذا النظام.
Неизвестная страница