اعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى؛ فأما ملك الدين فإنه إذا أقيم لأهله دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم. وأما ملك الحزم فإنه يقوم به الأمر، ولا يسلم من الطعن والتسخط، ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي. وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
إذا كان سلطانك عند جدة دولة، فرأيت أمرا استقام بغير رأي، وأعوانا جزوا بغير نيل، وعملا أنجح بغير حزم، فلا يغرنك ذلك، فلا تستنم إليه، فإن الأمر الجديد مما أن تكون له مهابة في أنفس أقوام، وحلاوة في أنفس آخرين، فيعين قوم بأنفسهم ويعين قوم بما قبلهم، ويستتب بذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشئون إلى حقائقها وأصولها، فما كان من الأمر بني على غير أركان وثيقة، ولا عاد محكم أوشك أن يتداعى ويتصدع.
لا تكونن نزر الكلام والسلام، ولا تفرطن بالهشاشة والبشاشة، فإن إحداهما من الكبر، والأخرى من السخف.
إذا كنت لا تضبط أمرك، ولا تصول على عدوك إلا بقوم لست منهم على ثقة من رأي ولا حفاظ من نية، فلا تنفعك نافعة، حتى تحولهم - إن استطعت - إلى الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة، أو تستبدل بهم إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد، ولا تغرنك قوتك بهم، وإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه وهو لمركبه أهيب.
ليس للملك أن يغضب؛ لأن القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرا في تخوف الفقر، وليس له أن يكون حقودا؛ لأن خطره قد عظم عن مجازاة كل الناس، فليتق أن يكون حلافا، وأحق الناس باتقاء الأيمان الملوك، فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال: إما مهانة يجدها في نفسه، وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عي بالكلام حتى يجعل الأيمان له حشوا ووصلا، وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل منه قوله إلا جهد اليمين، وإما عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير.
لا عيب على الملك في تعيشه وتنعمه إذا تعهد الجسيم من أمره، وفوض ما دون ذلك إلى الكفاة.
كل الناس حقيق - حين ينظر في أمر الناس - أن يتهم نظره بعين الريبة، وقلبه بعين المقت، فإنهما يريان الجور، ويحملان على الباطل، ويقبحان الحسن، ويحسنان القبيح، وأحق الناس باتهام عين الريبة وعين المقت الملك الذي ما وقع في قلبه ربا، مع ما يقيض له من تزيين القرناء والوزراء، وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرا نافذا غير مردود.
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد، ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها.
ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور الرعية فاقة الأحرار منهم فليعمل في سدها، وطغيان السفلة منهم فليقمعه، وليستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. لا يحسدن الوالي من دونه، فإنه في ذلك أقل عذرا من السوقة التي إنما تحسد من فوقها، وكل لا عذر له. لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم على الحرص على رضاه إلا لوم أدب وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه إلا البصير بما يأتي أحدا، فإنهما إذا اجتمعا في الوزير أو الصاحب، أنام الوالي واستراح، وجلبت إليه حاجاته وإن هدأ عنها، وعمل فيما يهمه وإن غفل عنه. ولا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا، يروح به عن قلبه، ويصدر به أعماله. لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل، فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه. وكل الناس محتاج إلى التثبيت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث. ليعلم الوالي أن الناس على رأيه إلا من لا بال له منهم، فليكن للبر والمروءة عنده نفاق، فيستكسد بذلك الجور والدناءة في آفاق الأرض.
جميع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوي سلطانه، ورأي يزينه في الناس. ورأي القوة أحقهما بالبداية وأولاهما بالأثرة، ورأي التزين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعوانا، مع أن القوة من الزينة، والزينة من القوة، لكن الأمر ينسب إلى أعظمه.
Неизвестная страница